أصواتهن.. مشاهد من «الأدب النسائى» فى إيران
رغم محاولات إيران للانفتاح على الآخر منذ عدة سنوات، والتجديد الملحوظ فى الخطابين السياسى والاجتماعى، سواء فى الداخل أو الخارج، لكن تظل المرأة فى المجتمع الإيرانى هى الانعكاس الحقيقى لوجه الدولة الإيرانية على مر العقود السابقة، منذ بداية الثورة الإيرانية وإلى الآن. فهى المرآة التى تعكس تطور مساحات الحرية الفكرية والثقافية فى الداخل الإيرانى.
فرغم محاولات تمكين المرأة فى العديد من المجالات السياسية والثقافية، لكن ما زال القهر الاجتماعى الذى تنامى تدريجيًا خلال عقود ما بعد الثورة يلقى بظلاله على تفاصيل الحياة النسوية فى إيران، وينعكس ذلك بوضوح على الأدب النسوى، حيث تعانى الأديبات الإيرانيات من سوء الأحوال الثقافية، والسيطرة الذكورية على سوق النشر الداخلية، وتعنت الرقابة حينما يتعلق الأمر بالأدب النسوى، واللجوء فى أحيان كثيرة إلى الفضاء الافتراضى، أو النشر خارج الحدود الإيرانية، كما صرحت بذلك «شهلا لهيجى»، إحدى أهم الكاتبات والناشرات الإيرانيات.
وسنحاول أن نرصد هنا أهم الكتابات النسائية التى لاقت رواجًا خاصًا فى الداخل الإيرانى خلال السنوات السابقة، والتى تُرجمت إلى العديد من اللغات الأجنبية، رغم محاولات النظام الإيرانى والحياة الثقافية المنغلقة نسبيًا أن تضع حدودًا حول انتشار تلك الكتابات أو تأثيرها على الحياة الاجتماعية:
«تعلمت من الشيطان فاحترقت»
رواية «تعلمت من الشيطان فاحترقت»، ترصد تمرد الأقليات فى إيران، للكاتبة « فرخنده آقايى»، وهى من الروائيات الإيرانيات المخضرمات، فعاصرت ما قبل الثورة وما بعدها، ولها شهرة جيدة فى الأوساط الأدبية الإيرانية.
وتنسحب كتابتها على معاناة المرأة الإيرانية خاصة الطبقة المتوسطة، ومحاولتها إثبات وجودها فى ظرف تاريخى معقد فى إيران. تتناول روايتها معاناة فتاة «أرمينية» مسيحية، تقرر الزواج من رجل مسلم، فيقرر أهلها طردها، وبعد زواجها، يتخلى عنها زوجها المسلم، ويتركها للحياة وحيدة مع طفلتها، وتبدأ رحلتها المعقدة والمتداخلة مع مختلف أشكال سيطرة المجتمع الذكورى والدينى، حتى تتمكن من إثبات جدارتها بالحياة، من خلال عملها كعاملة فى مكتبة عامة، حيث لم تجد بديلًا للانتحار سوى التوحد مع الكتب والقراءة. الرواية ترصد صراع الأقليات فى المجتمع الإيرانى، وموقفه المعادى لمجتمع الأغلبية، وكيفية التعامل مع المرأة المسيحية الأرمينية داخل سياق اجتماعى مغلق، لا يعترف إلا بنفوذ الرجل، فضلًا عن كونه مسلمًا. ورغم الهجوم على الرواية فى الأوساط الثقافية المحافظة، فإنها نالت شهرة لا يستهان بها، وأصبحت نموذجًا لأدب المعاناة النسائية فى إيران.
«نصيبى»
ترصد رواية «نصيبى» قمع الحب فى ظل مجتمع متشدد، وقد تُرجمت إلى ٢٧ لغة خلال السنوات السابقة، ونالت العديد من الجوائز الدولية، رغم محدودية نشرها فى إيران.
كاتبة الرواية هى «پرینوش صنیعی»، وهى من الكاتبات الإيرانيات اللائى لهن حضور ثقافى مميز، خاصة خارج إيران، ونتيجة لدراستها علم النفس والاجتماع، وعملها فى مجال التربية والتعليم، أتت روايتها لتتناول قصة واقعية حدثت بالفعل، عن فتاة من أسرة متوسطة الحال، ولكن لها أفكار دينية متزمتة للغاية، تقع الفتاة فى غرام أحد شباب الحى الذى يعمل فى صيدلية بجوار مدرستها، وحينما علم أخوها الأصغر بالقصة، يخبر والديها، اللذين يقرران تزويجها من شخص أكبر منها لا تعرفه، وتترك تعليمها رغم تفوقها، ورغم محاولتها التكيف مع ظروفها الجديدة لكنها تجد معاملة سيئة جدًا من زوجها الذى كان ينتمى لنفس الفكر الدينى، وتنتهى الرواية بحالة إحباط شديد للبطلة، تنتهى بمحاولة انتحار بائسة لم تنجح. الرواية هوجمت وقت صدورها داخل الأوساط الدينية، ومنعت الكاتبة من النشر، وتم التضييق عليها ثقافيًا، مما اضطرها إلى النشر خارج إيران. الرواية تُدين المجتمع ككل بكل تشدده الدينى والاجتماعى.
«أهل غرق»
تتناول رواية «أهل غرق» معاناة سكان الجنوب فى إيران، خاصة مدينة «بوشهر» التى تقع على الخليج، بعد قيام الحرب العراقية الإيرانية بعام تقريبًا. الرواية ترصد وضع المهمشين فى جنوب إيران، وهو تهميش دائم نتيجة لوضع الأقليات العربية فى تلك المنطقة الجغرافية، فى فترة تاريخية وصفتها الرواية بالفترة السوداء فى تاريخ إيران، فى إطار من الواقعية السحرية التى تمتزج فيها الخرافة مع الواقع، فى حياة أسرة إيرانية تحاول النجاة من ويلات الحرب، ولا تجد لها سبيلًا سوى مجموعة من القناعات والطقوس السحرية التى تمارسها نساء تلك الأسرة، الأم وبنتاها فى مواجهة قسوة الواقع وما يصاحبه من فقر وخوف، لتذوب الحدود تدريجيًا بين الواقع والخيال، وتنتهى الرواية هروبًا إلى عالم الخرافة، وكأنه هو سبيل النجاة الوحيد أمام واقع يائس لا مهرب منه.
الرواية استفادت من التراث الإيرانى الضخم من أساطير وحكايات، لتدين به الواقع السياسى والاجتماعى، خاصة أثناء رصدها لمعاناة الصيادين فى ميناء بوشهر، وإهمال الدولة، والتضحية بمجتمع بالكامل لصالح أهواء سياسية أدخلت الجميع فى أزمة حرب استمرت لسنوات طوال بلا طائل.
الرواية طُبعت عدة طبعات، وتمت ترجمتها لأكثر من لغة، وعانت من سطوة النظام فى إيران، بسبب خوضها فى موضوعات محرمة من وجهة نظر القائمين على الثقافة فى إيران، خاصة موضوعات الحرب والتهميش.
مؤلفة الرواية هى «منیرو روانی پور»، وتناولت فى الرواية جزءًا من حياتها، فهى نشأت فى مدينة بوشهر، قبل انتقالها إلى طهران العاصمة، ثم سفرها إلى الخارج، لتحمل الجنسية الأمريكية، ولها العديد من الكتابات والمواقف المعارضة لنظام الجمهورية الإسلامية فى إيران.
إجمالًا، يأتى الأدب النسوى فى إيران معبرًا على واقع متراكم من الأزمات الاجتماعية والسياسية، رغم أنه فى طريقه إلى التغير منذ عدة سنوات، فالنظام الإيرانى أدرك منذ ما يقارب العقد من الزمان، أن حصار المرأة يشكل ثقلًا كبيرًا على المجتمع ككل، وأن الطريق الوحيد لتحسن الوضع الاجتماعى العام، هو منح المرأة مزيدًا من الحرية الثقافية والاجتماعية، ولكن عقود من الحصار لن تزول بسهولة فى عدة سنوات.