الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

زهرة الأقصر.. أوليفيا عبدالشهيد.. حكاية صاحبة أول صالون ثقافى فى الصعيد

زهرة الأقصر
زهرة الأقصر

الأقصر هذه المدينة العريقة ذات التاريخ الفريد والماضى المجيد لم تخلُ قط من عظماء ومبدعين فى شتى مناحى الحياة، على مرِّ العصور. وقد شهدت المدينة حركةً أدبيةً وثقافيةً رائجة فى القرن التاسع عشر. ولعل من أبرز مظاهر هذه الحركة وأحد وجوهها المشرقة آنذاك «صالون الزهرة الأدبى» أو ما عرف باسم «المعقل الأشب».

هذا الصالون أقامته الأديبة والباحثة والمترجمة أوليفيا عبدالشهيد، التى أطلقت على نفسها اسم «الزهرة»، وكان معقلها الأشب مزار المثقفين ومقصد المبدعين وطلاب العلم والبحث من بقاع شتى.

والدها القس عبدالشهيد من أوائل من تخرجوا فى كلية «الأمريكان» فى أسيوط؛ كان عَلَمًا من أعلام مصر فى العلوم اللاهوتية، أتقنَ الإنجليزيةَ كما لو كان أحدَ أبنائها، وترجم كتبًا دينية من الإنجليزيةِ إلى العربيةِ، دونَ أن يَضَعَ اسمَه عليها، إمعانًا منه فى إنكار الذّات. كان الوالد رجلًا تقدميًا، لذا أرسلَ ابنتَه لتتلقَّى تعليمها مع أشقائها الفتيان، فى زمن كانت التقاليد تُحرِّمُ فيه تعليمَ البناتِ وتُخفيهن خلفَ أسوارِ البيوت.

أمَّا والدتُها فهى السيدةُ لوسيا تاوضروس بولس، وكان والدُها وكيلًا للقنصليةِ الألمانية فى الأقصر، وظلَّت هذه الوكالةُ فى أولادِهِ حتى تَمَّ إلغاءُ الامتيازاتِ الأجنبية.

أقصرية خريجة كلية البنات الأمريكية.. وكتبت فى كل جرائد المحروسة

ولدت «أوليفيا» التى أطلَقَت على نفسِها اسمَ «الزهرة» فى مدينة الأقصر عام ١٨٨٢، وتلقَّت تعليمَها فى كليةِ البناتِ الأمريكية وتخرَّجَت فيها. وكانت مدة الدراسة لنيل هذه الشهادة هى ٨ سنوات، وأُقيم حفلُ تخرُّجٍ كبيرٍ لهذه المناسبة، ألقت فيه «أوليفيا» خطبة باللغة الإنجليزية التى تتقنها تمامًا، بعنوان «يومُ البداية».

اتجَهَت «أوليفيا» إلى الدرسِ والبَحثِ، واتَّسَعَت دائرةُ اطِّلاعِها فَراحَت تنَهَلُ من آدابِ اللغتين العربيةِ والإنجليزيةِ، والتاريخِ والآثارِ، وغيرِها من نواحى المعرفة، وراسلت الصُّحُفِ والمجَلّات وكبارَ الكتَّابِ آنذاك، وكَتَبَت الشِّعرَ ولها ديوانٌ مطبوع، يحوى شعرَها الذى كَتَبَته وبعضَ الأشعارِ المُترجمة.

من الصُّحُفِ والمَجَلّات التى راسَلَتها وكَتَبَت فيها مقالاتِها وترجماتِها وأشعارِها: «المقتطف- الجنس اللطيف- فتاة الشرق- الإخاء- فتاة النيل- السيدات المسلمات- المرأة العربية- منيرفا- الرسالة- الثقافة- الأسرة المسلمة- المعلم الأول- رسالة السلام- الهدى- الشرق والغرب- شمس البر- الصحيفة- اليقظة- مار مرقس- الفراعنة- الصعيد- الصلاح- الرجاء»، وغيرها من المجلات الشَّهريةِ والأسبوعيةِ آنذاك.

تَعَرَّفَت إلى شخصياتٍ مصريةٍ وأجنبية بارزةٍ، وراسَلَت العديدَ منهم، من بينهم الأديبُ الأستاذ أحمد أمين، والأديبُ الشيخُ مصطفى عبدالرازق، والشيخُ الزيَّات، والأستاذ أحمد لطفى السيد، والآنسةُ مى، وكتَّابٌ غربيون أيضًا. ابتاع لها والدُها «المعقل الأشب»، بعدما أدرَكَ رَغبَتَها فى تعليمِ النَّاسِ وتثقيفِهم. وظلَّت تَفتَحُ أبوابَ مَعقلِها لهم طيلةَ ٣ سنوات، المعقل الذى ظلَّ قبلة المثقفين والأدباء آنذاك، ومن بينهم الأستاذ مراد عبدالجليل العبودى، ولقبه سمير العبودى، الذى كان أحد رواد معقلها الأشب، وقابلته وجالسته كثيرًا، وكان له الفضل فى إمدادى بالمعلومات والوثائق والصور المُلحقة عن «زهرة الأقصر» ومآثرها الأدبية التى لا تُحصى، قبل رحيله فى مايو من العام الماضى.

ألقت خطبة فى «مولد أبوالحجاج»

كان لـ«أوليفيا» العديد من المؤلفات، منها: «العائلةُ المصرية»، و«ابتسامةُ طفل ورسالةُ فتاة»، و«مَلَكُ المَحَبَّة» بالاشتراك مع الآنسة بدوك، و«أمان»، و«الصديق» وهى مجموعة خطب بلغة العرب أُلقِيَت فى مؤتمرِ جمعيةِ الاعتدال للسيداتِ المصرياتِ وتُرجِمَت إلى اللغة الإنجليزية وتمَّ طبعُها فى كتاب»، و«ومضاتٌ من سِيَرِ نِسَاءِ العَهدِ القَديم»، و«فَنُّ سَردِ القصَصِ»، و«صديقُنا»، و«عجائِبُ الدنيا السبعُ»، و«ثمانى عجائب من عجائبِ الكتاب المُقَدَّس».

ولها فى مجال الترجمة الكثيرِ من الكُتُبِ منها: «الاجتماعيات» و«المرأة الجديدة»، و«رسائل إلى الفتيات»، و«ملكةُ الممرضات»، و«جفاءُ الشجون»، و«توضيحُ الكتاب»، و«التدخين»، و«الصحةُ والحياة»، و«الأمُّ وطفلُها»، و«حكومةُ النفس»، و«ملاكُ العيد»، و«قصةُ الفداء»، و«سوانحُ فى السلام» من تأليف فريدريك لي، و«الجزء الأول من كتاب المرشد الصحى الحديث»، و«التفاؤل»، و«سفن الليل»، و«أعظمهن المحبة»، و«سعادة المحبة»، و«آثار أقدام».

لم يَقِفْ نبوغُ «أوليفيا» عند هذا الحد، بل إنَّها أخرجت بعض المسرحيات للجمعياتِ والمدارس، من بينها» «جان دارك»، و«جينيفيا»، و«إبراهيم وهاجر»، و«علبة المجوهرات»، و«حور محب»، و«كوفارس».

وكان لها نشاط اجتماعى واسع، فقد عَمِلَت على توجيهِ الشبابِ من الجنسين توجيهًا رُوحيًا وثقافيًا، وتولَّت رئاسةَ جمعية «منع المُسكرات بالأقصر»، وناصَرَت وحاضَرَت فى العديدِ من الجمعيات.

لم تكُ عنصرية قط، وانفتَحَت على كُلِّ التيارات الفكرية والاجتماعية والدينية، وحَرِصَت على مشاركة أشقائها المسلمين فى اهتماماتِهم واحتفالاتهم الدينية، حتى إنَّها حَضَرت الاحتفال بمولد سيدى أبى الحجاج الأقصرى، وألقت خطبة قصيرة فى هذا المَحفَل الدينى العريق.

زارت العديد من البلدان العربية، والتَقَت فيها بأدباء ذلك الزمان، ومن بينها فلسطين ولبنان وسورية، واستمرت رحلتها فى الحياة حتى صعدَت روحُها التوَّاقةُ للمعرفة إلى بارئها، فى صيف ١٩٦٤، بعدما ظلت إلى آخرِ لحظاتها تؤمنُ بأن المحبةَ هى الغايةُ والسبيلُ لهذه الحياة.

سوانح فى السلام 

من ترجماتها نقتطف مقطع «عند مورد الراحة»، من كتاب «سوانح فى السلام»، تأليف الكاتب الإنجليزى فردريك لى، والذى صدر فى بيروت فترة الخمسينيات:

كتب هنرى دراموند مرة ما معناه: «يا للينبوع النقى الذى يتفجر من قمم الحياة الهادئة الوادعة ويروى ظمأ النفس المحمومة، بخير المباهج العذبة وببرد غلة روعها بنقيع النشاط والدعة»، وذلك كله كان قبل أن تكون السيارة قد ابتدعت، وعُرِفَ المذياع.

لأن ما تجيشُ به المدنية الحاضرة وحياتنا الحديثةُ من عجيج الضجة واللجب والضوضاء والصخب لا يُفسحُ مكانًا للهدوء والراحة، والنغمة السائدة اليوم لا ترجع سوى معنى واحدٍ، هو الحركة الدائمة التى لا تستقر ولا تسكن، حتى ليخيل أن التوقف لحظة أثناء الكدح اليومى فيه عبثٌ كبير بالوقتِ الثمين، بل إن الواحد من أولئك الكادحين لينضب معينُ صبره ويمل، إن قضى ساعة كاملة فى انتظار حلول موعد معين.

ويتوهم أن الساعات التى يقضيها فى الانكباب المستمر على عمله هى التى يتوقف عليها نجاح حياته وازدهار مستقبله وما أقلَّ الناس الذين تعلموا أن يغتنموا فراغهم قبل شغلهم، وينتقموا باستغلال سوانح هذا الفراغ.

ومن أجل هذا تطفح دنيانا بالناس الذين أفلحوا فى ادّخار مقتنيات كثيرةٍ من ماديات هذا الوجود، ولكنهم خسروا القدرة على الاستمتاع بالحياة فى أسمى مراتبها، وفاتهم أن السعى وراء مكاسب الدنيا دون العمل على تهذيب النفس وبنيان الخلق فيه الحرمان كله، مهما يبلغ النجاح فى جمع الأموال، ومهما يتكدس المخزون من البضائع، ويتجمد من الرصيد والسندات والأسهم والقراطيس المالية.