إبراهيم أصلان يكتب: لقاء وحيد مع العقاد
ظل العقاد بالنسبة لى يمثل حالة من حالات الرعب الذى لا يغيب، حتى بعد أن قرأت له بعضًا من عمله الشامخ دون أن أتحول إلى واحد من قرائه المولعين ولا الكارهين.
فلقد حدث أننى الآخر لم أحصل إلا على الابتدائية، ولكنى بدأت أروح وأرجع أمام الأهل والأصدقاء محملًا بمزيد من الكتب، مما جعلنى معرضًا بين حين وآخر إلى سماع هذه العبارة المجزية.
«حضرته فاكر نفسه العقاد». وهكذا تحول الرجل الذى مثل مع طه حسين جناحى الأسطورة التى هيمنت على حياتنا الفكرية والروحية إلى هولة رهيبة لا فضيلة لها إلا الذراية به.
وفى أحد أيام عام ١٩٦٣ كنت فى زيارة الكاتب الراحل ضياء الشرقاوى بالشركة التى كان يعمل بها فى عمارة الإيموبيليا، وغادرته، وما إن تقدمته فى شارع شريف حتى فوجئت بالعقاد يأتى على نفس الرصيف، وأمامى.
تسمرت فى مكانى، استوعبته كله دفعة واحدة: القامة المديدة، البدلة الفاتحة، والنظارة، والكوفية الرفيعة الطويلة، والطربوش القصير المائل. هل كان يرتدى الطربوش حقًا أم أن خيالى هو الذى يضيفه الآن (؟).
ومثل كل أسطورة جليلة يمكن لها أن تدب على قدمين احتل الإطار المهيأ له فى روحى احتلالًا كاملًا، دون زيادة ولا نقصان.
وعندما اقترب، رفعت وجهى ورأيت العينين الصافيتين، ولما عبرنى. استدرت، ومشيت وراءه - وأيقنت أن العقاد لو كان أطول من هذا، أو أقصر من ذلك بمقدار أصبع واحدة، لما أمكن له أن يكون العقاد أبدًا.
ولم يمر وقت حتى وقف أمام واحدة من المكتبات الصغيرة. لم تكن هناك كتب، بل أدوات كتابية. ورأيته ينحنى تمامًا، ويتأمل قلمًا فى علبة مفتوحة على رف معلق، فعل ذلك ثم مد يده إلى جيب سترته وأخرج قلمه، وانحنى أكثر وهو يمسكه بين يديه وتأمله هو الآخر، ثم تأمل القلم المعروض واستغرق طويلًا فى المقارنة بين القلمين. اقتربت بدورى وقد تصورته وجد قرينا لقلمه، وقفت على بعد خطوتين عن يمينه، رأيت القلم المعروض، ورأيت القلم الذى يمسكه بين يديه، وأصابتنى دهشة بالغة.. لم يكن هناك وجه للشبه أو المقارنة بين القلمين، لا فى الحجم ولا فى اللون، وهكذا وقفت ساكنًا، وشعرت أنه أحس بى دون أن يلتفت، ثم أعاد القلم إلى جيبه وهو ينتصب، ويبتعد حتى استدار مع ناصية المبنى الكبير. واختفى.
بعد ذلك بشهور قليلة مات.