الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عزمي عبدالوهاب يكتب: القاتل يشرب القهوة فى مقهى ردىء

حرف

فى ليلةٍ تخلو من الهواء 

زحفَ الغبارُ نحو البيوتِ

كان المسرحُ مهيأ لجريمةِ غامضةِ

هذا ما أردتُ أن أقوله

أنا الذى لم يقلْ ما يرى أو يريدُ،

رأيتُ البنات يدخلن

ويخرجن بزينةِ أفسدها المطرُ الأسودُ

فى بيوت مشبوهة،

رأيتُ رجالًا يموتونَ قهرًا

وعلى المقاهى تُصنَعُ المأساةُ

فلم أصرخْ،

رأيتُ القاتلَ بصحبةِ عاهرةٍ فى المترو 

فاكتفيتُ بالفرجةِ،

عرفتُ أطفالًا يسقطونَ فى حقولِ الكتان

دون أن تمتدَ إليهم يدٌ

غير يد الفقر الغليظة،

كانت الحياةُ قبرًا مفتوحًا 

وكان المسرح مهيأ لجريمة غامضة 

وأنا الشاهد والشهيد

رأيتُ القتيل يعانق قاتله

أمام كاميرات الشوارع الجانبية

فأدرتُ ظهرى،

رأيتُ القتيلَ يربت على كتفى قاتله

«فى الواقع كان يربت على روحه الذبيحة»

فانصرفتُ،

رأيتُ ما لا أريد:

أطلقَ القاتلُ رصاصتَه

فى الصدرِ

وبينما كان القتيلُ يسقطُ 

كان القاتلُ يهذى:

قَتلْتَنى يا ذئبُ

نظرةُ الاحتقارِ فى عينيكَ داستْ على الزناد

قبلَ أن تمتد إليه يدى،

كان يهذى

عن أمه التى تجلسُ على عتبةِ البيتِ الريفى، فى انتظار العيال الضائعين فى البلاد الباردة، عن ولدٍ أصغر يتاجرُ فى الموت، ولا يربحُ أبدًا، عن خوفٍ يختبئ وراء باب غرفةٍ مستأجرةٍ فى منزل سيدةٍ كريهةٍ، وشوارع تتربصُ بالمارةِ، عن مهدئاتٍ خارج الجدول، و«وكالة البلح» التى تمنحكَ أجسادًا لنساءٍ لم يكنَّ هنا، عن بناتٍ يذهبن إلى البارات بعد منتصف الليل، ويَعُدنَ بمزيدٍ من الاضطرابِ النفسى.

يهذى ويضحكُ

يسألُ القتيلَ: لماذا لا تضحكُ؟

يبدو أنك لستَ سعيدًا!

هل صوَّبتُ رصاصتى فى العمق

هل سكنتْ ذلك المكانَ الردىء 

المكانَ الذى ذبلتْ فيها باقةُ الورد الأخيرة

حين سقطتَ فى صحراء القلب..،

يصرخُ القاتلُ:

أنا المهووسُ بالعمقِ

كما علَّمتَنى أيها القتيلُ....

دَعوْتَنى للبحث عنه

لماذا تغضبُ الآنَ حين أجده؟

جَرِّبْ أن تبكى

أنا أعرفُ أنكَ عقدتَ مصالحةً مع الفرحِ

لكن جَرِّبْ فعلًا أن تخرقها

وَتَذَكَّرْ:

هنا مطعمُ أسماك وادى النيل، وسوقُ التوفيقية، وبائعُ الخبز السخيف، والموظف الغبى فى المجلس الأعلى للثقافة، ومركز الهناجر، والجمعية العمومية لنادى الأهلى، والعرض الخاص لفيلم «ورد مسموم» وحكايات «أحمد فوزى» التى تشبه «ألف ليلة وليلة» وهناك «مكاوى سعيد» يجلس على باب «زهرة البستان» يهش النميمة التى تركها الأصحابُ على المقاعد، أيها القتيلُ: هل تعرف؟ مكاوى سعيد ماتَ، دونَ أن يمنحكَ تعويذةَ النجاةِ، لذلك جاءت الرصاصةُ فى العمقِ.

يا مسكين!

أنت تتدحرجُ جثةً على سلالم المقهى، ردىء التهوية، المقهى الذى كنتَ تكرهه، هل تذكرُ مشروبَ الجمعةِ السرى الذى يشربه الشعراء؟ بالتأكيد تَذكرُ حفارى القبور الذين كتبوا تاريخكَ، ثم مضوا تاركين معاطفَ الأسى فى روايات عبدالحكيم قاسم، من «محاولة للخروج» إلى «قدر الغرف المقبضة» تركوها لكَ وحدكَ.

أنتَ من صنعَ المأساةَ يا سيدى

هل تَذكرُ:

نيتشة: اكتبوا بدمكم، كازنتزاكيس: تقرير إلى جريكو، جان جينيه: الجرح السرى ويوميات لص، إميل سيوران: المياه كلها بلون الغرق، نيكانور بارا: فى الإخلاص يكمن الخطر، أو الفوشيا راقصة باليه، وهنا «أماديوس» و«باريس منتصف الليل» ولحظات الانتظار فى ممر الجريون، و»إديث بياف»: جوهرة اليتم المغروسة فى وحل العالم، داليدا: المنتحرة فى سينما «زاوية» بوسط القاهرة، موسيقى الجاز فى عدد «إفريقيا الشابة» من «الأهرام العربى» غرفة الخسارات البيضاء فى ركن صغير بالأهرام، وهنا كان «حارس الفنار العجوز» يمشى، ويكره الكلاب، فعاقبه الرب بكلبة جائعة قالت له: «من فمى خذ الجوع» ثم تركته ينزف فى الطريق، لتلعق الجراء من رئتيه.

يصرخ القاتل: 

جرب أن تبكى يا صديقى

ستكون أفضل

مِنْ وَضْعِ الجثة الذى تبدو عليه

أو قل: 

«يا من تذهب سوف تعود

يا من تنام سوف تنهض

يا من تمضى سوف تبعث

فالمجد لك»

هكذا تكتب كلامًا بلا معنى

وتفرح حين تكتب النساءُ 

قصائدَ عن «حارس الفنار»

عن الخسارات التى تحدثُ 

فى غرفة بعيدة عن أيدى الرب،

ماذا يضيرك لو تغنى؟

أنت لا تجيد الغناء.. نعم

ليس مهمًا 

جرب أن تغنى:

«يا حى فوق كل حى وبعد كل حياه

قادر تصبَّر جريح الروح على بلواه»

أنت ميت منذ سنوات

ما الجديد إذن 

ستقول: 

«سرقْتَنى يا لص

ثم أطلقت الرصاصة

بتلك الطريقة التافهة،

لم يكن ذلك ما أبحث عنه

أردتُ ميتة أسطورية،

بعيدا عن الأصدقاء الخونة 

والنساء الكذبة

والشوارع التى تختنق بالبكاء»

يا أيها القتيل

غدًا تأتى الطيور السوداء

لتنال حصتها من دمكَ

فاكتب 

عن المسرح المهيأ لجريمة غامضة

عن أبطال يصعدون من حقول الكتان

إلى الخشبة 

مجللين بالعار

ألم تكتب:

«منذ يومين لم أنم

لم أنم منذ يومين

كنت أتابع الحرب المشتعلة فى ثيابى

وحوارًا بين نافذة وعصفور يتيم

هارب بخوفه من قصف عشوائى،

وفى الساحة 

كان إنسان يموت

لأن الحرب مشتعلة فى ثيابه»

متْ يا رجل

كما متَّ من قبل

لتكتبَ بالدم

آخر سطر فى تلك القصيدة

عن قاتل

يشرب القهوة

فى مقهى ردىء التهوية!