بولا.. عندما وقفت نادية لطفى ضد شارون
يرحل الإنسان بجسده ويبقى، وتبقى سيرته وعمله الذى يخلد ذكره أبد الدهر فى سطور التاريخ، عمر سينمائى ممتد قطعته فاتنة الشاشة المصرية «نادية لطفى»، التى صعدت روحها العذبة التواقة إلى رحيق الحرية والكبرياء، الذى يناسب موهبتها الكبيرة فى التمثيل، الثلاثاء كان هو يوم الوفاة، 4 فبراير 2020، وميلادها فى الثالث من يناير من العام 1937، رحلت ولديها سيرة فنية فريدة لا تشبه أحدًا من مجايليها ولا الفاتنان/ الجميلات منهن، فهى «ليدى السينما المصرية» عن جدارة واستحقاق، بفضل روحها الشفيفة وسحر جمالها وأدائها التمثيلى الديناميكى المنفتح على التأويل والمؤدى لرؤى احترافية، و«نجمة الأفلام الكلاسيكية» فى زمن «الفن/ السينما» الجميل كما يطلق عليه.
عُرفَت نادية لطفى، أو بولا محمد مصطفى بأداء كل الأدوار ولعب كل الشخصيات، البسيطة منها والمركبة، إنها الرومانطيقية الأثيرة بأداءات تخلب الألباب، الحالمة فى «السبع بنات»، وهى الفتاة الشعبية الشرسة فى «أيام الحب»، والمناضلة فى «جيوش الشمس».
وقد جسدت النسوية بتجلياتها المرعبة فى «عدو المرأة» و«للرجال فقط»، وهى أيضًا الراقصة المحترفة فى «بديعة مصابنى» و«الإخوة الأعداء»، والشابة الفاتنة فى «أبى فوق الشجرة» والغازية فى «قصر الشوق»، والمرأة اللعوب، أو فتاة الليل فى «رجال بلا ملامح» و«السمان والخريف»، وهى نفسها «الحلوة نادية لطفى» التى سحرت بجمالها الأخاذ عبدالحليم حافظ برموشها وخشونة صوتها، وهى تتبختر فى دلال وتيه أم الكاميرا، ووقع فى هواها «الدنجوان» رشدى أباظة، وغرق فى عشقها حتى الثمالة فى سلسلة أفلام اتسمت بالرومانسية فى أجمل معانيها.
مارست «بولا محمد شفيق» الشهيرة بنادية لطفى العديد من الهوايات بدأت بالرسم، ثم التصوير الفوتوغرافى والكتابة إلى أن اتجهت إلى التمثيل بعد اكتشاف المنتج «رمسيس نجيب» لها، وأسند إليها دور صحافية فى فيلم «سلطان»، وتوالت بعده الأعمال والبطولات والأدوار المختلفة التى قدمتها الراحلة، والتى تصل إلى أكثر من ٧٥ فيلمًا، من أشهرها فيلم «الناصر صلاح الدين، السبع بنات، الخطايا، السمان والخريف، أبى فوق الشجرة، بين القصرين، للرجال فقط»، منزل العائلة المسمومة، الأقمر». وغيرها من الأعمال التى لا تزال قابعة فى ذاكرة المشاهد المصرى والعربى حتى الآن.
الذى لا يعرفه الكثيرون عن «نادية لطفى» أنها كانت صاحبة مواقف وطنية وسياسية تؤكد صدق انتمائها إلى مصر بصفة خاصة والعروبة بصفة عامة، وذلك من خلال عدة مواقف تكشف عن معدنها الأصيل وحسها السياسى المتطابق مع قوامها الفكرى الاجتماعى والسياسى، فنادية لطفى ليست مجرد فنانة عظيمة وإنسانه نبيلة ومثقفة فحسب، لكنها كانت مصرية وطنية من طراز فريد جدًا، وتاريخها كله حافل بالنضال السياسى، وخير شاهد على مواقفها المشرفة من بداية العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦، حيث استغلت «نادية لطفى» حبها التصوير، فسجلت ٤٠ ساعة تصوير فى القرى والنجوع المصرية لتجمع شهادات الأسرى فى حربى ١٩٥٦ و١٩٦٧، وأعربت عن ضيقها من إهمال نشر صورها مع الجنود على الجبهة آنذاك لرفع الروح المعنوية فى صفوفهم.
وحول جرائم الكيان الصهيونى المحتل، قامت بعمل فيلم بعنوان «جيوش الشمس» سجلت من خلاله شهادة الجنود المصابين والجرحى عن الحرب داخل مستشفى قصر العينى مع المخرج الكبير شادى عبدالسلام.
كانت «نادية لطفى» مسئولة اللجنة الفنية أيام حرب الاستنزاف، وبحكم هذا الموقع قامت بمبادرات عديدة لدعم قواتنا المسلحة فى هذا الظرف العصيب من تاريخ الوطن، فقد قامت بتنظم زيارات على الجبهة لرفع الروح المعنوية لدى الجنود، ومن هنا فقد ضربت أروع الأمثلة فى تحريك الرأى العام وتوعية الشعب بظروف قواته المسلحة التى كانت تستعد لمعركة استرداد الكرامة والعزة فى العبور العظيم فى أكتوبر ١٩٧٣، وفى أثناء حرب أكتوبر المجيدة أكدت روحها الوطنية العالية وإيمانها العميق بالجيش بتطوعها فى التمريض، وبالفعل تخلت عن أى ارتباطات فنية وتفرغت للعمل التطوعى، ونقلت مقر إقامتها إلى مستشفى قصر العينى أثناء فترة الحرب بين الجرحى؛ لرعايتهم والشد من أزرهم ورفع روحهم المعنوية.
وبعد أن تحقق النصر قالت: «أصبت بانهيار عصبى وهبوط فور سماعى خبر عبور قواتنا المسلحة خط بارليف وتحقيق النصر، لأنى لم أصدق وقتها أننا انتصرنا»، وفى حوار سابق لها قالت: «معرفش أحب الرؤساء.. الحكام رجال بلا ملامح، ولا أتعامل معهم بمنطق الحب والكره.. ماليش دعوة بالحاكم أنا برصده وبشوف أعماله، وعلى أساسها أحط له الأرقام وأقيمه»، وذلك انطلاقًا من إيمانها الشديد بأنه لا بد أن يكون للفنان دور وطنى فى خدمة مجتمعه، وهذا ما أكدت عليه عام ٢٠١٧، حين استنكرت قرار الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، رغم اعترافها بأنه «غير مفاجئ».
فى سبعينيات القرن الماضى، أنتجت «نادية لطفى» فيلمًا تسجيليًا بعنوان «دير سانت كاترين» وأنفقت عليه ما يقرب من ٣٦ ألف جنيه مصرى، وهذا كان مبلغًا كبيرًا وقتها، وأصابها الإحباط عندما عرض التليفزيون المصرى شراءه بألف جنيه فقط، ولأن الوطنية وروح العروبة تسرى فى دمائها، فقد شكلت وفودًا من الفنانين على نفقتها الخاصة لمؤازرة ودعم فدائيى الثورة الفلسطينية فى اليمن والجزائر، ويذكر أنها قضت أسبوعين كاملين فى لبنان عام ١٩٨٢ أثناء حصار بيروت، وهذا خير دليل على هذا الانتماء، حيث انخرطت فى صفوف المقاومة الفلسطينية أثناء الاجتياح الصهيونى لبيروت وطاردها الموت هناك أكثر من مرة، لكنها استطاعت أن تُسجل وتصور بكاميراها ما حدث أثناء فترة الحصار ونقلته لمحطات تليفزيون عالمية.
ولعل قصة «نادية» مع السفاح شارون تؤكد روحها التواقة للحرية، فيحسب لها أنها كانت ضمن المحاصرين فى بيروت عام ١٩٨٢، وكان شارون يستعد قبلها بفترة لمجزرة جديدة ضد الفلسطينيين، لكن هذه المرة كانت ثأرًا شخصيًا جراء فقدانه إحدى خصيتيه، بعدما أطلق عليه أحد رجال المقاومة النار فأصابه فى مقتل، لكنه نجا بأعجوبة، وعاد لينتقم لرجولته التى فقدها إلى الأبد، ووسط المشاهد الدموية وقفت نادية لطفى فى شجاعة تصور وترصد لتفضح جرائم السفاح ورجاله، وتذيع على العالم ما فعله شارون بالشعب الأعزل.
ولم تكتف بفضح جرائم الكيان المحتل، فقد ظلت مقاومة من طراز رفيع فى وجه المحتل الغاصب للتراب المقدس فى فلسطين، فقد كتبت الصحف والقنوات وقتها «كاميرا نادية لطفى رصدت ما قام به السفاح الإسرائيلى»- يقصد هنا «شارون»- بل إن المجتمع الدولى وصف كاميراها الجريئة بأنها «مدفع وجهته نادية لطفى إلى صدر «شارون» ذلك المتغطرس بفعل قوة الآلة العسكرية الإسرائيلية التى راحت تستبيح الأرض والعرض والشجر وبيوت الفلسطينيين أصحاب الحقوق التاريخية على هذه الأرض المقدسة.
ومن المحطات التى لا تنسى لبولا.
زيارتها الرئيس الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» أثناء فترة الحصار الصهيونى، وهى بذلك تعتبر الوحيدة التى زارت أبوعمار أثناء فترة حصاره، لذا كرمها الرئيس الراحل «عرفات» بعد ذلك، حين جاء بنفسه إلى منزلها وأهداها «شاله» تقديرًا لمواقفها العروبية، وبعد زيارة أبوعمار لها اعتذرت «نادية لطفى» عن دعوة التكريم التى تلقتها من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تقديرًا لدورها فى دعم القضية الفلسطينية، وقالت: «يسعدنى المشاركة فى أى حدث يدعم القضية الفلسطينية التى أراها قضية كل العرب، لكنى فخورة بالتكريم الذى نلته من الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات، الذى جاء بنفسه إلى منزلها بالقاهرة، ويهديها شاله كرمز للصمود والمقاومة للشعب والأرض فى فلسطين، احتفظت نادية لطفى بمكتبتها الخاصة بـ٢٥ شريط فيديو لوقائع حقيقية عاشتها بنفسها وقت الحصار الصهيونى للمقاومة الفلسطينية، وتأكيدًا على وعيها بالقضايا العربية/ المركزية فى تاريخ الأمة العربية، وبعدها فى العام ٢٠٠٣ قررت إعداد كتاب وثائقى يسجل الحروب التى تعرض لها العالم العربى، بداية من عام ١٩٥٦ حتى عام ٢٠٠٣، مرورًا بحرب ١٩٦٧، و١٩٧٣، بل أظهرت ووثقت فيه الهجمات الأمريكية والبريطانية على العراق، وألحقت بالكتاب حديثًا مطولًا، عن دور الفن فى غالبية الوقائع والأحداث التى تعرضت لها مصر، بالإضافة إلى دور الفن فى الحروب، وما هو دور الفنان/ الممثل فى كل ذلك، وكذلك دور الفنانين والفن المصرى والعربى فى تدعيم القضايا الوطنية.
وتتوج رحلة كفاحها فى عام ٢٠١٨ بجائزة الدولة التقديرية فى الفنون، ثم كان خير التتويجات فى ٢٠١٩، حيث منحها الرئيس الفلسطينى محمود عباس «أبومازن» وسام «نجمة القدس»، وهى طريحة الفراش بمستشفى المعادى العسكرى لتزين صفحتها الفريدة فى عشق الوطن والفن والفكر، وتقديرًا لمسيرتها الفنية الطويلة فى السينما والدراما العربية ولمواقفها المشرفة حيال قضايا الأمة العربية، وتبنبها وصهرها الكلى والواضح والحقيقى لقضية فلسطين، بعيدًا عن أى مزايدة أو نفاق.
نادية لطفى لم تكن ممثلة مصرية عبرت من بوابة الزمن ومضت إلى حال سبيلها مثلها مثل كثيرات برعن فى عالم التمثيل وحققن المجد والشهرة فى الفن، بل كانت مثالًا وقدوة للفنان والمبدع الحقيقى وللشخصية الوطنى المهمومة بقضايا شعبها وأمتها، والتى قلما يجود الزمان بمثلها، خاصة فى أيامنا العصيبة تلك وسط النيران المشتعلة المنتشرة للتطبيع والتصهين وفقد الهوية وضياع وتفكك للقومية العربية.
«نادية لطفى» قدوة أكتر من كل الذين يفرضون علينا الآن فى غيبة من وعينا، من أولئك الذين تطاردهم فلاشات التصوير، ووسائل التلميع على جناح الزيف فى ظل مجتمع يستولى عليه حفنة من الجهلاء ومعدومى الموهبة والوطنية، وتقديمهم على أنهم قدوة ومثل لشبابنا، لذا كان ودى أن تنال الراحلة العظيمة من التكريم فى حياتها بما يوازى موهبتها الفنية العظيمة، وتلك المواقف الوطنية فى حياتها، فى شكل تكريم رسمى من الدولة المصرية على رحلة عطاء وحب وإخلاص بلا حدود.
وأخيرًا أتمنى على التليفزيون المصرى والفضائيات الخاصة، أن تقوم بعرض صور نادية لطفى مع الجنود على الجبهة، فهى تستحق أن تحققوا لها رغبتها القديمة والمستمرة، والتى طالما تمنت وطالبت بأن تعرض صورها وهى تقوم بدعم الجنود ورفع روحهم المعنوية، ولم لا يتم عمل حلقات وحلقات تحكى عنها وعن مواقفها الوطنية المشرفة؟! فقد أحبت كل اللى حبوا مصر بلا مقابل، ونحن عشقنا فيها مصر التى أحبتها من كل قلبها، وفاضت مشاعرها من أجلها على الشاشة وفى الشوارع وبين جموع الشعب المصرى وجنوده البواسل.. ألف رحمة ونور عليكى يا حبيبة مصر والعروبة كلها.