الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

معنى القيامة.. من خواطر البابا تواضروس

البابا تواضروس
البابا تواضروس

عندما خلق الله آدم فقد خلقه منفردًا متفردًا متميزًا، خلقه على صورته ومثاله ذا: «ضمير صالح.. قلب طاهر.. عقل متميز».. وهذه الثلاثة تميز الإنسان عن باقى المخلوقات، وكان آدم يتمتع بالعيش فى الجنة مع حواء متمتعًا بالحضور الإلهى الدائم، ولكن بدخول الخطية عن طريق الحية حُكم على الإنسان بالموت، وصار هناك احتياج إنسانى للقيامة، وبتجسد السيد المسيح وموته وقيامته «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِى السَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس 2: 6).

وصرنا بقيامته نتذوق السماء ونحن مازلنا على الأرض وقامت فينا ما تميزت به إنسانيتنا.. وأولها الضمير أى الإحساس بالآخر، فمنذ بدء الخليقة والإنسان يعيش الأنا، يحب نفسه فوق الجميع، آدم الإنسان الأول برر خطيئته وقال لله: الْمَرْأَةُ الَّتِى جَعَلْتَهَا مَعِى هِيَ أَعْطَتْنىً، قايين قال: أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِى (تكوين 4 :9)، ويعقوب سرق بكوريه أخيه، وابشالوم أراد أن يسرق المُلك من أبيه داود، وعندما أرسل الله يونان لشعب نينوى خاف أن يتوبوا فلم يرض أن يذهب إليهم وعاند نداء الله له.

عندما ولد المسيح، أراد هيرودس الملك قتله لئلا يأخذ كرسيه.. وهاجمه اليهود معتقدين أنه ملك أرضى، لكنه أعلن قائلًا: «مملكتى ليست من هذا العالم» (يوحنا ١٨: ٣٦)، وبدأ يضع تعليمًا جديدًا للإنسانية، ثم أراد الفريسيون والصدوقيون التخلص منه، وأخيرًا قام اليهود بالشكاية عليه لأنه يظهر ضعفهم وأرادوا صلبه، وعندما خيروهم بين باراباس والسيد المسيح اختاروا إطلاق بارباس القاتل.

بعد القيامة استيقظ ضمير البشرية فصارت تبحث عن المساعدة، عن العطاء، عن الخدمة، عن الفرح الحقيقى، ضمير يعلى الأخلاق، السلوك، العمل، الاجتهاد، وكما شرح بولس الرسول فى (أعمال الرسل ٢٤ : ١٦) «لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا أُدَرِّبُ نَفْسِى لِيَكُونَ لِى دَائِمًا ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ وَالنَّاسِ». وقد كتب لأهل كورونثوس قائلًا: «لأَنَّ فَخْرَنَا هُوَ هذَا: شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا أَنَّنَا فِى بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ اللهِ، لاَ فِى حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِى نِعْمَةِ اللهِ، تَصَرَّفْنَا فِى الْعَالَمِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ.» (٢ كورنثوس ١: ١٢).

لقد كان السيد المسيح محاطًا بأشخاص يخافون فقط على مراكزهم أمثال بيلاطس البنطى ورؤساء الكهنة، والشعب الصارخ اصلبه اصلبه، والتلاميذ الهاربين، والتلميذ الذى أنكره وغيرهم. أما بعد القيامة اختفت الأنا وظهر الإحساس بالآخر: فصارت المجدلية تبشر وبطرس الرسول يُعلم وتلميذ آخر يستضيف السيدة العذراء فى بيته وشعب يضع كل أمواله عند أقدام الرسل. 

اختفت الأنا وظهر الإحساس بالآخر من خلال مريم المجدلية وسُميت بالمجدلية نسبة الى موطنها الأصلى فى «المجدل» على الساحل الغربى لبحر الجليل، على بعد ثلاثة أميال إلى الشمال من طبرية و«مجدل» معناها فى اليونانية برج مراقبة. كانت بعيدة، مُتعبة مما أصابها، أخرج الرب منها سبعة شياطين وشفاها، ومن تلك اللحظة تبعته من الجليل وشاهدت حادثة الصلب، وكانت واقفة عند الصليب حتى النهاية، إلى أن رأت مكان القبر، كل هذا من بعيد!!!

أما بعد القيامة تغير الوضع، كل التلاميذ كانوا خائفين أما هى وفى فجر الأحد باكرًا جدًا ذهبت إليه حاملة حنوطًا، لذا استحقت أن تكون أول من رأى الرب القائم، وقد صارت أول كارزة بالقيامة ونقلت الخبر إلى التلاميذ والرسل.

مريم المجدلية كانت تحتاج الله فى حياتها، كانت تعيش الظلمة وبعد القيامة لم تصبح فقط تعيش فى النور بل أيضًا تكرز به، لقد استيقظ ضميرها بعد أن كان غائبًا أو نائمًا. إن قيامة الضمير تعنى الإحساس بالآخر فى صور متنوعة منها:

ضمير العمل: الضمير الذى لا يتأثر بالمصالح، الذى يُعلى العام على الخاص، وهو الضمير الذى يجعل الشعوب تتقدم وتحترم الإنسان كيفما يكون.

ضمير السلوك: الضمير الذى لا يتأثر بالشهوة بل إنسان لديه سلوك مستقيم، يميز بين الأبيض والأسود- واضح ولايسير فى الرمادى- يسلك بخوف الله مع كل أحد يتعامل معه.

ضمير الخير: الرحمة والشفقة هى أحد أصوات قيامة الضمير، أن تشعر بأخيك، بجارك، بزميلك فى العمل، حتى بالآخر الذى لا تعرفه، وبقيامة المسيح صرنا نرفع شعار «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ.» (يعقوب ٤: ١٧).

إن القيامة تصاحبها قيامة القلب.. اتساع القلب بالحب للكل.. كل إنسان لا يحمل الله فى قلبه، يكون قلبه ميت ليس فيه حياة لأن الله قال عن نفسه «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يوحنا ١٤ : ٦)، وكل قلب بداخله الله يعيش السماء على الأرض.

الإنسانية بقيامة الرب يسوع أصبح لديها مفهوم «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ» (متى ٢٢: ٣٩) تبعًا لوصية السيد المسيح. «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. (يو ١٣: ٣٤) لأنه مكتوب «هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ». (يوحنا ٣: ١٦).

هكذا صار مفهوم المحبة هو البذل والعطاء والغفران.. مفهوم جديد على البشرية، لأن الخطية كانت قد أخفت هذا المفهوم إذ دخلت الخطية إلى العالم ودنست خليقة الله وصار الإنسان فى حاجة لمن يقيمه، جاء الله متجسدًا ليقيمنا من موت الخطية ليثبت لك يوميًا أن حياتك ثمينة جدًا عنده.. «عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ.» (رومية ٦: ٦).

وبقيامة السيد المسيح تختفى الأنا ويكون هناك إحساس بالآخر؛ فقبل الصلب: كان سمعان بطرس من بيت صيدا عاش فى كفر ناحوم متزوج ويعيش من مهنة الصيد، عاش لمدة ٣ سنوات تلميذًا للسيد المسيح، شخصية مندفعة، أحيانًا يرى نفسه الأفضل.. «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ» (متى ٢٦: ٣٣)، قال لا يمكن أن أنكرك، لكنه قبل أن يصيح الديك مرتين أنكر الرب يسوع ثلاث مرات وقت الصليب (متى ٢٦: ٧٥).

أما بعد القيامة: خجل من السيد المسيح خاصة حين سأله «أتحبنى؟» فكانت إجابته «أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّى أُحِبُّكَ» (يوحنا٢١: ١٧) «عرف حجم نفسه، عرف احتياجه الحقيقى» ثم وفى عظة واحدة كسب ثلاثة ألاف نفس (أعمال الرسل ٢).

وعمليًا: حين دخل الهيكل ورأى على باب الهيكل رجلًا أعرج من بطن أمه جلس يستعطى، فنظر إليه وقال له «لَيْسَ لِى فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِى لِى فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!» فقام ومشى (أعمال الرسل ٣: ٦)

العطاء الحقيقى هو محبة ومساعدة وقبول الآخر مهما كان ونحن سفراء القيامة مطلوب منا أن نحيا باتساع القلب والذى يعنى: الغفران: نقول فى صلواتنا اليومية «وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا». (مت ٦: ١٢) وتصير طبيعة فينا إننا نغفر للمذنبين إلينا.

القبول: نقبل الآخر مهما كان مختلفًا، يونان النبى لم يقبل أن أهل نينوى يتوبون ويعودون إلى الله ولكن الله قبل الجميع.

المحبة: الأب فى مثل الابن الضال (لوقا ١٥) مثال رائع على تقديم المحبة، كما وصفها الكتاب المقدس «اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا» (١ كورونثوس ١٣: ٨). الله حينما أراد أن يصف نفسه كان وصفه «اَللهُ مَحَبَّةٌ» (١ يوحنا ٤: ١٦).

هكذا يكون إنسان القيامة الجديد صاحب ضمير صالح وقلب طاهر وعقل مستنير.. وهكذا تكون قيامة الإنسان.. لقد قام ليمنحنا هذه القوة الجديدة لحياتنا الإنسانية.

ليحفظ الله بلادنا العزيزة فى عزة ورخاء وسلام ويعطى الحكمة والقدرة على مواجهة جميع التحديات، عالمين أن مصرنا محفوظة فى قلب الله الذى قال «مُبَارَكٌ شَعْبِى مِصْرُ» (إش ١٩: ٢٥).

كل قيامة وجميعكم بخير وسلام.