تحريك سواكن الكتابة.. الشعر يواجه القصف (ملف)
استعصت غزة على العدو الصهيونى، استعصت على حرب الإبادة والتطهير العرقى، استعصت على صكوك الخزى والعار، تشبثت بأشلاء الضحايا وصرخت ولا تزال تصرخ: سأظل طفلة الحياة، ألدها كل يوم، انظروا، هذه شجرتى مباركة وجذورى قوية، لا أحد يقتلعنى منها.
غزة صديقة الشعر والشعراء، قد تسبق قصائدهم بخطوة أو خطوتين وتبتسم: معذرة يا رفاق، عندى موعد مع عصفورة تحلم. لكنهم يتوحدون بها، وبإصرار على الصمود والتحدى يلتقطون المشهد، يتشبثون بخيوطه الدامية وزواياه الحادة الملتهبة، فى عناق حى بين فعل المقاومة وفعل الشعر.
لا يأتى هذا المشهد كمرثية متكررة من جِراب الماضى، تتحول بقوة الخيال إلى صورة غامضة وأمنية بعيدة المنال، لكنه مغمور بحنين جارف ولهفة تفتح أذرعها له وتعايشه بيقظة روح كفعل وجود متحقق بالفعل على أرض الواقع، يراكم كل يوم صورًا ومشاهد لبطولة شعب ووطن، فى مواجهة محتل بغيض.
اللافت أن فعل المقاومة بكل مشاهده الجسورة الخلاقة استطاع أن يحرك سواكن الكتابة الشعرية، ويوقظ فى اللغة نزوعًا ثوريًا إنسانيًا، ينتشلها من ركام العادة والمألوف، ويضخ فى شرايينها دماء جديدة، فنحن إزاء تحول شامل وعميق فى الثقافة والفكر والسياسة وشتى المرجعيات الإنسانية والروحانية، ينعكس بقوة على شعرية الحياة وطرائق توظيفها جماليًا فى القصيدة، حتى فى النصوص التى تنحو منحى المرثية أو الشهادة، يبدو الشعر وكأنه الصرخة التى تعيد إلينا حقيقة وجودنا، وتنتشله من براثن الفوضى والنسيان.
إنها كتابة تؤسس للأمل، لا مسافة فيها بين الرمز والمعنى، بين فعل الشعر وفعل المقاومة، بين الذات والموضوع.. كتابة لا تتحايل على الحياة باسم مواضعات مقيتة وتوازنات فجة تلعب على أوتار المع والضد، وتدبج تصالحات زائفة بينهما.. فالسؤال الآن ليس مجرد طلقة طائشة فى الهواء إنما هو سؤال مصير وحياة: إما أن تكون ابن كينونتك، تعتز بها وتصونها حتى بدمك، وإما أن تصبح نهبًا لسياسات التهادن والنفاق، ويصبح وجودك مجرد مرادف هش للعدم.
هكذا يحمل هؤلاء الشعراء غزة فى قصائدهم وقلوبهم، يغنون معها، ويبحرون فى الزمن، يشعلون الشموع ويحتفون بمولدها وهى تنهض من تحت الحطام، طفلة فتية تجدِّد الحياةَ وتضرب لها موعدًا أمس واليوم وغدًا.
بهذه الروح يلتصق الشعراء بقصائدهم ، فلا شىء يسبق غزة، هى وحدها معادلة نفسها، تعرف طرق الانتماء، وكيف تصبح حبّة رمل صيرورةَ وجود وحياة؛ كيف تصبح قطرة دم سؤالًا كاشفًا لكل الأقنعة التى تكرس لطمس الحقيقة واللعب بجذورها الضاربة فى الأرض واللغة والدم والتاريخ.. حقيقة واحدة لها وجه واحد ناصع وقوى، ومهما تعددَّت مرايا الوضوح والغموض وتبارى المهرجون على المسرح فى تمييع المواقف والرؤى والتأويل ستظل غزة تصرخ: أنا غزة، هذا ما قلته، وسطرته فى تاريخى وكتابى، لن يمحى، وسيبقى دائمًا مفتوحًا على البدايات والنهايات.