الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

اكتشاف كنز لغوى مجهول عمره 73 سنة.. أمثال شعبية وتعابير عامية أصلها «فُصحى قديمة»

الصعيد
الصعيد

راجع إيد ورا وإيد قُدّام..

هذا التعبير الشعبى الدارج، واحد من الأمثال أو التعبيرات التى يرددها الناس منذ زمن بعيد حتى الآن دون أن يعرفوا أصلها وفصلها، التى سيتبيّن لك فور قراءة هذا الكتاب «العامية فى ثياب الفصحى: بلاغتها، أمثالها، خصائصها»، أن لها أصلًا قديمًا، سواء كان مستخرجًا من أحداث التاريخ، أو من بطون كتب التراث العربى القديم، ما يعنى أن المصرى العادى البسيط قد يتكلم أحيانًا بالحكمة على عواهنه، ويعبّر عن نفسه بلغة دارجة يظن هو نفسه أنها عامية، وهى أفصح من شعر المتنبى أو الفرزدق!

الكتاب الصادر عام 1951، الحائز على الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية للعام نفسه، بمثابة «كنز لغوى» مجهول عمره 73 سنة. 

مؤلف الكتاب، هو سليمان محمد سليمان، أستاذ اللغة العربية بمعهد التربية للبنات فى الزمالك، الذى يكشف لك ما لم يكشفه طه حسين أو العقاد من أسرار ودقائق العامية. ويقدم لقرائه كتابًا شبه مدرسى، يصلح أن يُدرس لطلبة المدارس الثانوية فى أيامنا هذه، لو تنبهت له وزارة التربية والتعليم، أو أعادت «هيئة قصور الثقافة» طباعته، على الأقل.

الصفحة الثالثة والعشرون من العدد الرابع والعشرين لحرف

«سليمان» الذى يبدو من خلال ما أورده من أمثلة فى الكتاب أنه أحد أبناء مركز الصف، جنوب الجيزة، يفتتح كتابه هذا على طريقة المؤلفين القدامى، بلغة عربية ظاهرة الفصاحة، قائلًا: «لقد أفنيت زهرة الشباب فى توسّم ألفاظ اللغة العربية، عاميها وفصيحها، وجعلت من عينىّ وأذنىّ شرَكا لكل تعبير عامى، لأدرس الصلة بينه وبين الفصيح».

يضيف: «بدأت ذلك فى الشباب الأول يوم اشتريت (القاموس المحيط)، وشغلت نفسى بقراءته وتدّبر أمره. كلما مررت بكلمة منه قيّدت على هامشه ألفاظ العامية، وبعض حِكمها وأمثالها، فعقِلت ضوالها وقيّدت أوابدها. ومنذ بضع عشرة سنين، عكفت على كتب اللغة، (القاموس، وأساس البلاغة، والمصباح المنير)، أُنقّب فيها وأغوص وراء اللهجات الفصيحة، ثم أكسو العامية شيئًا فشيئًا ثيابها العربية الأصيلة».

ولكن، ما الذى دفع المؤلف أن «يُفنى زهرة شبابه» لكتابة مثل هذا الكتاب الفريد؟

يقول سليمان: «إنما دفعنى إلى هذا الجهد، أننى أعتقد ألّا سبيل إنهاض اللغة العربية حتى تكون لغة المدرسة والمحكمة والسوق والمنزل، إلّا بدراسة العامية وعقد الصلات بينها وبين الفصحى، والتزام الكُتّاب والمُعلمين والمؤلفين كل لفظ صحيح فى العامية يشيعونه بين الناس، حتى يأنس أهل اللغة العربية إليها، حتى يزول الوهم من رءوس العامة والخاصة أن اللفظ لا يكون عربيًا إلّا إذا كان بعيدًا عن العامية».

«مفارقات» لغوية طريفة

يؤكد الكاتب، أن «الكناية»، أى التعرّض للمعنى دون التصريح به، هى أبلغ ضروب العامية، وأن الباحث فى لهجاتنا يرى بوضوح أن العامة شُغفوا بالكناية «وافتنّوا فيها أبلغ افتنان»، حسب تعبيره، ونوّعوا أشكال الكلام وأساليبه، وأتوا من ذلك بالعجب العُجاب، الذى لم يرد له مثيل فى لغة الفصحاء من أهل الجاهلية والإسلام.

هنا، نتوقف أمام «مفارقات لغوية» طريفة يرصدها المؤلف بدقة، عندما يلاحظ أن كثيرًا من ضروب الكناية التى دوّنت فى العصور الإسلامية المختلفة، كانت تُمثّل أحوالًا خاصة بالمتحدّثين فى هذه العصور. إذا ذُكرت فى عصرنا لم تحمل معانيها التى كانت لها فى السابق.

ومن ذلك، تعبير «ابن الطريق» مثلًا، التى كان يُستخدم فى العصر العباسى للتعبير عن «ابن الزنا». لكن هذا التعبير فى عصرنا الحاضر هو كناية عن «المُريد» الذى يسلك طريق الصوفية.

وتعبير «طويل اليد»، كان يُراد به فى العصر الإسلامى الأول الكناية عن شدة الكرم، أى أن يد الشخص تمتد بالجود والسخاء إلى أوسع مدى. ولكن هذه التركيبة اللغوية تم تحريفها فى عصور لاحقة بشكل غيّر معناها تمامًا، فأصبحت «إيده طويلة»، أى أنه حرامى! 

غير أن هناك تعبيرات عامية أخرى هى- فى الأصل- تعابير عربية أصيلة بعضها مأخوذ من القرآن الكريم، مثل قولهم «فلان لاوى وشه علينا»، أى أنه غاضب منهم أو متكبر عليهم. وذلك تعبير أصله فصيح، وإن تغيّرت ألفاظه إلى الدارجة، وهو مشتق من قوله تعالى «ولا تُصعّر خدكَ للناس»، أى لا تُعطهم جانب وجهك تكبرًا عليهم أو ازدراء لهم عندما تراهم. و«الصعار» فى أصله اللغوى، مرض يصيب الناقة فيجعلها تلوى عنقها.

الـ«فرخ» أصله «ابن الحرام»

من عادة الصعايدة فى قرى محافظة قنا وحواليها إذا ما تشاجروا مع بلدياتهم من أبناء نفس المنطقة، أن يشتم الواحد منهم غريمه بلفظ «يا فرخ». وهذا التعبير الذى قد يبدو لك غريبًا ولا معنى له، مأخوذ- حسب المؤلف- من لهجة أهل المدينة المنورة قديمًا، عندما كان يعنون بـ«فرخ» الشخص ابن الحرام!

أما تعبير «يا عمر» الذى قد تسمعه فى الأفلام القديمة، وتحديدًا خلال مشاهد «الردح» المتبادل فى خناقات سيدات الأحياء الشعبية، مشفوعًا بتصرف عدوانى آخر هو «فرش الملاية اللف»، هذا التعبير عُرف أول الأمر أثناء العصر الفاطمى، عندما حكم الشيعة الإسماعيليون مصر زمنًا، وحاول بعض خلفائهم تشويه أسماء بعض الصحابة، رضى الله عنهم، ومنهم الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، رضى الله عنه. وهو تعبير لم يعد متداولًا فى أيامنا الحالية.

وإذا كان الرجل كثير التجارب، واسع الحيلة، عارفًا ببواطن الأمور، قال عنه أجدادنا إن «نابه زارق»، وليس كما يُشاع خطأ فى الوقت الحاضر أن «نابه أزرق». 

وأصل هذه الكلمة فى الفصحى جاء من «زرق بالمُزراق»، وهو نوع الأسلحة، أى رمى به. والمعنى المقصود: حذار أن تقترب من مثل هذا الشخص حتى لا يصيبك منه ما لا يسرّك، لأنه يعرف كل شىء، وقد تنالك منه «عضة» تؤذيك!

وكنت أسمع أقاربى من كبار السن فى القرية، وهم من أصول عربية، يقولون إذا سُئل أحدهم عن شخص ما لا يعجبهم تصرفاته، ولا يسلك سلوك الرجال، إنه كذّاب وهجّاص أو «ظرّاط»، بمعنى أنه «فنجرى بق» يقول ما لا يفعل. 

وإن سُئلوا عن أبيه أو أخيه مثلًا، قالوا هو «أظرط منه». وهذا التعبير ليس عاميًا فى الأساس، بل هو مأخوذ من المثل العربى القديم: «شهاب الدين أظرط من أخيه»! 

«سيب النعجة ياخروف»

كان أهل القاهرة القدامى إذا رأوا امرأة تسير فى الشارع مع رجل غير زوجها، يقولون بصوت عال: «سيب النعجة يا خروف». 

تعبير من هذا النوع ربما تظنه مجرد شتيمة دارجة، لكنه طالع من بطون كتب اللغة، فقد كان العرب القدماء كما ورد فى كتاب «الأغانى» للأصفهانى يتحاشون ذكر المرأة صراحة فى كلامهم، غيرةً منهم على نسائهم. بل يكنون عنها بألفاظ كثيرة منها «النعجة». وهناك تفسير يرى أن الآية الكريمة «إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة»، مقصود بها أن الأخ له ٩٩ امرأة، وليس لأخيه سوى واحدة فقط. 

ويقول العامة، وفق المؤلف، عن الرجل المُعدم شديد الفقر إنه «قاعد على الحديدة»، أى لم يعد فى منزله شىء سوى «الحديدة» التى يضعها وراء باب بيته ليُحكم إغلاقه خوفًا من دخول اللصوص، وها هو أخيرًا «يقعد عليها» لأنه لم يعد يجد غيرها، ولا يخشى اللصوص! 

وهناك تعبير عامى آخر يُستخدم فى وصف هذه الحالة «الفقريّة» المستعصية، هو «فلان لا وراه ولا قُدّامه». وهو يشبه قول أبى الطيب المتنبى، شاعر العربية الأول: أقمتُ بأرضِ مصر فلا ورائى.. تخبّ المطى ولا أمامى.

ومن أكثر التعبيرات الشعبية طرافة «فلان راجع إيد ورا.. وإيد قُدّام»، كناية عن أنه عاد من سفر أو مشوار ما بائسًا مفلسًا، وليس معه شىء. وهو تعبير ليس أصلًا فى الفصحى، بل يستمد أصله هذه المرة من التاريخ.

والحكاية، أنه فى أواخر عصر المماليك، حصل انفلات أمنى واسع النطاق، سببه تراجع دور السلطة المركزية، وضعف قبضة الأمن «الدرك» على مقاليد الأمور، فكان من الطبيعى أن تنتشر حوادث السرقة بالإكراه فى الطرق العامة، خصوصًا فى أثناء الليل.

وكان لصوص ذلك العصر يستخدمون لفظ «التقشيط» إذا ما سرقوا شخصًا ولم يتركوا له أى شىء، بما فى ذلك ملابسه، وهو وصف كان متداولًا حتى عهد قريب لتسمية اللص «القُشاط». وكانت نتيجة ذلك أن يعود الضحية المسكين إلى بيته خجلانًا من عُريه، ويمشى واضعًا إحدى يديه وراءه والأخرى قُدّامه، لكى يستر عورتيّه، من الخلف والأمام!