بيرسا كوموتسي ترد علي اتهامها بتشويه أعمال محفوظ: الترجمة الأدبية تقوم علي نقل ظاهرة ثقافية ولا تحتاج إلي ترجمة كلمة بكلمة
أثار ما طرحه الباحث المترجم دكتور هشام محمد حسن، أستاذ مساعد تخصص فقه اللغة والأدب البيزنطى، قسم «اللغويات التطبيقية» بالجامعة الهيلّينية الأمريكية فى العاصمة اليونانية أثينا، عن تجاوزات في الترجمة اليونانية لروايتي أديب نوبل نجيب محفوظ «الحرافيش» و«أولاد حارتنا». والتي ترجمتها للغة اليونانية الحديثة ضجة واسعة وجدل، ونشر أمس الأربعاء بجريدة “حرف” بعددها الـ 23، ليطرح من جديد قضية “أمانة المترجم” حيال النص الأصلي الذي يترجمه.
وإعمالا لمبدأ حق الرد، “حرف” تواصلت مع المترجمة اليونانية بيرسا كوموتسي، والتي وافتنا بردها علي الاتهامات التي لحقت بها. وإليكم نص الرد كامل.
نص الرد
"الترجمة خيانة". هذه أشهر عبارة تتداول في عالم الترجمة الأدبية. فلطالما ترددت هذه العبارة لبودلير، إن في اللغة العربية أو في اللغات الأخرى لتعبر عن مصاعب الترجمة وإشكالياتها الجمة التي تبلغ أحياناً، مع بعض النصوص، درجة الاستحالة.. فالمترجم الأدبي الذي يعمل بين لغتين يكابد ليفكك نصاً أدبيا ثريا في ما يتدفق فيه، وحافلا بالاستعارات والإشارات والمصطلحات ويعيد بناءه في لغة أخرى.
ولا يخفى على القارىء اللبيب أن الترجمة ليست مدرسة واحدة ولكنها مدارس، وتاريخ الترجمة الأدبية إن في اللغة العربية أو في اللغات الأخرى عرف وقائع وظواهر لا تحصى في تنوعها عكست مصاعب الترجمة ومشكلاتها وإشكالياتها.
لاحاجة بي بالطبع لأن استشهد بتجارب أخرى كثيرة، ولا بصيغ التعريب، مثلاً، التي عرفها تاريخ الترجمة إلى العربية. دريني خشبة حبب المصريين والعرب بأساطير اليونان (هناك من يعتبر ترجمته الجميلة إعادة تأليف لأساطير الحب والجمال عند اليونان؟). هناك عشرات لا بل مئات الأمثلة في تاريخ الترجمة على لغة المترجم وشخصيته وطريقته المختلفة في ترجمة نص أدبي مقارنة بعمل مترجم آخر يترجم النص نفسه. ففي كل مرة يقارب المترجم نصاً أدبيا تتأكد مجددا مقولة أن اللغة الأدبية حمالة أوجه. وعلى المترجم أن يختار ويبتكر وينقص ويضيف ليكون أمينا ومتناسقا مع روح النص وهو يقيم عمارته في اللغة المترجم إليها. لا مكان هنا للمباشرة، وإلا لفاز غوغل اليوم على جميع المترجمين وتوجناه معلماً لنا.
شيء مؤسف أن نضطر إلى العودة بسؤال الترجمة إلى فكرة الترجمة الحرفية، وإلى إدخال لغة أقرب إلى الضجيج منها إلى النقاش الأدبي، بدلا من خوض نقاش متعمق حول الإشكاليات التي لا تحصى المتولدة عن لقاء اللغات والثقافات عبر ترجمة الأدب. مع ذلك يبدو أننا في حاجة ماسة على التذكير بمسألة نعرفها جميعا وهي أن الترجمة الأدبية تقوم على نقل ظاهرة ثقافية ولا تحتاج إلى ترجمة كلمة بكلمة، فهي فن، ولكل مترجم أدواته الخاصة، وبالتالي الترجمة الأدبية ليست عملية ميكانيكية أو شكلية لنقل الكلمات أو العبارات من لغة إلى أخرى بترتيب دقيق، ولكنها نقل المعاني وروح النص وإشاراته، للوصول إلى تلك اللغة غير المرئية التي تكمن تحت السطور، وعلى المترجم الجيد أن يكتشفها ويقدمها بأفضل صورة وبأمانة قدر الإمكان بلغته الخاصة وبإمكانات لغته التي تختلف تمامًا عن لغة النص الأصلي. هذا ما نحتاجه لنقل روح الكاتب الذي غالبا ما يقول شيئا ويعني ما هو أكثر منه. وهذا ينطبق على فن الأدب بشكل عام. ولو شئنا أن نقوم بالترجمة الحرفية، وهي الأسهل، لما أمكننا أن نصون قيمة الأدب. جوجل يتكفل بإنجاز ترجمات حرفية. لكن في عام 1998، عندما صدر الكتاب وكنت أعمل عليه منذ عام 1996، لم يكن هناك إنترنت. وبالفعل استغرق الأمر مني عامين لإنجاز الترجمة، وكان يتطلب قدرًا كبيرًا من الدراسة.
علماً أن نصوص الترجمات الأدبية في دور النشر باليونان تمر بين يدي محرر أدبي يتدخل، وإن بحذر في كثير من الأحيان، ومن دون العودة إلى العمل الأصلي، وذلك بناء على الصورة العامة التي أمامه، فتارة يضيف وتارة يحذف حيث يرى ضرورة يتسق معها العمل الأدبي الذي بين يديه من دون أن يحرف المعاني، أو يخالف العمل بأي حال، وهذا أمر عرفته أفضل الترجمات الأدبية في لغات العالم.
أثار صدور "أولاد حارتنا " بترجمتي اليونانية انتباه القراء إلى الادب العربي، وفتح الطريق أمام 23 كتابًا آخر لنجيب محفوظ في اليونان؟. وليس هذا فحسب، بل مهد الطريق للأدب المصري والعربي عمومًا. حتى اليوم تمت ترجمة أكثر من 70 مؤلفًا عربيًا، والعدد في تزايد مع كل عام وهذا أمر مبهج.
استقبلت الترجمة من قبل القراء والنقاد وعلماء الأدب بحفاوة كبيرة، وهذا دليل على قيمتها، لاسيما أن القراء اليونانيون متطلبون، ونقديون! و عدد قراء كتب محفوظ يزيد على عشرة آلا ف قارئ. ولم يحدث شيء كهذا لكاتب أجنبي آخر، عربياً كان أو غربياً،. كيف يمكن لنجاح كهذا أن يتحقق لولا جودة الترجمة؟
وليس من قبيل المصادفة أنني حصلت على "جائزة كفافي" الدولية عن الترجمات من العربية للكاتب الكبير نجيب محفوظ، في عام 2001 والتي منحتها لجنة مكونة من عشرة أعضاء من خبراء الترجمة الأكاديمية، من بينهم رئيس قسم الدراسات اليونانية بجامعة القاهرة آنذاك). وهو نفسه كان مترجم عظيم للأدب اليوناني القديم والحديث، البروفيسور محمد حمدي إبراهيم، الذي قام بفحص دقيق لترجماتي بناءً على اللغة "المصدر"، ولغة التقديم، وصحة الترجمات وجودتها، ومنذ ذلك الحين تمت إضافة جوائز أخرى. من كلا البلدين.
فزت بأكثر من سبع جوائز أدبية، وحصلت مؤخرًا على جائزة من أكاديمية أثينا. وهو ما يجعلني أعتز بهذا التقدير والتكريم ويشجعني على مواصلة مسيرتي في خدمة الثقافتين العربية واليونانية.
لن أتوقف عن أداء عملي كما كنت أمارسه منذ 35 عامًا، ولن أستسلم للتشهير والتهديد ولن ادخل في سجال مدرسي صغير مع أحد، ففي الستينيات من عمري، وبعد مسيرة رائعة في الأدب وحوار الثقافات التي كرست نفسي لها، لن أقبل من أي شخص أن يشكك بقيمة عملي.
أنا فخورة جدًا بما أنجزت طوال خمسة وثلاثين عامًا، لم أتوقف لحظة واحدة عن التكريس لفني في الترجمة رغم مصاعب العمل ومصاعب الحياة ووعورة الطريق أمام الأدب العربي في اللغات الاخرى، هناك مترجمون مصريون من الأقسام الأزهرية للدراسات اليونانية في القاهرة يعرفون طبيعة ومستوى هذا العمل منذ سنوات، وجميع مراحل مسيرتي المهنية ، ومن بين هؤلاء الآن زملاء درسوا ترجماتي، بينما كانوا لا يزالون طلاباً. وفي اليونان يوجد مترجمون من أصل مصري ويونانيون يعملون معي، وكان معظمهم طلابًا عندما بدأت التعامل مع الترجمة الأدبية. لقد تعلموا من ترجماتي، وقد ألهمتهم، والآن هم أنفسهم مترجمون رائعون للأدب العربي واليوناني. هذا هو الإرث الذي أتركه خلفي. وتكفيني نظرة هؤلاء التقديرية إلى عملي.
نجيب محفوظ بالنسبة لي ليس مجرد كاتب أدب أترجمه، إنه أكثر من ذلك بكثير، ثمة ارتباط ثقافي وروحي في علاقتي به، وهذا الارتباط هو ما حملني ليس فقط على ترجمة أدبه إلى لغتي الأم، بل وكتابة عمل أدبي روائي "نزهة مع نجيب محفوظ في شوارع القاهرة" يعبر عن شغفي بمدينتي الأولى، مدينة نجيب محفوظ، وباللغة الأم الثانية لي. ثمة ارتباط عاطفي عميق لدي بمصر واللغة العربية لكوني ولدت ونشأت في عاصمة عربية عظيمة هي القاهرة.
أخيراً، في تاريخ الأدب تتكرر الترجمات وكل ترجمة جديدة تضيف خيارات جديدة على الترجمة السابقة، وقد تزيحها جانباً. فقد أدت وظيفتها، وفعلت فعلها في تاريخ الأدب، وكان أجدر بمن خرج من جادة الرصانة الأدبية إلى جادة الضجيج الإعلامي أن يقوم، بدلا من ذلك، بعمل ترجمة جديدة، تتفوق على ترجمتي التي قمت بها قبل ثلاثة عقود (ولربما لو قيض لي أن أعيد ترجمتها اليوم لأضفت وأبدلت وجئت بجديد)، فما من ترجمة خالدة ما دامت الأجيال تتغير واللغات نفسها تتطور على الدوام وتبدل معها الذائقة اللغوية.
أثينا في 14 -6-2024
الترجمة" عملية معقدة داخل النص وخارجه، ولا تتم فقط على مستوى الكلمات والعبارات، ولا ينبغي أن تكون موضوع دراسة تقوم على المقارنة أو التباين بين نصين (الأصل والترجمة)، بل ينبغي أن تكون كذلك يتم فحصها على أنها تفاعل عملي بين المؤلف والمترجم وقارئ الترجمة. النصوص الأدبية هي أعمال تواصل وليست مجرد أكوام من السمات اللغوية". وبناء على وجهة نظر الأستاذ المشارك في الكتابة الإبداعية والأدب اليوناني الحديث، والمدير والمسؤول العلمي لبرنامج الماجستير في دراسات "الكتابة الإبداعية" بجامعة ويسترن مقدونيا وبرنامج الماجستير المشترك بين الجامعات في دراسات "الكتابة الإبداعية"، السيد كوتوبولوس تريانتافيلوس، الذي يتوافق تمامًا مع آرائي وطريقة إدارة ترجماتي، وأنا أقتبس مقتطفًا من مقالتي الخاصة حول ترجمة الأعمال الأدبية، خاصة من اللغة العربية