الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

من رفوف المكتبة

سهير القلماوى.. و«القراءة المثمرة»!

سهير القلماوى
سهير القلماوى

بداية، لا بد من توجيه خالص شكرى وتقديرى للصديق العزيز الدكتور محمد الباز على دعوته الكريمة للانضمام إلى كتاب «حرف» الثقافى الذى صار دون مبالغة ولا مجاملة إحدى طاقات النور والإشعاع الثقافى فى مصر والعالم العربى، يسهم فى ملء فراغ رهيب وعميق وشاسع «لا مجال الآن للحديث عن أسبابه والبحث عن تفسير لذلك». أسعد بالانضمام إلى هذه الكوكبة من الكتّاب اللامعين، وأشرف بكتابة هذه الزاوية الأسبوعية التى أطل منها على قراء «حرف» وربنا يجعل إطلالتنا هذه مقبولة وخفيفة عليهم يا رب.

أستهل موضوعى الأول بالرجوع سنوات قليلة إلى الوراء، حينما استوقفنى احتفاء موقع البحث الشهير «جوجل» بالرائدة النهضوية، والأستاذة الأكاديمية والناقدة سهير القلماوى «١٩١١-١٩٩٧». كان ذلك بمناسبة مرور ١٠٣ أعوام على ميلادها «ولدت فى ٢٠ يوليو ١٩١١، ورحلت عن عالمنا فى ٤ مايو ١٩٩٧».

وقد لفتنى بشدة كم الذكريات التى تدفقت على نفسى وروحى مرتبطة باسم سهير القلماوى، التى أنتسب إليها معرفيًا ونقديًا، فهى أستاذة أساتذتى، وتلميذة العميد الدكتور طه حسين، ورائدة النقد الحديث وتياراته فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.

وهكذا، بمناسبة إشارة «جوجل» لذكرى ميلاد سهير القلماوى، وجدتنى أستعيد بمتعة كبيرة جدًا ذكريات أول ما قرأت للرائدة الكبيرة الذى كان عبارة عن درس قراءة فى مناهج المرحلة الإعدادية «لا أذكر إن كان فى الصف الثانى الإعدادى أو الثالث الإعدادى»، بعنوان «القراءة المثمرة».

وعندما التحقت بالمرحلة الثانوية، قرأت لها كتابها الصغير البديع «ثم غربت الشمس»، عن نهاية الوجود الإسلامى العربى فى الأندلس، وزوال دولة بنى نصر الأحمر فى غرناطة.

أما أهم وأقيم ما قرأت لها فكانت دراستها التأسيسية الرائدة عن «ألف ليلة وليلة»، وهى رسالتها للدكتوراه، بتحفيز وتشجيع من أستاذها الجليل طه حسين، قرأت الطبعة الصادرة عام ١٩٩٧ عن مكتبة الأسرة، وهى مصورة عن طبعة دار المعارف العريقة، ثم قرأت كتابها عن «أدب الخوارج فى العصر الأموى» وهو فى الأصل كان رسالتها للماجستير تحت إشراف طه حسين أيضًا.

وعندما التحقت بالجامعة، قرأت لها «المحاكاة فى الأدب» و«النقد الأدبى»، وذُهلت عندما سمعتها تناقش المرحوم نصر أبوزيد فى رسالته للماجستير عن مفهوم «المجاز فى القرآن عند المعتزلة»، «فى تسجيل صوتى قديم»، وفوجئت برسوخ معرفتها فى علوم التراث العربى، واتساع مداركها لتشمل التخصصات الدقيقة فى علوم التفسير والقرآن والحديث.

كانت سهير القلماوى بطبيعة ثقافتها تجمع بين القديم والجديد، تعلمت الجديد فى المدارس الأجنبية التى درست بها قبل أن تلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وأتقنت العديد من اللغات الأوروبية، واستعدت لدخول كلية الطب، ولكن كلية الطب لم تقبل أوراقها لأنها فتاة، فقد كانت الجامعة المصرية تتردد فى قبول الطالبات حتى عام التحاق سهير القلماوى بها. وذهب والدها الطبيب الشهير إلى طه حسين ليعينه على حل مشكلة ابنته، ولكن طه حسين صرف نظر الطالبة عن كلية الطب، وأقنعها بالالتحاق بكلية الآداب، والدراسة فى قسم اللغة العربية الذى كان أشهر أساتذته. 

سهير القلماوي

ويبدو أن شخصية طه حسين الساحرة جذبت الفتاة سهير القلماوى إليه، فتعلقت به، واتخذته أبًا ثانيًا وأستاذًا ومشرفًا ورائدًا ومثلًا أعلى فى الحياة، وأجلّها الأستاذ وأعجب بها، ووجد فيها نموذجًا للمرأة الجديدة التى كان المثقفون المصريون يحلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتاب «المرأة الجديدة» ونشره سنة ١٩٠٠ من مفتتح القرن الماضى.

تزوجت سهير القلماوى من المرحوم يحيى الخشاب الأستاذ الرائد فى اللغات والآداب الشرقية «اللغة الفارسية وآدابها» وصاحب الترجمة المهمة لرحلة ناصر خسرو الشهيرة «سفرنامة» وصاحب الكتب والدراسات المرجعية فى الأدب الفارسى.

وأتوقف قليلًا أمام واحد من أهم وأجمل كتبها وأكثرها إمتاعًا وفائدة على الإطلاق «على الأقل بالنسبة لى»، وهو كتابها الرائع «العالم بين دفتى كتاب» الذى بنَت فكرته على ترجمة مقالات عن القراءة وأنواعها وطرائقها المختلفة، وأذكر من بينها مقالًا بعنوان «القراءة المثمرة» علق بذهنى وذاكرتى لفترة طويلة جدًا. 

مضت سنوات طويلة قبل أن أكتشف أن هذا الكتاب يمثل علامة مضيئة فى ثقافتنا العربية المعاصرة، وأنه سبق بصدوره، فى أواخر خمسينيات القرن الماضى، كثيرًا من الكتب التى اكتسبت شهرتها أو اكتسب مؤلفوها شهرة كبيرة، باعتبارهم مؤسسى ما أطلقوا عليه «علم القراءة» أو «تاريخ القراءة».

سبق «العالم بين دفتى كتاب» الذى ترجمت مقالاته الرائدة الكبيرة سهير القلماوى وحررتها، وتصرفت فيها بحرية كبيرة حتى ليصح أن نقول إنه تأليف قائم بذاته، يدخل صراحة ومباشرة فى هذه الدائرة، وهو كتاب جميل ممتع سلس العبارة غزير المادة جم الفائدة، وإن لم أدرك كل هذه الأمور إلا بعد أن قرأته كاملًا فى طبعته الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى سلسلة روائع القرن العشرين.

صدر «العالم بين دفتى كتاب»، فى طبعتين متتاليتين عامى ١٩٥٦، ١٩٥٨، باقتباسٍ وتصرفٍ وإضافة عن كتاب «Wonderful World of Books». 

لقد بَنَت سهير القلماوى فكرة الكتاب فى صورته العربية، وعنوانه المغاير «العالم بين دفتى كتاب»، على ترجمة مقالات متنوعة عن القراءة، وأنواعها، وطرائقها المختلفة.. إلخ، لكنها لم تكتف بالترجمة المطابقة أو الأمينة بل كانت تتصرف فيها- إلى حدٍ كبير- وتستبدل بنماذجها الغربية الموجهة للقارئ الأوروبى- فى المقام الأول- نماذج عربية من التراث أو الأدب المعاصر، وزادت فى ذلك وأفاضت بما أعطى للكتاب فى نسخته العربية قيمة مضافة.

ولا أزال أذكر من بينها مقال «القراءة المثمرة» الذى عَلَق بذهنى وذاكرتى لفترة طويلة جدًا، واعتبرته أحد المداخل المهمة فى تعلُّم منهجية «القراءة» لا بمعناها التعليمى «التهجى وقراءة الكلمات والجمل» بل بعملية القراءة ذاتها، من حيث محاولة استيعاب أقصى معانٍ ممكنة من النص المقروء وفق آلية معينة وخطوات مرتبة.

وكانت عناوين الفصول فى ذاتها، مبهجة ومثيرة للفضول؛ خذْ مثلًا: الكتب أصدقاؤنا، اقرأ معى، لم لا نقرأ شعرًا؟، ولنقرأ معًا قصصًا، هاكَ رواية، وتلك قصة قصيرة، وهذه مسرحية. ثم باب يضم فصولًا متنوعة عن القراءة: كيف نقرأ؟ ولماذا؟ ومتى أقرأ؟ والقراءة المثمرة، وماذا نقرأ؟ وآفاق التأليف من حولنا، وكيف أختار كتابى؟ 

إن قراءة هذا الكتاب بمقالاته الجذابة وعناوينه المشوقة تظل واحدة من الوسائل المحرضة على اعتناق القراءة كطقس يومى إنسانى، لا يمكن الاستغناء عنه! 

كل ذلك فضلًا عن الأمثلة الذكية الواعية التى اختارتها سهير القلماوى لتكون منصات انطلاق قوية فى ممارسة هذه الخبرة المعرفية الجميلة.

رحم الله الدكتورة سهير القلماوى، كانت أستاذة جليلة وحقيقية، وكبيرة، تركت تلاميذ وكتبًا ودراساتٍ تشهد بأنها كانت رائدة حقيقية من رائدات ورواد التنوير والثقافة الرفيعة فى مصر.