حلاوة الأيام.. حكاياتى مع الأبنودى ونوال السعداوى وبينهما الأمير
- سعيت جاهدًا للقاء الأمير الحسن بن طلال باعتباره واحدًا من المفكرين العرب ذوى الرأى وأصحاب المواقف
- نجحت فى اقتناص حوار طويل مع الخال على غير المتفق عليه
- بسبب سؤال كادت نوال السعداوى أن تقذف بى من شقتها فى الطابق السابع والعشرين
أذكر أننى التقيت، فيمن التقيت خلال رحلة عملى فى ماسبيرو التى بدأت منذ نحو ثمانية وعشرين عامًا، عددًا كبيرًا من الشخصيات التى تركت فى نفسى أثرًا يمكن وصفه بالإيجابى أحيانًا والسلبى فى أحيان أخرى. بعضهم امتدت علاقتى به فصارت صداقة وأخوة، والبعض الآخر كان اللقاء الأول هو الكفيل بأن يكون الأخير بينى وبينهم سواء مهنيًا أو حتى إنسانيًا. بالطبع سأسرد هنا الإيجابى وكما علّمتنا الإذاعة، ستبقى انطباعاتى السلبية تجاه بعض الأشخاص لنفسى ولن أتعرض لها إلا مضطرًا وساعتها سألمح إلى الاسم دون ذكره صراحة.
مع الفدائيين قصص وحوارات
كان لى خلال مسيرتى المهنية شرف التواصل مع عدد كبير من الفدائيين فى منطقة القناة، وقد سعدت بمحاورة عدد غير قليل منهم من بينهم: الفدائى محمد مهران الذى نزع الإنجليز مقلتيه وعاش فاقدًا البصر لأنه رفض أن يخرج على الملأ ليسب مصر وقائدها. كما التقيت عددًا من أبطال منظمة سيناء العربية كالحاج عبدالمنعم قناوى، متعه الله بالصحة والعافية، الذى قابلته فى السويس وهو يقود سيارة ميكروباص ليأكل من عمل يده ويبقى عزيز النفس رغم تقدمه فى العمر، والريس غزالى الذى ألهب حماس المقاومين بأغنيات فرقته «أولاد الأرض»، والمؤرخ الأستاذ حسين العشى الذى أرّخ لكفاح المقاومة الشعبية من خلال كتاباته. كما تشرفت بمقابلة الفدائية البورسعيدية زينب الكفراوى التى كانت تنقل السلاح للفدائيين مخترقة نقاط التفتيش التى كان ينصبها المحتل.
كما أننى سعدت بالتسجيل مع الفدائى السيد عسران الذى ثأر لاستشهاد أخيه تحت عجلات الدبابات الإنجليزية بقنص ضابط المخابرات الإنجليزى ويليامز، أجريت الحوار مع عم عسران فى مستشفى قصر العينى الفرنساوى حيث نال عناية خاصة يستحقها مواطن بدرجة فدائى. للأسف الشديد توفى عم عسران بعد أيام قليلة من الزيارة، ولم يسمع حواره الأخير، لأنه أُذيع بعد رحيله بيوم واحد. هنا أدركت لماذا كان الرجل مقبلًا على الحوار ومتحمسًا خلاله وكأنه كان يترك شهادة صوتية أراد أن تبقى كوثيقة فى أرشيف الإذاعة المصرية، وهذا شبيه بما حدث حين تعافى الخال عبدالرحمن الأبنودى من مرض أصابه وأقلق كل محبيه.
الحوار الأخير للخال
حين اقترب موعد الاحتفال بعيد ميلاد الأبنودى، وأردت أن أنقل صوته لمحبيه لنطمئنهم على حالته الصحية، خشيت ألا تسمح ظروفه الصحية باللقاء. ولمعرفتى بعلاقته المتميزة مع أستاذى وصديقى الكاتب الكبير سليمان الحكيم، وقد أصبح جاره فى الإسماعيلية التى انتقل إليها فى آخر أيامه لطبيعة الجو هناك، طلبت من الحكيم التوسط لى عنده. وبالفعل وافق الأبنودى وقابلنى الحكيم على مشارف الإسماعيلية، وذهب معى لاستراحة الأبنودى. نجحت يومها فى اقتناص حوار طويل مع الخال على غير المتفق عليه. لكن يبدو أن الرجل استملح الأسئلة، وربما قدّر حماسى وتكبدى مشقة السفر ففاض وأفاض، وأذكر أن رئيستى حينها الدكتورة لمياء محمود، وقد كانت عاشقة فن الأبنودى، حمّلتنى السلامات وعلبة شيكولاتة فاخرة قدمتها للرجل باسمها كنوع من الامتنان والتقدير، أذعنا الحوار فى يوم عيد ميلاده واتصلت به لأبلغه بموعد بث المقابلة وأخبرنى الحكيم بأن الخال سمعها وسعد بها. وبعد أسبوع واحد أعدنا بثها لأن الأبنودى كان قد توفى ولم نجد على كثرة حواراته مع الزملاء أصدق من هكذا حوار أطلق عليه البعض الشهادة الأخيرة، كما بادرت «مجلة الإذاعة» بتحويله إلى حوار مكتوب وتفضل رئيس تحريرها خالد حنفى فنشره كاملًا على ثلاث صفحات بمقدمة كتبتها لتناسب حدث الرحيل.
نصيحة الأمير لى
سعيت جاهدًا للقاء الأمير الحسن بن طلال ليس لوضعه السياسى كولى عهد سابق للمملكة الأردنية، ولكن باعتباره واحدًا من المفكرين العرب ذوى الرأى وأصحاب الموقف. وبادرت بالتواصل مع «منتدى الفكر العربى»، مؤسسته الفكرية التى أسسها بعد أن ترك المهام الرسمية. فوجئت بعد عدة أشهر باتصال من الخارج يبلغنى بأنه قد تمت الاستجابة لطلبى وتحدد لى موعد صباح اليوم التالى لمقابلة سموه فى الإسكندرية، حيث سيحضر ضيف شرف على مؤتمر مهم. شددت الرحال إلى الإسكندرية بعد أن راجعت رئيستى السيدة نبيلة مكاوى وعرضت عليها أن أصحبها فى تلك المهمة، فاعتذرت عن الذهاب وشكرت لى مبادرتى وطلبت منى أن أراجع الأسئلة مع شيخ المحللين السياسيين ونائبها فى رئاسة «صوت العرب»، صبرى صبيحة، على اعتبار أنهم كانوا يعتبرون رجل المنوعات غير مؤهل لإدارة حوار سياسى ومع شخصية على هذا المستوى، امتدح أستاذى صبيحة ما عرضته عليه من أسئلة ومحاور للقاء وهممت بالتحرك فى الموعد المحدد للسفر.
استعرت جهاز تسجيل كان موضة فى حينه هو جهاز الدات ليليق بالشخصية وبالحدث ولتكون جودة الصوت عالية تعوض التسجيل خارج الاستوديو، بالمناسبة ثبت فشل هذا الجهاز فيما بعد ورفع من الخدمة وضاعت على الزملاء كل التسجيلات التى احتفظوا بها على أشرطته، وحين التقيت الأمير فى جناحه بالفندق انطلقت فى طرح الأسئلة واحدًا بعد آخر، وبعد نحو سبع عشرة دقيقة توقف جهاز التسجيل عن العمل، أخذت استحلفه بالله أن ينطق لئلا تضيع علىّ الفرصة ويفشل الحوار. ارتبكت وارتبك ياور الأمير وحرسه الذين كانوا يحيطوننا، وأتذكر أننى تصببت عرقًا ساعتها بقدر ما أفرزت منذ ولدت وحتى تلك اللحظة.
أدرك الأمير، برقيه وتربيته الملكية، حرج ما أنا فيه فأومأ برأسه لأحدهم، ثم تشاغل عنى بقراءة كتاب أمامه. وفى دقائق معدودة أحضر الياور جهاز تسجيل صغيرًا من تلك النوعية التى لم نعتد على استعمالها فى الإذاعة، وإنما يستخدمها الزملاء من الصحفيين. عدنا لاستئناف الحوار وانتهى على خير بحمد الله، بعد الحوار حاولت الاعتذار للأمير الحسن، وذكرت أننى بادرت باستعارة هذا الجهاز بدلًا من تسجيلى القديم لأسجل حوارًا بجودة تليق بالشخصية المحاورة. فقال لى الحسن مازحًا وأنا أهم بالمغادرة: «لكى لا تستغنى عن قديمك بسهولة» وصارت تلك حكمة أتمسك بها لدرجة أننى صرت من أولئك الذين يحتفظون بكل قديم حتى ما ثبت عدم صلاحيته أو انتهى عمره الافتراضى من أجهزة وغيرها، فصارت تلك عادة تسبب الاحتقان بينى وبين أهل بيتى فى كثير من الأحيان.
عن الأستاذ وليس معه
أعجبتنى شخصية الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل جدًا وحاولت أن أحاوره، لكنه كان لا يقبل إلا حوارات بشروط خاصة جدًا ومع قنوات معينة ومحاورين محددين. لكننى وفى حياته قررت أن أجرى تحقيقًا إذاعيًا حول شخصيته سميته «هيكل أبيض وأسود» واستغرق إعداده ثم تنفيذه عدة أشهر إذ اعتبرته مشروعًا بحثيًا. وخلال التحقيق كنت محايدًا إلى حد بعيد، إذ حرصت على أن يتحدث عنه المعجبون به لدرجة التقديس كالقعيد والسناوى، والذين يكرهونه لدرجة التفكيك كصافى ناز كاظم والعراقى سيار الجميل. إذ نجحت خلال بحثى فى الجمع بين آراء النقيضين ليظل هيكل عندى، كما هو عند كثيرين غيرى، شخصية جدلية لها وعليها، لكن منصفًا لا يستطيع المساس بقيمته كصحفى صنع تجربته التى خلدت اسمه حيًا وميتًا.
السعداوى كادت تقتلنى
ذهبت يومًا إلى حيث كانت تسكن المفكرة والكاتبة الراحلة نوال السعداوى لأجرى معها حوارًا، أذكر أننى كنت قد تعلمت من أساتذتى ملوك الحوار، أمثال كامل البيطار ونجوى أبوالنجا وأمينة صبرى ووجدى الحكيم وغيرهم، أن تؤجل الأسئلة المفخخة إلى آخر الجلسة حتى يكون المصدر قد اطمأن لك فيتقبل منك فى النهاية ما يصعب تقبله فى بداية اللقاء. وبالفعل طبقت الإستراتيجية مع د. نوال حتى باغتها بسؤال كان معناه أنها تتاجر بفترة اعتقال السادات لها فى حين أن إحدى المعتقلات معها ذكرت لى أنها وشت بها وبغيرها حتى يفرج عنها قبل الجميع.
فهاجت «السعداوى» الداعية لليبرالية وكادت أن تقذف بى من شقتها فى الطابق السابع والعشرين. بعد هذا الموقف بعدة أشهر حدثت لها أزمة مع الأزهر واضطرت إلى أن تترك مصر إلى كندا سعيًا للنجاة بنفسها. ورغم موقفها السابق معى فإننى شعرت بأن من حقها أن تدلى برأيها فى أزمتها وأن يسمع الناس وجهة نظرها بوضوح، واستطعت الحصول على رقمها حيث هى، فنسقت معها ثم حاورتها حوارًا نقلت أخباره بعض الصحف، وأظن أنه كان بابًا لعودتها لمصر بعد ذلك بفترة قصيرة. المهم أننى قررت المشاركة بهذه الحلقة التى سميتها «جلسة حرة مباشرة» فى مهرجان القاهرة للإعلام العربى.
حكت لى أستاذتى أمينة صبرى أن هذا الحوار كان موضع جدل كبير فى لجنة التحكيم بين من يعارض أفكار «السعداوى» ومن يؤيدها، ولكن انتصر فى النهاية رأيهم بالانحياز للمهنة. إذ رأوا أنهم ليسوا بصدد تقييم آراء «السعداوى» وإنما هم يقيمون البرنامج كمادة إذاعية. وانتصروا فى النهاية لى كمحاور، وإن كانوا قد منحونى الميدالية الفضية كنوع من التوافق بين المؤيدين لفكرة محاورة أصحاب الرؤى المتطرفة أو حجب أفكارهم عن المجتمع.
دفتر الذكريات ممتلئ ولا أعتقد أن المساحة تتسع للمزيد، وقد يأتى الوقت الذى أسرد فيه بالتفصيل عن شخصيات حاورتها ونجوم زاملتهم وزيارات قمت بها ومواقف اتخذتها خلال رحلتى مع ميكروفون الإذاعة التى تكاد تقترب من الثلاثين عامًا بعد أشهر قليلة. نعم هى ثلاثون عامًا ولكنها لا تمثل من عمر الإذاعة إلا الثلث فقط، ولا يمثل جهدى المتواضع إلا جهد فرد واحد فى كتيبة كبيرة من الأساتذة والزملاء الذين أحبوا الراديو وعملوا فيه بشغف وفضلوه على غيره، وشعورنا جميعًا بأنه قد أعطانا الكثير، رغم أننا لم نحظ بما حظى به غيرنا فى وسائط أخرى، لكنه الحب الذى يجعلنا نغفر لمحبوبنا تجاهلنا ورقة حالنا.