«عمى أبيض».. رواية مروة سمير تعري المجتمع باستنطاق الذاكرة والهوامش
تطرح مروة سمير فى افتتاحية نصها «عمى أبيض»، الصادر عن دار «دوِّن» حديثًا، حركة درامية سينمائية متوترة، وكأنها تحقق النص ذاته فى افتتاحيته، فى حركة درامية تصاعدية، تمثل، بترميز موازٍ للنص، البنية الدرامية لهذا النص.
تتأمل شخصية يكشفها النص من بدايته ماضٍ مبهم، وأمومة موازية لتجربة الأمومة السابقة، المقترنة بمفهوم السلطة الأبوية كجزء منه، فتشمل الشخصية فى تلاحمها مع ماضيها ثنائية «الظهور» و«الاختفاء»، تتأمله عن بُعد، فى لحظة الحاضر، لتتحول السردية السينمائية من الحركة الدرامية الهادئة للتأمل فى الجملة السردية الأولى إلى حركة متوترة.
يكشف تلك الحركة راوى ينضح بذاتيته فى سردية ضمير الأنا، فتقف فى لحظة زمنية مرتبطة بالماضى، كإعادة بناء وتقديم مفهوم إنسانى وفلسفى هو الماضى وعلاقة الإنسان به، ومؤاخاته بالزمن، ذلك المحتل النص كسؤال دلالى، وليس كفضاء زمنى معتاد.
البنية الدرامية
فمن افتتاحية النص تتأمل الشخصية العجوز «سوزى» كتناقض وثنائية مع طفلة، حيث «جدة/حفيدة»، و«عجوز/طفلة»، وتتأمل أيضًا ما يشبه التناص، فالاثنان يتهمان بالانحراف.
تتهم تلك الشخوص بالانحراف مع ممارسة سردية مروة سمير لفعل التعرية، من خلال شحذ الذاكرة، كسؤال مرتبط فى تجريدته بالزمن، وفى بنية النص الدرامية بأسئلة أخرى عديدة.
يفتتن ذلك النص بمفهوم الذاكرة، يحتفى الكاتب الضمنى به كفعل مُؤاخَى مع الزمن، خاصة أثر الماضى على الإنسان، فتشحذ الراوية من ذاكرتها، يستنطق النص فعل الذاكرة، ويقتفى الهامش، فى محورين أولهما هامش العالم، وثانيهما هامش النص.
تؤكد الشخصية «ليلى» هامشيتها، تضفرها مع تشييد شخصيتها والبناء الدرامى المنزوى عن المركزية، والمحول الهامش كمركز: «أدركت منذ سنوات عديدة أننى البطلة الثانوية فى الحياة، الشاهدة على تغيرات ومغامرات الآخرين».
كذلك تعنى البنية الدرامية بالهامش، فتطرح من الذاكرة مشاهد عابرة، فتتحول أحيانًا لمركز المتن، فيتحول لأحد أساسات البنية الروائية للنص، ذلك الطارح بين ثنائية «الخاص/العام»، رؤية لمفهوم المجتمع.
يستقرئ النص المجتمع، ويمارس التعرية فى تهميشه كخلفية للهامش شخوص النص، ذلك الهامش الرابض فى تتبع الذاكرة، كمفهوم موازٍ للزمن، وكمفردة كلاسيكية توائم بين السردية وبنيتها الكلاسيكية، تلك التى يتجلى فيها مفهوم الأمومة كنتيجة درامية.
هنا، تحضر الأمومة بهيئتها الشاعرية كفعل مناقض للمعتاد، فالابنة قاتلة، إذن تلك الثنائية: «الأم/الابنة» هنا مغايرة، هنا أيضًا هامشية، حيث تبدأ كمركز ومحور للمتن، ثم تختفى وسط مفهوم أوسع بين براثن الذاكرة، هو المجتمع والنشأة والسلطة الأبوية، ككل، وعلاقة الإنسان بها.
الشخصية المركزية «ليلى» مهمشة فى محورها الأول: العائلة، والثانى: العلاقات الإنسانية، فتنضح العلاقات الإنسانية وبنيتها هنا كترميز يمارسه التخييل، بمساحة فضاء تأويلى تقترن بما يمارسه النص من طرح ثلاثية هى: الزمن والذاكرة والمجتمع، الرابض به مفهوم الأمومة، ليبحث عن محض هامش، مبتعثًا من ضمير الأنا، والذات المهزومة، والذاكرة الحزينة المفضية، فى افتتاحية النص، لتوتر إنسانى ومجتمعى جديد.
يتجلى «التضمين» باستخدام فن موازٍ يجعل للترميز بعدًا آخر فى النص، ويتساءل عن دور الفن وجدواه وعلاقته بالإنسان. دائمًا يحضر الفن فى المتن كترميز يوازى النص، وكسؤال مجرد، ذلك الفن الموجود دائمًا كنقيض للسلطة الأبوية، وكفاعل فى علاقة الإنسان بالنشأة، ذلك الفن المتواجد دائمًا فى فعل التضمين، سواء بنصوص أدبية أو موسيقى، كخلفية دلالية موازية، وكرمز فى وجوده ذاته، فى مرويات كل الأصوات السردية، بداية من «ليلى»، مرورًا بـ«سليم»، و«سلمى»، و«هشام».
الأصوات السردية
يحقق النص شخوصه عند التحامها مع مفهوم النشأة والسلطة الأبوية والمجتمع، يطرح قدرية تهيمن على شخوص النص وشخصيته «ليلى»، الرابض باسمها ترميز لـ«ليلى» اسم المعشوقة فى الأدب العربى القديم كترميز للجزء الثانى من ثنائية «العاشق/المعشوقة» ومؤاخاتها بالفن، فالأب يهيمن بسلطته على أحلامها، والأم بعارها.
يتجلى ذلك المعنى عن ثلاثية النشأة: السلطة الأبوية، والأمومة عند استنطاق المشهدية، والبنية الدرامية للشخصية، من خلال القدرية القاطنة بالنص، فعند سؤال «هشام الشريف»، صديق محبوبها الذى يتحول لزوجها، يتجلى ذلك المفهوم عند توترها، ويمتد بعد ذلك لاستنطاقه.
تتعدد الأصوات السردية، لتتضفر الذوات مع سردية مروة سمير، ليتجلى النص ذاته، ببنيته الدلالية، مع تحقق شخوصه، لاستنطاقها من رؤى سردية مختلفة، بصوت ضمير الأنا، المفصح عن بنية شخصيته، وفضاء دلالتها وترميزها، فتملك شخصية «هشام» صوتًا سرديًا للهامش المقترن بالفن، والمؤاخى، بعلاقة إنسانية يرصدها النص، بمفهوم السلطة الأبوية، يتجلى هذا من خلال «مونولوج» سردى ذاتى:
«درست الطب مُجبرًا لأجله، لأجل أن يتباهى بابنه الطبيب مثله، فلا يمكن أن أُحيد عن تقاليد عائلة الأطباء المعروفة! أفلا يُقدّر ذلك ويتركنى أعمل ما أحب بعدما درست ما يحب هو؟!».
يقدم «المونولوج» تأريخًا للشخصية، ويطرح لها فضاء دلاليًا موازيًا لـ«ليلى»، فالاثنان يمثلان الهامش، محض كونه أحد أبناء محاولات النجاح فى الحياة والفن، والاثنان يملكان ترميزًا مقترنًا بالسلطة الأبوية.
كما يظهر ما يشبه التناص، ما يهب سردية مروة سمير تصورًا موازيًا للهامش، فتضاف لثنائية «الرجل/ الأنثى»، و«الزوج/ الزوجة»، و«المهمش/ المهمشة»، كصوت سردى موازٍ، يحفل بالهامش كمركز للمتن، يحقق النص رؤيته لشخوصه بجملة تتناص مع الجملة السردية، التى طرحتها «ليلى» باعتبارها «منولوج» ذاتيًا عن تهميشها، فيربض بسردية «هشام» مونولوج سردى:
«أتأملنى.. أتأمل عمرى الفائت فى الأوهام. أبعد كل هذا أكون مجرد كومبارس فى حياتها لا البطل الأوحد! البطل الرئيسى؟».
هكذا تكون ذوات النص محض ترميز يتضفر مع السردية، فى خط الحدث، والبنية الدرامية، لتمثل تصورًا موازيًا لتركيز واحد.
التصاعد الدرامي
تتجلى الدينامية لتشييد ترميز موازٍ للمفاهيم وشخوص النص مع تعدد الأصوات السردية، ومع ظهور الصوت السردى لـ«سلمى»، ابنة «هشام» و«ليلى»، مستكملًا البنية الدرامية، والخط الحدثى، وواهبًا النص شاعرية، متخذًا من ثلاثة أضلاع شاركت فى البنية الشخصية والبنية الدلالية لشخصية «ليلى»، وهى: المجتمع والتهميش والنشأة، من خلال معاناتها كمهمشة فى مجتمعها المدرسى، وحياتها مع جدتها «سوزى رفعت»، وكأنها امتداد يوازى أمها، وأخيرًا علاقتها كابنة لأبوين منفصلين.
مع تعدد الأصوات السردية تظهر تقنية التشويق، المنبثقة من سؤال: «ماذا حدث؟»، المطروح منذ بداية النص، والمتخذ من فعل الذاكرة سؤال دلالى وآخر فنى، يحقق النص بتصاعده الدرامى، وتسلسله الزمنى فى فضاء زمنى لا يعنى فقط بالبنية الدرامية، بقدر ما يعنى بالفضاء الدلالى.
الزمن يحضر هنا برمزه وفضائه كخلفية لأحداث المروية، ويتحقق الماضى بتواجد مفهوم الندم والنشأة فى سرديات كل شخوص النص كنقطة تعنى بالماضى، توازى فيه شخوص النص بعضها، ويتحقق الزمن أيضًا بطرحه تقنية التشويق، فأحد ضلوع البنية الروائية للنص، التشويق.
يتجلى التشويق بفعل الرؤى المتعددة للخط الحدثى الواحد، والزوايا السردية المنعكسة فى سرديتها من بنية الشخصية، وما تطرحه من بناء دلالى، واهية النص كبُعد آخر لسؤال: «ماذا حدث؟»، بُعد يُعنَى بالذوات ورمزها ومرويتها، أكثر مما يعنى بالحدث الكبير، كاقتفاء للهامش فى تصوره الفنى، كهامش لعالم روائى، كإعادة بناء مفهوم الخيانة، القاطن بخلفية كل الأصوات السردية، كحدث غير مركزى يصعد البنية الدرامية ومركزها المحورى.