كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟.. هوامش حول «كتاب لا يظهر من عنوانه»
على الرغم من ذيوع عبارة «الكتاب يبان من عنوانه» واعتبارها مقدمة منطقية يُسلّم بها، فإن تجارب القراءة تثبت أنها لا تصدق إلا فى حالات قليلة، ففى الأغلب الأعم نجد أنفسنا أمام حالتين، فإما أن يكون طموح العنوان أكبر مما صدق على مضمونه، فيأتى المتن أضعف مما وعد به عنوان برّاق، أو يضع العنوانُ الكتابَ فى سياق أقل مما يستحق إلى أن يكشف مضمون الكتاب عن حقيقته، وهذه الحالة الثانية تنطبق على كتاب «كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه».
الكتاب، الذى عُد من الكتب الأكثر مبيعًا فى فرنسا، من تأليف أستاذ الأدب والمحلل النفسى وصاحب الكثير من المؤلفات ذات العناوين المشابهة بيير بايار، ومن ترجمة غسان لطفى، قد ترك انطباعات فى أغلبها سلبية، تشكلت فقط من قراءة عنوانه، وهى مفارقة تستدعى التأمل، فالكتاب الذى يبدو من عنوانه مدافعًا عن اللا قراءة، هو أول ما يُصاب بسهام اللا قراءة السامة، ومع ذلك فالحق يقتضى أن نقول إن الكتاب أهم بكثير مما يشى به عنوانه!
إكراهات المثقفين وغاية القراءة
جعلنى الكتاب أستعيد الكثير من هواجسى وأفكارى فيما يخص القراءة وأعيد التفكير بها مرة أخرى. واحد من أبرز المحاور التى توقفت عندها هو ما يمارسه «حزب المثقفين» من إكراهات على الآخرين بحجة القراءة، فما من مجلس إلا ويستدعى أعضاء الحزب عناوين الكتب ليفاخروا بما أنجزوه من قراءات، وليمارسوا التقليل ممن لا يشاركهم القراءات ذاتها، فإن كان حزب المثقفين ذلك لا يكف يوميًا عن انتقاد قناعات البسطاء وأفكارهم الأسطورية وأحيانًا الخرافية باسم نزع القداسة، فهم أيضًا أسرى أوثانهم التى شكلوها بأناملهم. واستدعاء أوثان المثقفين مسألة تقتضى وقفات أخرى، لكن ما يهمنا الآن هو قداسة القراءة فى معادلة تبسيطية لا تخلو من سذاجة؛ أنت تقرأ فمرحبا بك فى حزبنا الذى يعتلى البرج العاجى، وهو لا يقرأ فلا أهلًا به معنا وليبقى متخبطًا فى جهالاته.
بايار يضع يده على تلك المعادلة التبسيطية ليوضح أن هناك الكثير بين القراءة واللا قراءة، ومنها ببساطة تلك الكتب التى قرأناها ثم نسيناها بل ونسينا حتى إننا قرأناها من قبل. ثم ماذا عن الكتب التى قرأنا عنها حتى تشبعنا بفكرتها ومحاورها وحتى السياقات التى ولّدتها دون أن نتعرض للكتب ذاتها؟ والكتب التى تصفحناها سواء من البداية حتى النهاية أو تصفحًا عشوائيًا وكان هذا التصفح كافيًا لتكوين فكرة جيدة عن الكتاب؟ أين يمكن موضعة هذه الحالة، هل هى قراءة أم لا قراءة؟
ولنقف قليلًا هنا عما أثاره الكتاب لدىّ من أفكار حول تلك المعادلة التبسيطية «قراءة مقابل لا قراءة»، ونفكر ما حال الناس الذين يقضون أعمارهم فى قراءة كتب للمتطرفين الحاثين على كل ما ضاد الحياة؟ هل هم إلى «جنة المثقفين» أقرب أم إلى الجهالة؟ وماذا عن المئات من الكتب التجارية التى تُنشر لـ«المؤثرين» أو حتى الكتابات الأدبية الركيكة التى يقرأ المراهقون العشرات منها شهريًا فتظل تنقلهم إلى ما هو على شاكلتها دون أن ترتقى بحسهم الأدبى أو الفكرى أو حتى اللغوى قيد أنملة؟ هل يحق لهؤلاء أن ينعموا بالرضا عن كونهم قراءً فقط لأن ثمة كتابًا بين أيديهم، وقائمة قراءات العام لديهم تضم مئات الكتب!
لطالما أثارت نصيحة «اقرأ كثيرًا» امتعاضى، فمع كثرة الكتب الرديئة فى مقابل القليل من الكتب ذات القيمة، ومع اقتناعى بأن القراءة تجربة ذاتية فى المقام الأول وصاحب يرافقك فى رحلة الحياة وليست غاية بحد ذاتها، كنت أعى أن تلك نصيحة زائفة، فلم تعد الكتب الرديئة، لا سيما بالسنوات الأخيرة خطوة على درب يرتقى بسالكه إلى ما هو أفضل، بل على الأرجح، وفى ظل وفرة الردىء وندرة النافع، سيظل القارئ المختال بالكتب التى يحملها يتخبط فى دروب كتب تفضى إلى الجهل أكثر مما تقود إلى الوعى. ما لم يقله المؤلف ولكن كتابه دفعنى للتفكير فيه أن المهم ليس أن تقرأ، فالقراءة لا ينبغى أن تكون غاية بحد ذاتها، وإنما المهم هو كيف تقرأ؟ هذا هو ما يتجاهل كثير من المثقفين الحديث عنه ربما للحفاظ على هالة القداسة باقية، فالقداسة تقتضى ألا يُناقش المقدس ولا يُمس، وهكذا قدس حزب المثقفين القراءة، وتركوا القراء وغير القراء فى ضلالاتهم يتخبطون.
ما الذى تعنيه قراءة الكتاب كاملًا؟
يرى بايار فى الأطروحة المركزية للكتاب أن القراءة الفعالة والمثمرة الكافية للحديث عن كتاب لا تعنى أن يُقرأ الكتاب كاملًا، وأن تصفح الكتاب أو حتى قراءة ما كُتب عنه أو الاستماع إلى حديث الآخرين عنه قد يكون كافيًا لتكوين رأى معقول والحديث عنه بدرجة مقبولة، وهى أطروحة تستحق التفصيل والمناقشة.
أُقر بأن شجاعة المؤلف فى مواجهة إكراهات المثقفين بخصوص قداسة القراءة واعترافه باعتماده لأشكال مما يعد «لا قراءة» فى تعاطيه مع الكتب يظل مثيرًا للإعجاب، لا سيما حين نتأمل مشهدنا الثقافى العربى الذى قد ندرك، بقليل من التأمل، اعتماد الكثيرين فيه على أشكال ما يعد لا قراءة كما تعرّض لها المؤلف فى حديثهم عن الكتب، بينما لا يصرح أحدهم أبدًا بذلك، بالتأكيد خوفًا من النظرات الاستهجانية وتجنبًا للخروج عن هالة المثقف القارئ. كثيرًا ما كنت أفكر، كيف لأحدهم أن يخرج علينا بثلاثة مقالات أسبوعيًا عن أعمال أدبية وغير أدبية ضخمة فى أحايين كثيرة؟ وبندوات وأحاديث عن كتب أخرى؟ وربما دلنى كتاب بايار على الإجابة التى لن يعلنها أحد أبدًا؛ إنه التصفح الفعّال والاحتكام إلى ما قيل وكتب من قبل عن الكتاب. وبين الفعل والإخفاء المتعمد يمكن معاينة تلك الحالة من النفاق الاجتماعى والكذب التى تشيع فى أوساطنا الثقافية. يقول بايار: ثقافتنا تقوم على مسلمة ضمنية تقول إنه يجب عليك أن تقرأ الكتاب لكى تتحدث عنه بشىء من الدقة، لكن خبرتى أنبأتنى بأنه من الممكن جدًا أن نخوض نقاشًا محتدمًا عن كتاب لم تقرأه، بل إنه يستحسن أحيانًا إن أردت أن تصيب فى حديثك عن كتاب ألا تقرأه قراءة كاملة أو حتى لا تفتحه بالمرة!. أعترف بأننى أتفق مع المؤلف فى قوله «من الممكن جدًا أن نخوض نقاشًا محتدمًا عن كتاب لم تقرأه»، فقد عاينت ذلك بنفسى؛ عشرات الندوات والأحاديث، التى قد تمتد لساعات، والمقالات التى قد تطول لصفحات، عن كتب لم يقرأها من يتحدثون عنها، فقط قراء الكتاب سيكون بمقدرتهم اكتشاف ألاعيب الحديث المتبعة بإتقان للنقاش حول كُتُب لم تُقرأ. ولكن ما الجدوى من ذلك؟ قد تكون الحيل المذكورة بالكتاب فعالة فى مجرد «الحديث» عن الكتب غير المقروءة، وفى تخفيف الشعور بالذنب أمام كم الكتب الهائل الذى لن تسمح أعمارنا بقراءتها كاملة، وربما هى مفيدة حتى فيما يخص الكتب المقروءة، ولكن قد لا تتجاوز أهمية تطبيق تلك الحيل مجرد «الحديث»، فعلى الأرجح لن يكون بمقدور متبع نصائح بايار، إلى حد جعلها أسلوبًا معممًا فى التعامل مع جميع الكتب، تكوين معرفة حقيقية وعلاقة حميمة مع الكتب الأثيرة، سيظل بإمكانه الحديث عن الكتب بشكل قد يبدو بارعًا، ولكن من المحتمل أن يقوده ذلك النهج إلى خفة فكرية لن ينجو منها.
ماذا عن الكتب التى نسيناها؟
يتحدث المؤلف عن الكتب التى نسيناها بعد القراءة باعتبارها مما يقع بين حدى القراءة واللا قراءة فى المعادلة التبسيطية، فذاكرتنا لا تحتفظ بكتب موجدة متجانسة، بل بشذرات ننتزعها من قراءات متفرقة وجزئية ونخلط بعضها ببعض فى أغلب الأحيان ونعدلها تبعًا لاستيهاماتنا. ولكن آفة النسيان كثيرًا ما جعلتنى أتساءل كثيرًا عن الجدوى من القراءة، فإن كان ما نقرأه يُنسى كليًا أو جزئيًا إلى حد قد يبدو لقاؤنا الثانى مع الكتاب وكأنه اللقاء الأول دون أى شبهة معرفة سابقة، فلمَ نقرأ؟ ظل السؤال مؤرقًا إلى أن وصلت إلى قناعة بأن النسيان قد يكون أفضل من «الميمورى» المتنقلة من مكان لآخر، فمع النسيان، ثمة عصارة انتقلت إلى العقل والروح من الكتب المختلفة، ولن تظهر سوى بأشكال خفية، ربما فى سلوك أو رؤية للحياة والعالم. أما هؤلاء المثقلة ذاكرتهم بالمئات من الاقتباسات والأسماء فربما لن يقيض لهم أبدًا أن يكونوا أنفسهم، ومن المحتمل أن يظلوا أبواقًا لمن قرأوا لهم، ستحميهم هالة المثقفين المقدسة بالطبع، ولكن هل سيتجاوزون دور «البوق» يومًا ما؟
على هامش نصائح المؤلف
يحاجج المؤلف بأنه ليس من المهم أن تقرأ هذا الكتاب أو ذاك، بل أن تنظر إلى مجموع الكتب نظرة شمولية، وهو ما يجعل عدم قراءة الكتاب كاملًا أكثر جدوى برأيه، فيقول: إن من يحشر أنفه فى الكتب فلقد خسرته الثقافة بل والقراءة نفسها، فبسبب عدد الكتب لا بد للمرء من أن يختار بين هذه النظرة الشمولية وكل كتاب، وتكون بذلك كل قراءة مضيعة للجهد.. الثقافة الحقة يجب أن تنزع إلى الاستيعاب الكلى ولا يجوز لها أن تختزل إلى مراكمة للمعارف التفصيلية.. الروابط والصلات هو ما يجب على المثقف أن يتعرف عليه، لا هذا الكتاب أو ذاك على وجه التحديد. لا يمكننا أن ننكر صحة حديث المؤلف عن النظرة الشاملة والاستيعاب الكلى الضروريين للثقافة، ولكن الإقرار بسلامة الغاية لا يعنى بالضرورة الموافقة على السبيل إليها، فالتصفح والاعتماد على الفهارس لن يقود سوى إلى نظرة سطحية لا تدرك من الأشياء سوى قشورها، فلا دس الأنف فى كتاب بعينه وتفصيلة محددة طوال الحياة سيجعل القارئ مثقفًا، ولا الاطلاع المتعجل، فى دقائق على فهارس الكتب ومحتوياتها سيقود إلى الثقافة والاستيعاب الفعال. ينصح بايار كل من وجد نفسه فى موقف المضطر إلى أن يحدث كاتبًا عن كتبه وهو لم يقرأها، أن يمدحها دون الخوض فى التفاصيل، لأن ما يتوقعه الكاتب هو بالأحرى أن نقول له مع الإبقاء على أكبر قدر ممكن من الغموض أننا أحببنا ما كتبه. ولنا أن نتساءل هنا: أليس هذا شكلًا من أشكال النفاق وإكراهًا من الإكراهات التى انتقدها الكاتب؟ فما الذى يعنيه التشديد على ضرورة عدم الخجل بشأن عدم القراءة فيما يدعو من جهة أخرى إلى الكذب على الآخرين بادعاء القراءة!
يمكننا القول بشكل عام إن الكتاب كاشف للكثير من الحيل المتبعة بالفعل فى التعامل مع الكتب غير المقروءة والحديث عنها، فسيجد القارئ الكثير من المواضع التى يمكن أن تحيله إلى مقال قرأه أو ندوة حضرها، وقد يكون مفيدًا فى تخفيف الشعور بالذنب أمام كم الكتب التى سنظل جاهلين بها رغمًا عنا، وجعلنا أكثر جرأة فى مواجهة الإكراهات المحددة سلفًا. ومع ذلك، فإن اتباع الحيل والاعتماد الكامل عليها يهدد بثقافة تبتهج بسطحيتها وضحالتها وتدافع عنها!