السبت 23 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«الأشجار ليست عمياء».. رواية تعري قضايا إنسانية وتنحاز للهامش

الأشجار ليست عمياء
الأشجار ليست عمياء

تنحاز رواية «الأشجار ليست عمياء» لشيماء هشام سعد، والصادرة حديثًا عن دار «دون» للهامش، للقضايا الإنسانية وذاكرة العالم الحزينة، لشخصيات تحمل هموم تقطن ثنائية الخاص/العام، تفتتح بنيتها الدرامية بحدث قتل كلب أحد أقارب المحقق المصرى المهاجر «إلياس» من قبل شبح زوجة ذلك العم، هكذا يبدأ النص بأربعة مستويات لاستقراء الهامش.. العم العجوز الوحيد، المعبر عن همومه الشخصية وتعبيراته عن موقع الإنسان من الوحدة والفقد، يقطن بيتًا معزولًا بريف فى مهجر، و«إلياس» محقق يقوم بأولى أعماله كمحقق، والكلب المشيد منذ الافتتاحية بنية دلالية للموت والتهميش، وأخيرًا شبح زوجة فلسطينية.. يحقق النص ذاته بدخول أحد السكان الأصليين لأمريكا للمشهد الروائى الرابض به إلياس وعمه والكلب الميت، قاطفًا البرتقال، كرمز لفلسطين، باعثة الكاتبة التحامًا يوازى النص بين قضيتين إنسانيتين متقاربتين، هما القضية الفلسطينية وقضية السكان الأصليين لأمريكا.

تستنطق شخوص النص فعل الترميز، وتجرده من سيميائيته لبنية شخصياته، وفضائهم المكانى، فتتجلى المفاهيم السياسية والفلسفية فى كل شخوص النص، بدءًا من الماضى واستقراء الذاكرة والسلطة الأبوية، المنجلية فى شخصية زوج «حبهان»، وابنته «أمينة»، التى تعانى السلطة الأبوية نتيجة لتصور خاص عن ماضى أبيها عاناه أيضًا مع أمه، فتقع تحت تصورين خاصين للسلطة، بين الرؤية المرتبطة بموقع الإنسان من نشأته متمثلة فى السلطة الأبوية، وبين سلطة إسرائيلية لا يعطى لها الصوت السردى لـ«أمينة»، وكاتبه الضمنى بالًا، على نقيض باقى الأصوات السردية فى مروية التهجير حتى «إلياس» المهاجر من مصر، ربما لا يهتم الكاتب الضمنى عند «أمينة» بالقضية لهشاشته، وتضافره مع سلطة أكثر خصوصية هى سلطة أبوية تتجلى بـ«عبود».

يصل النص لمفاهيم تمثل الجزء الثانى من ثنائية العام/ الخاص، فتكون شخوص النص تمثيلًا للقضايا الإنسانية، والقضية الفلسطينية بعد ترميز ذواتها المفاهيم المجردة ومفهوم الهامش؛ فيقدم النص شخصية «يوسف»، صاحب الفضاء الدلالى العام لعلاقة الإنسان بوطنه، فيرى فى أخته وطنًا موازيًا، ويؤسس موقعًا إلكترونيًا للكتابة عن تاريخ موطنه فلسطين، التى لم يزرها يومًا. 

يمارس النص فعل التعرية على مستويين فى البنية الروائية الدلالى والدرامى، فتتضافر البنية الدرامية مع الكتابة السينمائية بممارسة فعل التشويق، المؤثر فى البنية الروائية للنص، وتتحقق القدرة الحكائية بتحقق كشف الذاكرة، كقضية إنسانية توازى القضايا التى يتناولها النص، مبتعدة عن التأريخ الموازى المباشر للقضية الفلسطينية المعتاد، باعثة من الفن أساسًا له، بحركة سينمائية تبتعث الحكاية كباعث لفعل التعرية، ساردة شخصيات شيماء وهشام وسعد وذواتها، من خلال سردية ضمير الأنا، وتعدد الأصوات السردية، تلك التى تنضح بشاعرية تشيد بنية النص، فى مروية تطرح نصًا تسجيليًا يهب شخوصه تأريخًا ترميزيًا موازيًا للقضية الفلسطينية، والمفاهيم الفلسفية العامة، كالفقر والوطن والسلطة والموت.. تتضافر القدرة الحكائية مع الشاعرية، وتؤاخى الكاتبة بين فعل الشاعرية والتشويق، وهنا يتضح محض جدلية يطرحها النص بين فعل التسجيل والتأريخ الرمزى وبين القصيدة، فتُضفر الكاتبة الاثنين، للبحث عن ترميز يوازيها وراء شخوصها المهزومة، فتشكل مروية «حبهان» الجانب الأكثر شاعرية للذاكرة، وتمثل بها تأريخ جيل لم ير بلاده ولم يسمع عنها إلا فى المخيمات، كذلك تمثل المفاهيم الفلسفية والإنسانية العامة؛ فبعد فراق الجد تُذبح القطة؛ لتأكلها العائلة، كترميز لحيونة الإنسان والفقر والفقد وثنائية السلطة/ المحكوم «المظلوم» وموقع الإنسان من الخيانة، كفعل يجرد ليُؤَاخى مع الأحداث السياسية التابعة لذاكرة حزينة تنعيها التغريبة، فيذكر الراوى بضمير الأنا، شخصية حبهان، وخيانة لبنان لفلسطين، قائلًا: 

«كان أبى يقول إن الصهاينة وحكومة لبنان تكاتفا ضدنا؛ الحكومة لأن تعداد الفلسطينيين كان يزداد ويشكلون قوة ضاغطة ومؤثرة فى القرار السياسى، والصهاينة لأن جيش منظمة التحرير الفلسطينية الذى يقيم فى المخيمات كان يشكل تهديدًا لهم، لم أفهم ساعتها كيف».

هنا، وبالطريقة التى يمارسها النص منذ بدايته، تظهر ممارسة شيماء هشى سعد لثنائية الخاص/ العام، ممارسة تعرية تأريخية للنكبة الفلسطينية، وتعرية الفضاء الدلالى، طارحة مستويين لاستقراء التأويل، واهبة نصها بعدًا آخر من التناص الدرامى بين حادثة خاصة لمقتل قطة؛ لشدة الفقر والاحتلال الصهيونى، وخيانة شعب عربى لشعب شقيق؛ لسيطرة الاحتلال الصهيونى، ويربطهما فعل الخيانة.

تتلاشى المدن، تغادر البلاد بوجودها المجرد ذاكرة العالم، وتقطن ذاكرة شخوص وحكايات النص، فتشكَّل فضاء مكانى رمزى يشترك فى ثنائية العام والخاص لاستقراء دلالة فعل الترميز، متحررة من كونها مسرحًا معتادًا للأحداث، بين النص البوليسى الموازى للمروية المشحونة من ذاكرة أبطالها، كذلك تمثل الأماكن شخوصها.. يبدأ النص بأحداث تقترب من النص البوليسى فى أمريكا، مربض الرأسمالية والنمط المعتاد للاغتراب، ثم انتقل لفلسطين والمخيمات، نقيض أرض أمريكا، والخالقة عدة ثنائيات معها.. ثنائيات تشترك فيها الذوات مرتبطة بأماكنها، فشخصية «حبهان» يتغير مسار حياتها وإيقاع صوتها السردى وشاعريته مع تركها المخيمات، وشخصية «يوسف» يرتبط وجدانها بالوطن، كتعريف لعلاقة الإنسان بوطنه، كذلك ترتبط بأخته ذات العلاقة والود، المشابهة للوطن ذاته، «فلسطين»، فيستنطق النص فضاءه المكانى وتضفره مع شخوصه بتحقيق استنطاقه لفعل الحكى، ذلك المرتبط بقدرية تطالع شخوص النص كدلالة، وتطاردهم لتحقق المروية الإنسانية.

كرواية «أم سعد»، للفنان الراحل غسان كنفانى، يقتفى النص الإفلات من التجنيس والتصنيف الأدبى، لتحضره البنية المسرحية، مرتبطة بالمشهدية والمرورية السينمائية، كذلك البنية القصصية، بتكثيفها السردى والترميزى المعهود، واحتفائها بالحكاية الهامشية، تلك المنبثقة لتوازى فعل الحكاية ذاته، والطارحة تعريفه كحياة، كذاكرة ضد الرصاص، والزمن، وفعل الحكاية يداعب شخوص النص، لتطرح مرويتها، وتناقش رؤيتها للحكاية.

تحقق العلاقات الإنسانية مفهوم الحكاية، فتظهر الحكايات بوجود علاقات تتضافر مع مفهوم الوطن والفقد، لا يتكلم أبو «حبهان» إلا بعد لقاء رفيقه «صادق»، المنبلج من الوطن، فتكون الحكاية، فى تجريدتها، باعثًا لتشييد علاقات إنسانية تشارك بشدة فى البنية الروائية.