الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الكبير الداديسي يكتب: قطقطة الإنسان.. قراءة فى رواية «قطط إسطنبول» لزياد حمامى

قطقطة الإنسان
قطقطة الإنسان

- المتتبع للأعمال السردية العربية المعاصرة يلاحظ مدى حضور القطط فى عناوين عدد من الروايات المعاصرة

- سعى الكاتب إلى أنسنة القطط بالرفع من قيمها وأفعالها وعلاقاتها بالإنسان من جهة وقطقطة الإنسان بإظهار الجانب السلبى فى علاقاته الإنسانية من جهة أخرى

- الفراعنة اعتبروا القطط إلهة البيت والخصوبة وحامية الفرعون كما اعتبرها اليابانيون جالبة الحظ السعيد والثروة

سنحاول فى هذه الدراسة مقاربة رواية «قطط إسطنبول» للروائى السورى زياد كمال حمامى والنبش فى دلالات ورمزية القطط فى هذا العمل وفق منهج الثنائيات الضدية لما «تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا فى تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات» ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإظهار تناقضات المجتمع، والربط بين ما قد يبدو منفصلًا، مع ردم الهوة بين طرفى الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفى نقيض «الإنسان/ الحيوان» لنتساءل عن السر فى اختيار القطط دون غيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة للتعبير عن الواقع العربى. 

تستمر الرواية تأكيد نفسها باعتبارها الجنس الأدبى الأنسب لتصوير ذبذبات الواقع العربى ورصد كل تفاصيله، والأقدر على مواكبة تفاعلات الإنسان العربى فى واقع زئبقى مختل عصى على التصنيف يعانى أزمة قيم، يتحول «se métamorphose» باستمرار، لا يستطيع أى تعبير فنى آخر غير الرواية مواكبة جميع تلك التفاعلات، فاستطاعت الرواية بذلك ملامسة كل المواضيع والقضايا الراهنة... ولعل من القضايا المعاصرة الحارقة فى عصرنا، قضية وضع اللاجئين العرب فى الدول المجاورة التى اضطر الكثير من العرب اللجوء إليها بعد تفجير الأوضاع بأوطانهم غداة انفجار أزمة الخليج الثانية والغزو الأمريكى للعراق، وما نتج عنها من اندلاع أحداث الربيع العربى التى دحرت الكثير من العرب خارج أوطانهم... فتهاوت قيمة العربى فى بورصة المعاملات الإنسانية، وجعلته يتقبل المهانة ويعيش معاناة الإذلال والاحتقار. 

وقد حاولت الرواية تصوير هذا الواقع وتجاوزت تشيىء الإنسان العربى إلى حيونته وإبراز أرذل الحيوانات أرقى منه، بعدما رأى الروائى العربى أن اللغة المباشرة عاجزة عن استيعاب حماقات وزئبقية هذا العصر، وربما وجد فى الرمزية الوسيلة الأنسب للتعبير عن واقع اختلت فيه الموازين وصار فيه الحيوان «الذى كان رمزًا للوحشية والهمجية» أرقى من الإنسان وقيمه الإنسانية التى تتبجح كل حين بالكرامة والتسامح والتضامن... وقد يكون فى حيونة الإنسان، وأنسنة الحيوان طريقة للتعبير عن واقع يعيش أزمة قيم، واقع أشبه ما يكون بغابة البقاء فيها للفاسد الأقوى، ولا مكان فيها للنبل والشرف، وضحاياه الأوائل العفة والكرامة الإنسانية... ولعل من الروايات الصادرة حديثًا فى هذا الموضوع رواية «قطط إسطنبول» للروائى السورى زياد كمال حمامى لتضاف إلى فسيفساء مشروعه الروائى فى: «ثلاثية الحرب السورية واللجوء» بعد روايات «الظهور الأخير للجد العظيم» و«الخاتم الأعظم» ورواية «قيامة البتول الأخيرة».

تحكى رواية «قطط إسطنبول» قصة لاجئ سورى - اختار له السارد اسم اللولو - يتفاعل مع عدد من القوى الفاعلة أغلبهم لاجئون سوريون فى تركيا وقطته التى كانت طيلة أحداث الرواية تحدثه وتلهمه فجعلها أنيسة دربه بعد أن اختار لها اسم الآنسة «هند خانم»، وهى فى نظره «قطة مختلفة عن كلّ القطط التى تعجّ بها إسطنبول» ص.٢٤ ولم يقتصر السرد على حياة اللولو فى اللجوء، بل كان السرد يتراجع فى بعض اللحظات ليذكر بحياة هذه الشخصية فى بلادها سوريا قبل الحرب، كما كان ينفتح على المستقبل الذى يتطلع إليه بطل الرواية. 

غلاف الرواية

أحداث الرواية وفضاؤها تضع رواية «قطط إسطنبول» فى إطار أدب الهامش الذى يقارب معاناة المهمشين، ومنها معاناة اللاجئين والمشردين وما يتعرضون له من استغلال واضطهاد يفقدهم أحيانًا إنسانيتهم، ويجعل حياتهم أشبه بحياة القطط الضالة والكلاب المشردة، هذا ما كشفت عنه الرواية منذ أول فقرة فيها، فقد افتتحت الرواية بأول مشهد يقارن فيه السارد بين اللاجئين المشردين والقطط والكلاب الضالة: «ليس لدى المشردين مأوى فى ليالى البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل، أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطِبة أو الأماكن المهجورة، يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل»، بداية الرواية ص٧. وظلت مقارنة اللاجئين بالقطط حاضرة فى معظم المشاهد سواء وهم يتحركون فى المجتمع أو وهم قابعون فى السجون. يقول السارد واصفًا اللاجئين فى السجن «الأجساد النائمة على جوانبها مثل القطط» ص١٠٠.

تدور معظم الأحداث بحى الغجر وهو «أسوأ أحياء إسطنبول سمعة» ص ٣١ /٣٢ وهو حى يعج بـ«قوَّاد الدعارة وبائعى الحبوب المخدرة والحشيش والزبَّالين المتجولين، حتى عدم فتح أبواب البيوت أثناء سماع جرس المبنى سرتْ عادة، خشية أن يكون القادمُ لصّا أو مُحتالًا أو عصابة ...» ص٣٢.

الرواية بهذا المحتوى تفصح عن مضمونها، وتنكشف للقارئ كرواية تحاول معالجة قضايا إنسانية كثيرة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... فتبسط للقارئ ملامح تلك الأبعاد بمجرد تصفح المشهد الأول من المشاهد الخمسة والأربعين التى تتشكل منها الرواية. وفيه يصادف اللاجئ «اللولو» بعد منتصف ليل فى حديقة من حدائق إسطنبول فتاة سورية تدعى شام وهى فى حالة نفسية منهارة، حاول مساعدتها بأخذها إلى بناية فى حى الغجر على أطراف «اسنيورت» ليجد نفسه فى ماخور معد لاستغلال فتيات جنسيًا من جنسيات عربية مختلفة منهن «ياسمين المغربية، جليلة من اليمن، بتول اللبنانية، سماح العراقية، مريومة الليبية...»، ما يجعل معظم القراء يفترضون انطلاقًا من هذا الافتتاح أن القطط فى العنوان قد تكون تعبيرًا رمزيًا عن أولئك الفتيات ومن هن فى وضعهن، خاصة أنه شبههن بالقطط فقال فى ياسمين «ياسمينة المغربية، هى شابة سمراء جميلة، عيناها صغيرتان مثل قطة إفريقية»... ويتعزز هذا الافتراض فى تلك العداوة الشرسة المضمرة فى الوعى الإنسانى بين الكلاب والقطط، فأول ما تلفظت به القطة «شام» فى حواراتها هو شتم الكلاب، فقد ظهرت وهى لا تكف عن وصف الآخرين بالكلاب «تنتهى شتائمها بترديد كلمة واحدة: كلاب... كلاب»، ص٨ «تصرخ: كلاب كلّكم كلاب» ص٢٠.

إذا كانت هذه المؤشرات فى بداية الرواية تسمح بافتراض إطلاق القطط على كل من هو فى وضعية هذه الفتيات... فإن ذلك يفرض طرح أسئلة من قبيل: ما سبب اختيار القطط، دون غيرها من الحيوانات خاصة أن الرواية ذكرت الكلاب قبل القطط فى أول تشبيه لحال اللاجئين والمشردين «يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل»؟ وما دلالة ورمزية القطط فى هذه الرواية؟ وهل للقطط دلالة إيجابية أم دلالة سالبة خاصة أن للقطط فى الفكر الإنسانى معانى متباينة؟. 

لا بد من الإشارة منذ البداية إلى أن القطط كانت موضوع دراسات فلسفية فكرية كثيرة نكتفى للإشارة منها إلى كتاب «فلسفة القطط» لجون جراى ومشروع البروفيسورة لى كلير لا بيرج «ماركس الموجه للقطط: Marx for Cats»، كما حضرت القطط فى عدد من الأعمال الفنية والسردية منذ القديم مع اختلاف النظر إلى القطط وتباين الموقف منها بين: 

موقف يبجل القطط ويبرز إيجابياتها فى حياة الإنسان كحمايته من القوارض والزواحف السامة التى قد تهدد حياته، إضافة إلى دورها فى تسلية الإنسان ومؤانسته، وبين من استعملها رمزًا حسب الرسائل المراد تبليغها... لذلك وجدنا من المؤلفات ما تدعو إلى الاستفادة من القطط كما فى كتاب «فكر وتصرف كأنك قط» لستيفان جارنييه، ترجمة فالس بورس. وهو موقف يجد جذوره فى ثقافات قديمة أضفت على القطط هالة من التقديس كما كان عند الفراعنة الذين اعتبروها إلهة البيت والخصوبة وحامية الفرعون، كما اعتبرها اليابانيون جالبة الحظ السعيد والثروة. وتوجد لدى الأسكندنافيين حكايات وأساطير تظهر فيها قطتان تجران عربة الإلهة فريا الإلهة المرتبطة فى الثقافة الأسكندنافية بالحب والجنس والجمال والخصوبة والذهب والحرب والموت... وفى الثقافة الإسلامية قد يكون الإحسان إلى القطط سبيلًا لدخول الجنة، وسوء معاملتها سببًا فى دخول جهنم، إذ روى عن الرسول قوله «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فى هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هى أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هى تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ».

• فى مقابل ذلك وجد ويوجد موقف يهين القطط ويعتبرها رمزًا للشر والدناسة وسببًا فى نقل الكثير من الأمراض للبشر، إضافة إلى ما قد يسببه شعرها وفضلاتها من إزعاج أو مرض لبعض الأشخاص الذين لهم حساسية تجاه ذلك، لذلك يدعو أصحاب هذا الموقف لعدم مخالطة القطط، وضرورة إبعادها عن البيت.

والمتتبع للأعمال السردية العربية المعاصرة يلاحظ مدى حضور القطط فى عناوين عدد من الروايات المعاصرة مثل رواية «خمارة القط الأسود» لنجيب محفوظ، ورواية «قطط العام الفائت» لإبراهيم عبدالمجيد، ورواية «قطة فى عرين الأسد» للكاتبة منى سلام ومنها «قطط إسطنبول»... فكيف حضرت القطط فى هذه الرواية الأخيرة.؟ وما دلالات حضورها فى الرواية؟

فى قراءة لرواية «قطط إسطنبول» تبين أن لفظة «قطط» تكررت فى الرواية حوالى ١٢٨ مرة، توزعت حسب الجنس «مذكر قط ٣٤ مرة ومؤنث قطة ٤٨ مرة» وذكرت جمعًا «قطط ٤٦ مرة» واستعمل اللفظ حوالى مائة مرة بمعناه الحقيقى فى إشارة إلى ذلك «الحيوان المستأنس الأليف من فصيلة السنوريات»، وفى الحالات الأخرى استعير القط للتعبير عن الإنسان، أو استعير الإنسان للتعبير عن القطط... فتراوح استعماله بين الرفع من قيمة القطط وأنسنتها بإسناد أفعال وصفات إنسانية إليها، وبين الحط من قيمة الإنسان وقطقطته وإبرازه فى أدنى المراتب الحيوانية.

وبما أن الرواية بنيت على التقابل بين عالم واقعى مرفوض تسوده قيم سالبة تقوم على الاستغلال والاضطهاد يرفضه البطل، وبين عالم منشود يحلم البطل بتحقيقه يستعيد فيه إنسانيته وتراعى فيه القيم الإنسانية... فإن لفظ «قطط» ومشتقاتها تحكمت فيها نفس الثنائية: هكذا وجدنا لفظ «قط» الذى ارتبط فى الغالب باسم البطل «اللولو» يتوزع بين دلالتين متقابلتين: دلالة موجبة تبرز القط قويًا قادرًا على المناورة والانتصار على خصومه «اللولو يتلاعب بالجميع تلاعب القط بالفأر» ص١٠٢، ودلالة سالبة هى الأكثر حضورًا يرفض فيها اللولو أن يحيا حياة القطط «أنا لست قطًا»، ص١٦١. كما يستعمل كلمة قط فى سياقات تحط من شأن البطل ويرفض فيها «أن يكون مجرد شِبْهَ قط من قطط إسطنبول»، ص ١٦١ وينتقد وضعًا تحط فيه الكرامة الإنسانية سواء بمدينة حلب أيام الحرب حيث «أصبحنا فيه مجرد قطط تائهة»، ص١١٢ أو بمدينة إسطنبول حيث قيل له «أنت مجرد قط لاجئ»، ص١٨٢... وحتى إذا قصد قنصلية بلاده بحثًا عن وثائق تؤكد لديه صفة لاجئ، وتتيح له حرية الحركة فى تركيا «أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب»، ص٢٢٤ فلم يبق أمامه سوى التساؤل فى حالة اليأس «هل أنا محنط مثل قط؟» ص ٢٣٦... والتساؤل فى حال التفاؤل «ماذا لو تحولت إلى قط جائع؟»، ص٢٥٥.

زياد حمامي

هكذا تتغير دلالة القط فى ارتباطها بالبطل اللولو، وهى شخصية مبنية فى الأساس على التقابل بين دلالة اسمه الإيجابية، ودلالة حياته التى لم تكن سوى سلسلة من الخيبات والمآسى: فاسمه الحقيقى كما ورد فى الرواية «جميل بن سعيد بن فوزية الحلبى»، شاب لم يتجاوز الثلاثين سنة يشعر أن صفات اسمه لا تطابق فيه شيئًا، يقول: «لستُ شابًا مثيرًا تتودّد إليه النساء، ولم يكن أبى سعيدًا لقد عاش عاملًا، فى مزرعة الأغا، وكان يقول دائمًا: كلاب الأغا تعيش أحسن منَّا. لم تفُزْ أمّى بأى شىء، ولا أدرى لماذا أسموها فوزية؟! وهى المرأة التى كانت تلعن حظها العاثر دائمًا، وتشتم عمرَها كله، حتى حين أنجبتنى، كانت تدير وجهها عنّى، وتقول لى: ما أتعسَك! إنكَ تشبه والدك... ولكن السؤال الذى يجب ألا أنساه، كيف سأغيّر حياتى وابنى؟ حين أستطيع دفنَ الماضى اللئيم، سأكون شخصًا آخر غير الذى يعدونه لاجئًا منبوذًا»، ص ١٢٠.

ومن مظاهر التقابل فى شخصية البطل أيضًا ذلك التقاطع بين الكاتب والسارد والبطل، والتداخل بين السيرى التاريخى الذى عاشه الكاتب وبين الروائى المتخيل الذى تخيله السارد، فحتى وإن ظلت شخصية اللولو شخصية متخيلة لا وجود لها إلا على الورق، فقارئ الرواية يشم الكثير من الأحداث الذاتية من سيرة الكاتب ينسبها السارد للولو عبر سارد يتحكم فى رقاب شخصياته، يبعد ويقصى من يشاء ويعلى من قدر من يحب، يعرف كل شىء عن شخصياته: «تفاصيل ماضيهم، وما يعيشونه فى حاضرهم، وما يفكرون فيه فى خلوتهم وحتى ما يحلمون به، بل كان يتسلل إلى عقل القطط فيعرف ما تفكر فيه وما يدور بخلدها، وما يسعدها، ولم ترتح من زوارها، ومن وما يقلق راحتها، فيحرك كل الشخصيات على هواه».

ومن مظاهر التقابل كذلك فى حياة البطل الروائية التركيز على تلك العلاقات المأزومة بين بطل يحاول الظهور بطاقة وقيم إيجابية، يصارع واقعًا مأزومًا ينخره الفساد ولا أمل فى إصلاحه وتغييره، حيث حاول اللولو التعامل بطهرانية فى واقع موبوء فاسد، اشتغل مهنًا كثيرة دون أن تؤمن له أى مهنة لقمة عيش كريم، يقول اللولو «اشتغلتُ فى البداية عاملَ بناء كى أتابع دراستى، ثم بائع «موبايلات» مستعملة، تطورت قليلًا، افتتحت محلًا لبيع وتصليح الآلات الموسيقية، خسرت، ربحت، غامرت، اجتهدت، قاومت كلّ ما يحبط هدفى، ومن أجله سأستمر»، ص١٧٥ ويقول فى مكان آخر «اشتغلتُ فى سوق الخضار حمَّالًا، للبطيخ ومناولًا، ومنظفًا للمستودعات...»، ويقول فيه السارد «أمام وابلٍ من الإحباط المتتالى، والتنقُّلِ من مهنة غسلِ الصحون فى مطعمٍ ما، إلى حمَّالٍ للأدوات المنزلية المستعملة، ومن مُوَزّع المياه الغازيّة المعبأة بعبوات بلاستيكية إلى صيَّاح فى «بازار» المنطقة الكبير، ناهيك عن أعمال الدهان، ومهنٍ أخرى، وَجَد اللولو عملًا مقبولًا بعد عُزلة مقيتة، لم يحصد فيها غير الندم...»، ص ٢٤٩ وكل شغل اشتغله إلا اكتشف كيف يتسلل الفساد إلى دواليبه، وكيف بنى على امتصاص دم الفقراء، ويكفى الإشارة إلى ما وقف عليه من تزوير فى تواريخ استهلاك المواد، وعبث الفئران والصراصير فوق المأكولات التى تقدم للناس، ما جعله يقف مشدوها ويتساءل «أكنَّا نأكل من هذه الأغذية الفاسدة ولا ننتبه إلى بداية تاريخ الإنتاج، ونهاية مدّته الصحية؟!».  يقول السارد واصفًا المخزن الذى أوكلت إليه مهمة ترتيب المواد الغذائية فيه «المخزن الكبير تقطنه جحافلُ الفئران، وربما أبرمت عهودًا مع كتائب القوارضِ المرئية وغير المرئية، رأى بعينيه الثاقبتين تلك الصراصيرَ المنفردة، تمشى فوق البقايا الطريّة لنُتَفٍ من حلويات سكريّة ترقد مهروسة على الأرض، وها هى تعبث فى المكان، دون أن يمنعها أو يبيدها أحد.... أصابه شىءٌ من الغثيان، عندما تأكد أن كلّ ما فى المخزن الكبير قد فقد صلاحيتَه منذ وقتٍ طويل!»، ص٢٥٢ وعلى الرغم من كل تلك السوداوية فى الحياة، والفساد الذى يعمّ الواقع فقد ظل اللولو أبىّ النفس عزيزها لا يقبل الإهانة، ولا يرضى لنفسه أن يعيش عالة على أحد، بل و«لا يقبل أن يدفع أحدٌ من الذين يجلسون على طاولته ليرة واحدة. هو يتكفل بكل ش»ء» ص ٢٩.

هكذا ظل هذا البطل المأساوى يصارع الحياة، والسارد يضيق عليه الخناق، وما إن يفتح أمامه أملًا كاذبًا حتى يكتشف بداية معاناة جديدة، تكالبت عليه المشاكل، وتحالفت عليه القوى الإنسانية وحتى الطبيعية، فما كاد يجد عملًا يضمن له دخلًا يكفيه ضنك العيش، من خلال «فتح «بسطة» صغيرة يضعها على أحد الأرصفة، ويبيع فيها «الجوارب والكلاسين» والقمصان الرجالية الداخلية...»، ص ١١٥ حتى ضرب إسطنبول فيضان جرف كل شىء - ولم تسلم منه حتى القطط- فجرف «بسطة» اللولو ما أزّم علاقته بصديقه عبود الأقرع الذى موّل المشروع.

ومن ضمن الثنائيات التى تحكمت فى مسار السرد نجد قطتين رئيسيتين فقط وسط كل هذا العالم المأساوى التراجيدى كانتا محببتين لقلب البطل اللولو: القطة الأولى: تجلت بمظهر إنسانى مثلته فتاة سورية فى العشرينيات من عمرها اختار لها السارد اسم «شام». أما القطة الثانية: فقدمتها الرواية بمظهر حيوانى مثلته قطة اختار لها السارد اسم «هند خانم» وقد خضعت هاتان القطتان لنفس الثنائية وبنيت قصصهما هى الأخرى على التقابل:

* هكذا قدم لنا السارد القطة الإنسان شام بقيمتين متناقضتين والنظر إليها من زاويتين مختلفتين نظرة إلى الجسد ونظرة إلى الموقف: وبقدر التركيز على جمال شام جسديًا وإظهار مفاتنها، فهى فتاة جميلة فى العشرينيات من عمرها، جمالها فطرى يعشقه كل من رآه، فقد كانت منذ طفولتها «طفلة مرِحة، ذات شعر أشقر، وعينين سماويتين.. قوامها متناسق، وصدرها أبيض مثل الحليب الشهى»، ص٣٣/٣٤ بذات القدر رصدت الرواية التحول الذى أصاب جسد هذه القطة المشاكسة، إذ صارت فى نهاية الرواية فتاة مريضة منهكة جسديًا «لم يعد قلبها يشتعل، وصراخها لم يعد يتعالى، العطش والجوع والبرد يحيلها إلى كتلة لا تقدر على الحِراك، ولا حتى على الزحف مثل سلحفاة عاجزة، تحسُّ أنها فى قبرها، بلا شواهد، ولا صلاة، وتمنّت أن تنهار الجدران فوقها، تقبرها، وتقطع أنفاسها...»، ص١٦٧ لقد انتهى جسد «شام» الفاتن، وصارت جسدًا لا يحرك شهوة أحد، جسدًا يصفه اللولو للقطة المغربية ياسمين قائلًا: «تفوح منها رائحة العطر والحشيش معًا... كانت مستسلمة، باردة، لا شهوة تحركها ولا رغبة تناديها، مثلَ دمية لا أحاسيسَ فيها، الفارق بيننا وبين الدمى فى تلك اللحظة، أننا نملك أرواحًا مكسورة، متهالكة، مستبدة، مضطهدة، والدمى يا ياسمينة، كما تعرفين، هى بلا روح، ولكننا فى تلك اللحظة كنَّا معًا بلا حياة»، ص١٦٨.

بالإضافة إلى هذا التقابل على مستوى الجسد، الذى تحول من جسد فاتن إلى جسد متهالك، رصدت الرواية تقابلًا فى القيم التى عاشت عليها القطة «شام»، فهى وإن كانت تمتهن الدعارة فإنها تحمل قيم التمرد والرفض إنها قطة مشاكسة تحاول «التمرد على شرف مهنة الدعارة» بعد أن رفعت شعار «الموت أشرف لى من أن أكون داعرة»، ص٢١ تصيح بأعلى صوتها «أنا شام... أنا لستُ داعرة»، ص٧.

ويتجلى التقابل أكثر فى البون الشاسع بين حجم المعاناة الداخلية والمظهر الخارجى فى حياة «شام»، فهى كانت تظهر للعامة وحتى لأقرب الناس إليها أمها أنها تعيش حياة مستقرة فى أسرة محافظة، لكنها فى العمق كانت تعانى ألم جرح غائر بسبب الاغتصاب والاستغلال الجنسى فى سن صغيرة من طرف زوج أمها الذى كان بمثابة والدها. 

* القطة الثانية المحببة لقلب اللولو حيوان آثر السارد والبطل أن يصفاها بالآنسة والأميرة والقطة الفاضلة ص١٠٦ إنها «جميلةِ الجميلات الآنسة «هند خانم»، ذات الشعر الذهب»، والغرّة الوردية، والعيون الزرق السماوية...»، ص٢٣ بخلاف كل القوى الفاعلة التى كانت مواقفها تتطور وتتغير حسب الأحداث، فقد ظلت «هند خانم» على نفس الصورة الإيجابية طيلة النص الروائى فهى «مؤمنة، ولا يمكن أى أحد آخرَ أن يغيّر رأيها أبدًا»، ص٢٤. وهى على الدوام «تحمل قلبًا طيبًا مسامحًا) ص٩٩. «فهى قطة حساسة جدًا»، ص٩٨ و«قطة ودودة، قطة مميزة» ص ٩٩... «وهى القطة التى لم يخب ظنُّها فى غدر بنى البشر أبدًا...»، ص١١٠ و«تعرف ما يخبّئه الإنسان من مشاعر نحوها»، ص١١١... فهى على الدوام جميلة لا يتأثر جمالها بالمتغيرات حولها «أن القطة الجميلة «هند خانم»، وهى القطة المختلفة عن بقية القطط...» ص١٧٤. 

وبخلاف كل الشخصيات التى تنوعت علاقتها بالبطل بين المد والجزر، فقد ظلت القطة «هند خانم» تحافظ على نفس العلاقة مع البطل تداعبه «تمدُّ الآنسة «هند خانم» يدَها الناعمة، تداعب صدره، فى منطقة القلب العاشق غيرِ الآمنة»، ص٣١ تشكل له السند والعون فى كل اللحظات الصعبة، فهى من جعلته يتراجع عن تنفيذ الجريمة لما فكر فى اختطاف طفل وطلب دية من أهله، فتراجع عن فكرته احترامًا لمشاعر «هند خانم» ص١٨٢، وما عاد إلى القبو إلا «نظرت إليه القطة الجميلة مستفسرة عمَّا فكر به»، ص٣١، فقد لعبت دور الأم والحبيبة والصديقة التى تنصحه وتشجعه على القيام بالأفعال الإيجابية، وتحول بينه وبين كل ما هو سلبى: فهى التى فرضت عليه فتح حقيبة صديقه الشاعر المتوفى «نادر الرحَّال» وهى التى أوحت إليه بقرار الانتقام لقطته المحبوبة «شام» ص١٥٠... إن القطة «هند خانم» كانت دائمًا تنام بقرب البطل، وتسهر معه فى أيام الشدة، تواسيه، تشعر بالخطر الذى يحدق به، تنبهه لتربص الأعداء، فلما شعرت بسوء علاقة اللولو ببراق الإسطنبولى رآها «تبكى ثم تبكى ملء العين والذاكرة»، ص١٧٨ ويكفى القطة «هند خانم» فخرًا أنها وهى من جعلته تخلى عن فكرة ارتكاب جريمة، فلم يتراجع عما كان قد خطط له إلا احترامًا لمشاعرها، قال بعدما اقتنع بصواب رأيها: «لا أريدها أن تفقد الثقة والأمان، ولا أن تنظر إلى وجه»، كما تنظر إلى وجه رجلٍ مجرم...»، ص ١٨٣.

هكذا يكتشف القارئ أن الرواية فى كل تفاصيلها تؤنسن القطة «هند خانم» بل تجعل لها وظائف لم يتشرف بها الإنسان فى النص، فعاشت حياة روائية بعيدة عن الفحش والفحشاء، يقول فيها السارد «ولا يمكن لمثلها أنْ يرتكب الفاحشة، ولا أن تحمِل سِفاحًا، هذا أمرٌ معيبٌ فى حقّها»، ص١٦٠ فهى قطة صاحبة مبادئ لا تتوفر فى أغلب شخصيات الرواية فهى دائمًا «تنتصر لمبادئها الواضحة»، ص١٧٧ فيما كان الفساد والدعارة والغش والاستغلال والكراهية العملة الأكثر رواجًا بين بنى البشر، والقيم الأكثر تحريكًا للعلاقات الإنسانية... «لذلك لم يكن للبطل إلا أن يعامل القطة «هند خانم» بكل مودّةٍ واحترام وتقدير»، ص١٠٧ فى الوقت الذى انعدمت فيه الثقة بين الأصدقاء وصار شخص يرى نفسه النموذج الأمثل ينظر للآخرين نظرة احتقار وازدراء لا يرى فيها إلا البلادة والتهور مهما كانت الصداقة، ولنستمع كيف يقدم السارد شخصية عبود الأقرع صديق اللولو الذى لا يفارقه «أما «عبود الأقرع»، فهو حكاية مختلفة بحدّ ذاتها، وقد عَدَّه اللولو الظلَّ الذى لا يمكن التخلى عنه، رغم بلاهته أحيانًا، وغبائه السرمدى، وتهوّره الدائم الذى قد يسبب بعض الحرج فى أوقات مصيرية حاسمة»، ص ٣٠. هكذا صار البطل ينظر لزملائه من الشخصيات الآدمية كقطط متشردة ضالة، فيما يرفع قطته «هند خانم» إلى مستوى الملائكة فى قيمها وتصرفاته. 

فى ختام هذه الدراسة، يتضح مدى التقابل الذى بنيت عليه أحداث الرواية، وكيف سعى الكاتب زياد كمال حمامى إلى أنسنة القطط بالرفع من قيمها وأفعالها وعلاقاتها بالإنسان من جهة، وقطقطة الإنسان بإظهار الجانب السلبى فى علاقاته الإنسانية من جهة أخرى، هكذا وجدنا القطط فى الرواية تتعامل وفق مبادئ ومشاعر صادقة فى أحاسيسها وأفعالها ولكل قطة «هوية ودفتر صحى»... فى وقت فشل اللولو وغيره من اللاجئين فى الحصول على «الكيملك» «بطاقة الحماية الدولية للاجئين التى تكفلها كل القوانين الدولية»، وأكثر من ذلك قصد قنصلية بلده التى يفترض فيها أن تحمى كل مواطن وتضمن له حقوقه، قصدها بحثًا عن الأمن والأمان فـ«أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب»، ص٢٢٤... لكن كل ذلك لا يغيب آثار التضامن بين اللاجئين فى بعض اللحظات الحرجة كما تجلى فى سلوك لاجئين عندما تكفلوا «بدفع ما كانت تدفعه سلام لأهلها لشراء الدواء بعدما قتلها شاذ معتوه»، وتضامن اللولو مع المرأة المسنة فى محنة تجاوز الحدود، وتلك خاصية من خصائص الثنائيات التى اعتمدناها منهجًا فى مقاربة هذه الرواية لما «تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا فى تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات». 

ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإبراز المحاسن والمساوئ، وإظهار تناقضات المجتمع، على الربط بين ما قد يبدو منفصلًا، وردم الهوة بين طرفى الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفى نقيض «الإنسان/ الحيوان»، فبأضدادها تتميز الأشياء... لذلك نأمل أن نكون برصد بعض الثنائيات قد وقفنا على إبراز الاختلافات، وإظهار التناقضات، فى حياة مبنية على التقابل، لا استمرار فيها إلا بوجود الخير والشر، والصالح والفاسد، والمستغِل والمستغَل ومن وظائف الرواية والروائى إضاءة العتمات التى يعشش فيها الفساد وإماطة اللثام عن المسكوت عنه وكشف المستور.