السبت 21 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الشاعر الكبير إبراهيم داود يكتب: موسيقى زرقاء

حرف

الكلام أحيانًا يشعرك بالأمان

حتى وأنت تكلّم نفسك

وأنت عائد آخر الليل

ولا تعرف ماذا ينتظرك فى الصباح

كنت أعتقد أن للخوف رائحة

وقلت لك هذا

و أذكر أنك ابتسمت

ابتسامةَ الذى تذكّر شيئًا

الخوف هذه المرة له ملامح واضحة

وربما تصادفه فى طريقك إلى مطبخ بيتك

وتقنع نفسك أنك لا تخاف

وتنسى سبب ذهابك إلى المطبخ 

وأنت عائد لمتابعة الفيلم العربى القديم

الفيلم.. 

الذى شاهدته عشرات المرات

****

قيل إنها مريضة

وإن أهلها انصرفوا عنها

.. الأسطورة تنبأت بهذا

ولكن المدينةَ تعافت

وأضاءت الشوارع من جديد

.. عاشقٌ غريب ظهر فى الناسْ

وبدأ يكنس الشوارعَ

ويسقى الزرعَ

.. قيل إنه مجنون

الأسطورةُ تنبأت بطوفانٍ من العشاق المجانين

احتلوا الأسطح والمداخلَ

وحرسوا الحدائق القليلةَ

وراحوا يغنون معًا

لأطفال لا وجود لهم..

الغناء كبر مع الوقت

وصار نحيبًا 

المدينة كشفت شَعرها 

وجلست فى منتصف الطريق

الأسطورة تنبأت بموتها فى حادث سير

ولكنها عاشت

ومات عشاقُها

****

قصيدة تائهة

تطاردنى منذ عامين

كتبتُها على عجل فى الطريق

كنتُ أعبر فيها إلى الجانب الآخر من العمرِ

أذكر أنها أنقذتنى من الغرق

وجعلتنى أتوقف عن النظر إلى السقف

كتبتها فى الصيفِ

وكان الحزنُ بداخلها غيومًا واطئة فى قطار رخيص 

إيقاعُها كان ساذجًا

أحسها الآن كأننى وصلت

أفتقدها..

ولا أريدُ العثور عليها

****

استيقظ الناس ذات صباح على رائحة جديدة

قيل لهم: المدينة أصبحت قديمة

وأن الطلاء الجديد ضرورى

.. لأننا فى انتظار زائرين

مياسر الناس خرجوا إلى المدن الجديدة

وأخذوا معهم الماءَ والشجرْ

وتركوا الآخرين يقاومون

ذهبوا الى النهر

فلم يجدوا نهرًا

الرائحة جلست

ولم يأت أحد

رائحة أخرى استقبلت الذين خرجوا

تعايشوا معها

بعد سنوات ...

صار للرائحة صوت

ولَم يعد هناك من يصغى إلى أحد

ولم يعد للمدينة صوت

****

كائن غريب ظهر فى المدينة.. 

قِيل إنه يتجول عاريًا فى صحراء المماليك 

وله جُحر فى جبل المقطم

سكان البنايات الكبيرة يميزون خطواته 

تتسارع دقات قلوبهم حين يعبر

سكان الغرف الضيقة يلوحون له 

والنوافذ مغلقة

يعتقدون أنه سيأخذهم إلى البحر!

يقال إنه يُشفق على الحيوانات الضالة فى الشوارع

ويخاف من غضب الأطفال

العارفون أكدوا أنه ترك الدلتا وهو صغير

وآخرون قالوا إنه ولد فى الجنوب

وإنه كان يبكى أيام الفيضان

وإن بكاءه عواصف .. 

ولاة المدينة وولاة الأقاليم 

لا يؤمنون بالخرافات

الخرافات التى يؤمن بها 

أصحاب القلوب البيضاء

الذين ينتظرون معجزةً تبدد وحشتهم

الطيبون الحزانى

الذين إذا ابتسموا

يسقط المطر

الطيبون الذين لا أحد يعرف كيف يأخذ بيدهم

لكى يعبروا هذه الأيام

الأيام التى قل فيها الماء

وكثُر الخوف والحزن والريبة والصمت

الذين لا يؤمنون بالخرافات 

يعرفون أنهم فى خطر

وأن حراسهم فى خطر

أما الذين ينتظرون معجزة 

تبدد وحشتهم

فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

****

الأُلفةُ سكَنَت جنبى

فى البيت الذى اختفى فجأةً

من «مصر القديمة»

الجيران الخمسة وأولادهم

كانوا يخافون الصعود ليلًا

وكنت ألتقيهم مبتسمًا

وأقول لهم «الألفة ليس لها أسنان»

وكانوا يشفقون علىّ

فى الصعود 

وفى النزولِ

وحين تصدع البيتُ أول مرةٍ

جلسوا أمام غرفتى

وغنوا معًا

وكان القمر ليلتها فى متناول اليد

وكانت موسيقى زرقاء تتسلل

من عقب الباب.