الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مصطفى نصر يكتب: عزت عوض الله.. مطرب الإسكندرية الأول

عزت عوض الله
عزت عوض الله

- هناك أقاويل غير مؤكدة بأن موته كان جريمة مدبرة

- حياته تمثل دراما حزينة قريبة من الأساطير اليونانية القديمة

- عزت عوض الله مسيحى وز ينب عوض الله مطربة مسلمة الديانة ولا يمكن أن تكون أخته

إننى أرى أن عزت عوض الله واحد من أهم المطربين الذين ظهروا فى مصر فى الآونة الأخيرة. وهو أهم مطرب ظهر فى الإسكندرية على الإطلاق. كما أن حياته تمثل دراما حزينة، قريبة من الأساطير اليونانية القديمة، فهو مثل سيزيف الذى عاقبته الآلهة بأن جعلته يحمل صخرة ثقيلة ويصعد بها جبلًا عاليًا، وما أن يصل إلى أعلى الجبل، حتى تقع الصخرة منه فيعاود الصعود بها مرة أخرى إلى ما لا نهاية. وسيزيف قد تحدى الآلهة وهناك أسباب مقنعة لعذابه هذا، لكن عزت عوض الله لم يجن سوى أنه نشأ فى الإسكندرية- مقبرة الفنون والآداب- وغنى فى إذاعتها ذات الصوت المصحوب بالصفير الذى لا يصل مداه لأبعد من مدينة كفر الدوار القريبة جدًا من الإسكندرية، وقد جاء بعد ثورة يوليو 1952 التى أتت بمشروع تنموى وقومى، فشجعت الغناء الوطنى، وأحدثت ثورة ثقافية عظيمة أدت إلى نهضة سينمائية ومسرحية جادة، فلم يجد الغناء الشعبى مكانًا فيها. كما أن عزت عوض الله، سرعان ما استجاب لليأس، فلم يدافع عن موهبته النادرة، وهرب من أحزانه إلى جلسة فى شارع مزدحم بورش صناعة الأحذية خلف سنترال محطة مصر. تتعامل هذه الورش مع محلات الأحذية فى محطة الرمل والمنشية. وصانع أحذية اسمه السيد ماضى. يجيد العزف على العود ويجيد غناء أغانى عبدالوهاب وأم كلثوم. ويغنى عزت عوض الله بمشاركة مجموعة من الهواة، ولكى يلهى نفسه عاقر الخمر. وقد قال لى الشاعر ومؤلف الأغانى أحمد السمرة، بأنه كان يشرب خمرًا غاية فى السوء.

ولد مرقص عوض الله باسيلى فى حى غيط العنب المزدحم بالإخوة المسيحيين فى ٤ مارس عام ١٩٣٤ وعمل عاملًا بسيطًا فى صيانة تليفونات الإسكندرية، صوته حرش ذو طابع خاص، ومذاق خاص، وإحساس عالٍ للحن والكلمة، غنى أغنية:

يا زايد فى الحلاوة عن أهل حينا.. ما تبطل الشقاوة وتعالى عندنا

بتمشى فى العصارى وتسحر من رأى..

وأقول من عزم نارى.. ما ترق فى يوم بقى

يا قاسى وأنت جارنا.. ما تيجى فى يوم تزورنا

وتبطل الشقاوة وتيجى عندنا..

من ألحانه وكلمات أحمد ملوخية- ابن دمنهور-، فحققت شهرة عالية فى الإسكندرية، لكن لم يسمع بها أهل الفن ونقاد الموسيقى والغناء فى القاهرة- وهذا هو الأهم- وعندما حملها المطرب فايد محمد فايد وغناها فى القاهرة، لفتت الأنظار وغناها الكثير من مطربى القاهرة، لكنهم لم يذكروا اسم صاحبها الأصلى وملحنها عزت عوض الله، وعزت عوض الله لم يدافع عنها ولا عن نفسه، قنع بهروبه عند صانع الأحذية- السيد ماضى– وسهره فى دكانه لوش الصبح. يتحدث فى جلساته هناك عن عبدالحليم حافظ الذى ابتلع كل شىء، قضى على كل المطربين قبله، عبدالعزيز محمود الذى كانت مقاهى الأحياء الشعبية تسهر للصبح لتسمع غناءه فى الحفلات، وقضى على عبدالغنى السيد حتى مات كمدًا، وقضى على إبراهيم حمودة الذى مثل وغنى مع أم كلثوم. عبدالحليم حافظ- فى رأى عزت عوض الله- هو سبب أزمته، فهو قضى حتى على الذين جاءوا بعده، فقد قضى على كمال حسنى، رغم جمال وجودة صوته. فعبدالحليم هو المغنى الذى ظهر مع ثورة يوليو ٥٢، فعبر عنها فاحتضنته واعتبرته ابنها البكرى والمعبر عنها، كما أنه قوة دعائية جبارة، استغل حالة اليتم التى صاحبته، وصادق الإعلاميين، فكانوا أبواقًا له.

غنى عزت عوض الله فى إذاعة الإسكندرية مع بدرية السيد فكانا من أوائل مطربيها، غنى أغنية:

نوارة حارتنا

يا مزود حيرتنا

ياريت يبقى بيتهم بابه جنب بيتنا

من تأليف أحمد زيادة وتلحين منير المليجى، فغناها شعب الإسكندرية معه، وكنت تسمعها فى كل البيوت والدكاكين.

وغنى:

يا ما قالوا فى الغرام

وكتروا الكلام

أنا قلت كلمة واحدة، بحبك والسلام

من كلمات كامل حسنى، وكنت أسمع الشباب الذى يكبرنى سنًا وهم يغنونها بإعجاب شديد.

كل هذا والقاهرة لاهية عن عزت عوض الله، كان يشكو أساه فى جلسته أمام دكان صانع الأحذية- السيد ماضى- فقال له صديق: أنت عامل زى إللى قاعد على كوبرى قصر النيل، ويقول يا من يجيب لى حبيبى.

فسأله: ماذا أفعل؟

فأجاب صديقه: روح سافر ودور على مصلحتك.

ويسافر عزت عوض الله فى قطار الصباح، يدور ويلف على المسارح، ويحاول الوصول للإذاعة، ولكنه يعود فى قطار الليل دون شىء، فهو لا يستطيع المبيت فى القاهرة، فلا بد من الذهاب إلى عمله فى الصباح، خاصة أنه تزوج وانتقل إلى شقة جديدة فى الإبراهيمية، وأنجب فتاة صغيرة فى حاجة إلى نفقات ورعاية، والنقود التى يحصل عليها من الإذاعة قليلة جدًا. كما أن مشاكله مع حافظ عبدالوهاب– مدير الإذاعة– كثيرة جدًا ولا تنتهى. رغم ذلك العذاب يغنى عزت عوض الله كثيرًا جدًا، فهو الآن المعبر عن الشخصية السكندرية، يغنى:

■ محدش شافك ليه، إمبارح والنهاردة، قولى جرالك إيه، أنت نسيت المودة؟

■ من بحرى يا ناس عدى عليه، سحرتنى عيونه وحلاوتهم.

■ الحلو هل بطلعته دلوقتى بانت رقته، إسكندرانى والا إيه؟ ، باين عليه من لهجته، إسكندرانى.

■ دول بنات إسكندرية، مشيهم على البحر غية.

■ قمر الحتة، هل لياليه زى الأول.

.......

يأتى نجيب محفوظ إلى الإسكندرية كل صيف، يقضى أيامه فيها ببنسيون صاحبته يونانية اسمها ميرامار، فأطلقت اسمها على بنسيونها. وهو عبارة عن شقة كبيرة فى عمارة قديمة بمحطة الرمل، وأوحى هذا البنسيون لنجيب محفوظ بكتابة روايته العظيمة «ميرامار»، وتأثر نجيب محفوظ بالجو السكندرى، الأدبى والفنى، فروايته «الطريق» تتحدث عن امرأة سكندرية اسمها بسيمة عمران تدير بيوت الدعارة، تأثر نجيب محفوظ وهو يرسم هذه الشخصية بسكندرية شهيرة اسمها زينب عصفور، كانت تدير بيوت الدعارة أيام كانت مرخصة ومباحة. وتوجد للآن فى محطة الرمل، عمارتان كبيرتان باسمها.

صابر– ابن بسيمة عمران– هذا كان يبحث عن والده بعد أن فقدت أمه كل ممتلكاتها، وأوصته بالبحث عن والده الغنى المهم فى المجتمع، فراح يبحث عن والده وهو يدندن بالأغنية الإسكندرانية الشهيرة «ما تبطل الشقاوة وتعالى عندنا»، وهذا جزء من أغنية عزت عوض الله الشهيرة جدًا:

يا زايد فى الحلاوة عن أهل حينا.

ويذكر أسامة أنور عكاشة، المطرب عزت عوض الله فى مسلسله التليفزيونى «أبو العلا البشرى»، فيقوم على الحجار بدور مطرب لقبه عوض الله، ويريد أن يغير هذا اللقب، لكن أبو العلا البشرى- محمود مرسى– يعترض، ويذكر بأن أشهر مطرب فى الإسكندرية اسمه عزت عوض الله وأخته اسمها زينب عوض الله.

لم يكن يعلم أنور عكاشة ولا محمود مرسى– السكندرى– أن عزت عوض الله مسيحى، وزينب عوض الله مطربة مسلمة الديانة، ولا يمكن أن تكون أخته.

يسافر الكاتب الفنى الكبير جليل البندارى بسيارته من القاهرة إلى الإسكندرية، ويداعب مؤشر الراديو ليسمع أغنية تسليه فى وحدته وهو يقود سيارته، وتصل أصابعه إلى إذاعة الإسكندرية، والظاهر أنه تجاوز مدينة كفر الدوار، وإلا ما كان سمع صوت إذاعة الإسكندرية، فجاءه صوت عجيب ذو مذاق خاص، فيهتم جليل البندارى به، ويحرص على معرفة اسمه، وعندما يصل إلى الإسكندرية يسأل عنه، ويقابله، ويطلب منه أن يزوره فى جريدة الأخبار لكى يقدمه للملحنين، ولإذاعة القاهرة، ويسافر عزت عوض الله فعلًا، لكن سوء الحظ– الذى لازمه طوال حياته– يحرص على ألا يفارقه، فقد مات جليل البندارى قبل أن يحقق ما تمناه لعزت عوض الله.

فزاد عزت عوض الله همًا، وأحس بأنه ما فيش فايدة، ولا حل سوى أن ينسى بالخمر السيئ الذى يعاقره كل مساء.

وفى يوم ١٧ أغسطس عام ١٩٧٥- يجد المارة فى أول شارع جميل ثابت من ناحية شارع إيزيس جثة لشاب ملقاة على الرصيف.

وعندما تصل الشرطة تكتشف أنها لمطرب الإسكندرية الأول: عزت عوض الله.. وهناك أقاويل غير مؤكدة بأن موته كان جريمة مدبرة، مجهولون تابعوه وهو يخرج من بار مواجه للكنيسة الحمراء بشارع الشيخ بيرم، وما أن يجتاز شارع إيزيس، ويدخل أول شارع جميل ثابت حتى يقتلوه ويهربوا.

وتذكر هذه الأقاويل أن الشرطة لم تتوصل لقاتله وقيدت الجريمة ضد مجهول.

وما زال سوء الحظ الذى عاند عزت عوض الله طوال حياته، يُصر على معاندته حتى بعد موته، فرغم كل ما قدمه عزت عوض الله للإسكندرية، وللفن المصرى، لم يفكر مسئول فى تكريم اسمه، ولم يسع فنان أو مثقف للمسئولين بالمحافظة، لكى يطلقوا اسمه على واحد من شوارع الإسكندرية التى أعطاها الكثير.