رحلة «غامضة ومثيرة» مع إبراهيم أصلان.. مفاجأة فى رواية «مالك الحزين» بعد 30 عامًا من البحث اللذيذ
- أندريه موروا فعل بعاشق الكيت كات ما فعله الشيخ حسنى بالشيخ جنيد
- عم إبراهيم صنع «كوكتيلًا عجيبًا» من بول فاليرى وأندريه جيد
انتصف النهار فى يوم دافئ من أيام يناير فى بداية التسعينيات، السماء تستعيد زرقتها الصافية بعد شحوب رصاصى دام لأيام، أشجار البرتقال فى حديقة عمى الراحل عبدالفتاح الجمل تلمع تحت أشعة الشمس الناعمة، إبراهيم أصلان يواصل تقشير برتقالة وهو يحدثنى بنبرته المميزة عن هدية اعتدال الطقس فى يوم خروجنا للريف، وعن حبه للشتاء بمطره وشمسه معًا، ثم يناولنى نصف البرتقالة التى انتهى من تقشيرها..
أمد يدى بابتسامة وأتناول نصف البرتقالة وأنا أقول له: تعرف حكاية فولتير مع تقشير البرتقال؟
■ هوه فولتير له حكاية مع البرتقال؟
- حكاية ظريفة وغامضة يا عم إبراهيم، مش مع البرتقال نفسه.. مع تقشيره بالذات!
■ لا ياشيخ!
- هنتكلم فيها بعد ما أعرف حكايتك إنت مع البرتقال، أول مرة قرأت «مالك الحزين» لاحظت إن البرتقال حاجة مهمة فى الرواية، الكل فى قهوة عوض الله بياكل برتقال، قلت يمكن له معانى رمزية وقصة كبيرة، وما كنتش أعرف إن ممكن ييجى يوم ونتقابل، وأقدر أسألك وجهًا لوجه عن «رمزية البرتقال فى رواية مالك الحزين».. ينفع عنوان حلو لدراسة نقدية من إياهم (ضحكنا).
■ ولا رمزية ولا حاجة، تصرف طبيعى عشته كتير فى إمبابة، البرتقال فاكهة الشتا عند الفقرا، يناير عندنا يعنى برتقال.. لذيذ ورخيص وشكله مدور وجميل يا جدع..
بينما يحدثنى بهدوء قفز أصلان لأعلى برشاقة، والتقط ثمرة برتقال ناعمة ومغسولة بالمطر، وقال لى وهو يبدأ تقشيرها: دى هتلاقيها زى العسل.. ما قلتليش حكاية عمك فولتير مع البرتقال.
- بمناسبة «مالك الحزين» عندى سؤال تانى شاغلنى جدًا يا عم إبراهيم.
■ معاك.
- إنت جبت اقتباس «بول فاليرى» فى تصدير الرواية منين؟: «يا ناثانيل أوصيك بالدقة، لا بالوضوح»، مكثف وطلقة زى صياغات هيمنجواى، أنا ماكنتش أعرف فاليرى ولا قرأت له أى شىء، لكن شغلنى جدًا بعد الاقتباس ده، وبقيت مجنون فاليرى ومهووس بالبحث عن النص اللى يتضمن الاقتباس، ومرت سنين ولم أصل لشىء!
■ تصدق نسيت.. فى الغالب كده لقيته مزنوق فى دراسة نقدية، وشبك مع أفكارى وطريقتى فخزنته فى ذاكرتى واعتبرته بتاعى.. بيمثلنى.. أنا قلت لك قبل كده إنى كتبت «مالك الحزين» فى سنة واحدة، وقعدت أحذف فيها ٨ سنين، لحد ما حصلت مظاهرات ٧٧، ودماغى انشغلت فى تعشيق المظاهرات زى ما عشتها فى أحداث الرواية وحالة «الكيت كات» الخاصة جدًا بالنسبة لى..
- حاول تفتكر أى خيط يوصلنى للاقتباس ده، أنا بقيت متخصص فى فاليرى عشان أعرف مين ناثانيل وموضع الجملة فى النص، ومفارقة الدقة والوضوح.. بمعنى هل هى دعوة للدقة أم للاتقان أم نزوع للكمال حسب دراسة قرأتها مؤخرًا لفاليرى عن مواصفات الشاعر الجيد؟
■ اللى فاكره يا جيمى إن الوصية دى سابقة على الرواية بسنين طويلة، وفى الغالب كانت فى دراسة للزيات أو طه حسين أو العقاد فى مجلة «الرسالة»، أو حاجة زى كده، عمك فاليرى ده كان حكاية ما بتخلصش عند الجماعة دول، ومكانش يعدى أسبوع إلا لما تلاقى كلام عن فاليرى، والشعر الرمزى، والغموض أحسن ولّا الوضوح.. معارك سخنة جدًا وخناقات.. وسط الهيصة دى العبارة دى دخلت دماغى وما خرجتش منه، حسيت إنها بتقول كل اللى عاوز أقوله فى طريقة الكتابة.. ما تيجى نلعب «بنج»..
- يا للا بينا...
حدث فى تلك الأيام أن «مؤسسة سعاد الصباح» دعتنى لاحتفال بإعادة طبع أعداد مجلة «الرسالة» فى مجلدات، واتجه تركيزى إلى اقتناء المجلة والبحث فى مقالاتها عن «وصية فاليرى» التى أصابتنى بالهوس..
استمر البحث دون العثور على أى خيط، وكانت مؤسسات عربية أخرى قد بدأت تتجه لرفع أرشيف المجلات الثقافية العربية على شبكة الإنترنت، كما أتاحت الشبكة فرصة أعظم للوصول إلى أعمال فاليرى فى الأصل الفرنسى، وظلت النتيجة طوال سنوات: «صفر»، ليس هناك قصيدة ولا مقال لفاليرى يتضمن اسم ناثانيل، لكن ثنائية الغموض والوضوح كانت فى صميم مشروعه الفنى، كما كان «هوس الدقة» انعكاسًا فنيًا لتربيته الصارمة، وحبه للرياضيات مثل ديكارت، وتجنيده العسكرى القصير، ووظيفته المزمنة كسكرتير لإدوارد ليبى مدير وكالة «هافاس» للأنباء والتسويق، وهى أول وكالة من هذا النوع فى فرنسا والعالم كله، وهى نفسها التى أصبحت حاليًا «فرانس برس».
البحث بالمخيلة جعلنى أجزم أن الاقتباس مقتطع من قصيدة شعرية، لأن «ناثانيل» اسم له دلالة واسعة فى الرمزيات المسيحية، فقد كان أحد تلاميذ المسيح المخلصين بعد أن كان متشككًا ويردد أن المسيح لا يمكن أن يخرج من الناصرة، فلا شىء صالحًا يأتى من الناصرة، لكن حدث أن دعاه أحد الحواريين للقاء المسيح قائلًا له: «تعال وانظر»، فلما رآه يسوع مقبلًا قال: «هو ذا إسرائيلى حقًا لا غش فيه».
قال له نَثَنَائيل: «من أين تعرفنى؟»
قال له: «قبل أن يدعوك فيلبس، وأنت تحت التينة، رأيتك».
فآمن به نَثَنَائيل بشدة، لأن رمزية «التينة» ترتبط بقصة سرية فى طفولة نثنائيل، لا يعرفها إلا هو وأمه، حيث أصدر هيرودس أمرًا بقتل «أطفال بيت لحم»، وكان نثنائيل أحد الأطفال القلائل الذين نجوا، لأن أمه أخفته تحت شجرة تين خلف المنزل..
القصة تتضمن مفردات كثيرة من أسلوب بول فاليرى الفنى: الغموض والرمزية وحركة المشاعر، لكن المفاجأة أن فاليرى لم يستخدم اسم ناثانيل فى أعماله، استخدم «أفلاطون» و«سقراط» و«فيدر» و«أركسيماك» وكثير من الأسماء الإغريقية القديمة، أما الذى استخدم اسم ناثانيل فهو «أندريه جيد» صديق فاليرى القريب، وكانت صيغة الوصية قريبة من أسلوب «جيد» أكثر، خاصة فى ديوانه الشهير «ثمار الأرض» الذى تأثر فيه بكتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت»، وقد استخدم «جيد» فى ديوانه ثلاث شخصيات: الراوى، والمعلم مينالك، والشاب ناثانيل الذى يتلقى الوصايا!
هل يعقل أن تكون ذاكرة أصلان قد خانته، والاقتباس مأخوذ فى الأساس من «أندريه جيد»، وليس من «بول فاليرى»؟
بدأت رحلة البحث تركز على النصوص الأصلية بالفرنسية، مع إضافة أعمال «جيد» إلى أعمال «فاليرى»، ونظرًا لتشابه الحروف، عثرت على نص الاقتباس بالإنجليزية مكتوبًا بنفس الصياغة التى صدّر بها أصلان روايته: «Oh Nathaniel. I urge you to be accurate not clear» والترجمة الحرفية هى: «أوه ناثانيل. أحثك على أن تكون دقيقًا وليس واضحًا».
شعرت بفرحة الانتصار أننى توصلت إلى خيط مهم للوصول إلى أصل العبارة، وسارعت باستخدام الجملة الإنجليزية فى البحث، لكننى لم أصل لأى شىء.!
تألمت وشعرت بالغيظ فى نفس الوقت، لأننى عثرت على الاقتباس فى دراسة أكاديمية رصينة أنجزتها الناقدة والمختصة المصرية د. ياسمين رمضان، أستاذة اللغة العربية ومديرة «البرنامج العربى» فى جامعة أيوا الأمريكية، تحت عنوان «الفضاء فى الأدب المصرى الحديث»، وكنت أتعشم أن تتسم الدراسة بالدقة أكثر من الشرح والتوضيح حسب الوصية المجهولة، لكن الدراسة اكتفت بدراسة النماذج التى اختارتها الباحثة من أدب الستينيات من داخل النصوص كما هى، دون تحقيق قد يكون مناسبًا لدراسات أخرى.
تخلصت من غيظى رويدًا رويدًا، وعدت للبحث «العوليسى»، وعثرت على كتاب لأندريه موروا بعنوان «مقدمة لطريقة بول فاليرى»، والكتاب يركز على تفنيد أسلوب فاليرى فى الغموض والرمزية واحتقار السهولة وتحرى الدقة التى يصفها بأنها مثل «داء لا شفاء منه أصاب فاليرى»، وفى الكتاب مقارنات وإحالات تجمع بين فاليرى ومالارميه وديكارت، وبدأت فى استخدام هذه الأسماء لتضييق نطاق البحث، وحدثت المفاجأة الكبيرة بعد أن أنهكنى التعب وتشتت الحصاد، فقد عثرت على مقال بعنوان «بول فاليرى.. للكاتب الفرنسى أندريه موروا»، «هكذا كتب المترجم اسم أندريه فى العنوان كما ينطق»، ترجم المقال عن الفرنسية الدكتور إبراهيم الكيلانى، ونشرته مجلة «الثقافة» السورية الشهرية فى عددها العاشر الذى صدر فى يونيو ١٩٣٤ «قبل عام من مولد أصلان»، والمقال مقسم على خمس فقرات بعناوين فرعية، الأولى: «ديكارت وفاليرى»، الثانية «حياة الرجل»، الثالثة «طريقة الرجل: الدقة»، الرابعة «فاليرى والتاريخ»، الخامسة والأخيرة «فاليرى والفن»..
المفاجأة كانت فى مطلع الفقرة الثالثة، وأنقل النص كما هو منشور:
«ناتانائيل! سوف لا أعلمك التآلف بل الحب!
بمثل هذه الكلمات يخاطب أندره جيد تلميذه فى كتاب (طعام الأرض)، ولو قدر لى أكتب عن طريقة فاليرى فى الكتابة لما وجدت أحسن من ترديد هذه الجملة: أركسيماك! سوف لا أعلمك الوضوح فى الكتابة بل الدقة» !!!!!!!!
هل نشر موروا المقال بهذه الصياغة ونقله المترجم الشامى الدكتور كيلانى حرفيًا، أم أن النص عبارة استخلاص ساهم فيه المترجم بصياغات وإضافات من عنده؟
لكى أجيب لا بد أن أعثر على أصل المقال بالفرنسية، واصلت البحث، لكن الطرق كلها كانت تعيدنى إلى كتاب موروا، الذى كتبه على غرار دراسة فاليرى نفسه عن دافينشى، والمفاجأة التى أضافت الدهشة إلى الحيرة، أن الوصية المقترحة من موروا موجهة إلى «أركسيماك»، وهو طبيب أثينى استخدمه فاليرى بالفعل فى سلسلة مقالات كتبها عن الرقص والفن مستوحيًا أسلوب الحوار على «مائدة أفلاطون»، لكن فاليرى استخدم سقراط «بدلًا من أفلاطون» كممثل للفلسفة والحكمة، و«أركسيماك» كممثل للطب وعلم الجسد، و«فيدر» كممثل للشباب والشهوانية والأرستقراطية الأثينية.
استأنفت رحلة البحث من جديد مستخدمًا اسم «أركسيماك»، لكن الغموض هذه المرة لم يعد «ظلامًا مبهمًا»، لكنه اكتسب تأثير «الظل والنور» عند دافنشى، أى تحول من مجهول ملغز إلى غموض فنى، يوحى ويثير الخيال، بدلًا من أن يفضح ويكشف بوقاحة، ووضوح نهت عنه الوصية.
ملاحظات دقيقة لا يهم أن تكون واضحة:
١- لا يطاوعنى قلبى على تحميل أصلان خطأ الاقتباس، وأفضل توجيه العتاب للحركة النقدية والمختصين فى الأدب المقارن والمترجمين الذين لم يكتشفوا ولم يبحثوا أصلًا عن دقة الاقتباس، المنسوب لواحد من أشهر كتّاب العالم فى زمانه.
التعاطف مع خطأ أصلان لا يقوم على انحياز لصديق أحبه، لكنه يحترم آليات عمل الذاكرة البشرية التى تختلف بين الباحث والأكاديمى من جهة والفنان من جهة أخرى، فذاكرة الفنان لا تجد حرجًا فى تغيير الوقائع وهضمها وإعادة صياغتها والتلاعب بها، وتوظيفها عمدًا «أو سهوًا» لصالح العمل الفنى، لكن الأمر يختلف عن المؤرخ والمحقق والمختص.
٢- ذكرت فى بداية المقال اسم عمى وحارس حريتى وحامى كرامتى الحاج عبدالفتاح الجمل، دون أى توضيح آخر عن شخصيته، قاصدًا خلق حالة من الإيحاء الغامض والتصورات التى تتولد وتنمو فى عقول بعض القراء المهتمين بالأدب، أن هذا العم هو الأديب والناقد محمود السيرة «عبدالفتاح الجمل»، الذى ساهم فى اكتشاف العشرات من أدباء الستينيات، خاصة أن موضوع المقال يساعد على هذا الإيحاء، وهى حيلة مقصودة لفهم آلية صناعة الالتباس ومميزات وعيوب الغموض والفرق بين استخدام الغموض فى الكتابة المعلوماتية والكتابة الفنية.
٣- المقال لا يهدف لإدانة أحد، فالرحلة أهم وأمتع وأنفع من الوصية أو الموعظة، وهذا يعيدنى إلى رواية «مالك الحزين» الذى تحرج أصلان من تشعبها وتعقيدها إلى درجة الالتباس فاستعار وصية كاتب ما لشخص ما، وما يهمنا ليس أن فاليرى قال وناثانيل تلقى، يهمنا أن أصلان كان يرغب فى تنبيه قارئه لطريقته فى السرد، وليس تقديم شهادة على ما قاله فاليرى أو سواه، وهو أمر تتناوله الرواية من خلال شخصيتى الشيخ حسنى والشيخ جنيد، الأول أعمى يمارس حياته كمبصر ويكمل نقص الرؤية بالخيال، والثانى أعمى يمارس حياته كأعمى ويبحث عن الوضوح بعيون غيره، وأصلان فى استعارته الاقتباس تماهى مع نفسية الشيخ حسنى، وقدم وصيته للعميان كما يتخيلها ويرغب فيها، وليس كما هى فى الواقع..
قضية مطابقة الواقع وتزييفه إشكالية فى عمل السياسيين والمؤرخين وموظفى البنوك وعمال السكة الحديد وكائنات المحاكم، أما الفنانون والحالمون والمجانين والأرامل والمنتظرون لشىء ما على أرصفة العالم، فإنهم لا ينسجمون أبدًا مع الواقع كما هو، فينشغلون بتلوينه أو إنكاره أو التغافل عنه وصناعة واقع بديل يناسبهم أكثر، حتى لو لم يكن واقعهم المنشود واضحًا، أو قابلًا للتحقق، أو له وجود يذكر عند الآخرين.
٤- أسمع صوت العم أصلان يسألنى عن حكاية فولتير مع تقشير البرتقال.
أعتذر عن الإطالة واستأذنه وأستأذنكم فى تأجيل الحكاية للمقال المقبل.