فى محبة باحث عظيم
جناية الرواة على السيرة النبوية.. مقال لم ينشر من قبل للباحث أيمن عبدالرسول
- النبى محمد سيرته التاريخية ومعجزته الأبدية «القرآن» تغنيه عن كل هذه الأساطير
- سيرة النبى أضيف إليها المزيد من الروايات والخرافات والخوارق والمعجزات
فى 14 أغسطس 2012 جاءنى الخبر، أيمن عبدالرسول مات، كنا وقتها فى نهايات شهر رمضان، اصطحبت صديقى أحمد لاشين، وظللنا إلى جوار جثمان أيمن حتى وصل إلى مستقره الأخيره فى قبره بالمنوفية.
أصيب أيمن بجلطة فى المخ، كان فى منتصف الثلاثينات، كنا نخشى عليه من غضبه وعصبيته بسبب ما يقوم به الإخوان فى المجتمع المصرى، كان يعرفهم ويعرف ما يمكن أن يفعلوه فى البلد بعد وصوله الحكم.
وصل أيمن وهو بين أيدينا إلى أقصى مراحل اليأس، آخر ما كتبه على صفحته على «فيسبوك» كان تعليقًا على الغدر بأبناء الجيش المصرى فى حادثة رفح الأول، كتب: «أنا مش هاعلق.. أنا بس هأقول للشهداء: خدونى معاكم».
خذلناه نحن ولم يخذله الشهداء، وكانت خاتمته تليق بكاتب وباحث مهم، قست عليه الحياة كما لم تقسُ على أحد.
فى بالى دائمًا أن أكتب لكم عن أيمن، عن حياته الصعبة وجهاده فقط كى يعيش ويتفرغ لدراساته وأبحاثه المهمة، لكنه لم يتمكن من ذلك إلا قليلًا، لإنتاج كتابين من أهم كتب المكتبة العربية هما «فى نقد الإسلام الوضعى» و«فى نقد المثقف والسلطة والإرهاب»، هذا غير مئات المقالات التى كان أيمن من خلالها رائدًا من رواد تجديد الخطاب الدينى والداعين إليه.
كنت أقلب فى أوراقى القديمة منذ أيام، فعثرت على مقال كان قد أرسله لى لأنشره، لكن ولسبب لا أذكره الآن تأخر نشر المقال وتاه بين أوراقى.
فى محبة أيمن أنشر هذا المقال، وفى افتقاد كامل لباحث كان يمكن أن يشكل تيارًا بحثيًا تنويريًا عظيمًا فى مسار فكرنا العربى والإسلامى، وفى محاولة لاستعادة أيامنا التى تفلتت من بين أيدينا، أنشر هذا المقال للمرة الأولى، مع وعد أيمن ولكم بأن أعود إليه مرة أخرى، فما تركه من كتب ودراسات ومقالات يستحق منا أن نعيد قراءته لنعرف ونتعلم.
فى شهادة من والد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر حول نبوغ ابنه «الذى صار زعيمًا» يقول إن ابنه وهو دون التاسعة من عمره كان يحفر تحت شجرة فسأله الأب: عما تبحث يا جمال.. فأجاب الطفل الصغير: أبحث عن الجذور!
لم تكن تلك الرواية مُلفتة، إلى أن تذكرت روايات مشابهة تقال عن بعضنا أحيانًا، وبعد أن تتضح معالم الطريق أمامنا.
فوالدتى مثلًا تروى أننى سُميت بناء على رؤية صادقة- كآلاف الرؤى التى تشغل الأمهات أثناء حملهن- وأن عرافًا أنبأها وهى حامل بأن ابن هذه البطن سيصبح له شأن عظيم، ولشغف أمى بتلك القصص صورتنى وأنا لم أتجاوز العام، صورة فى أحد الاستديوهات وأنا أرقد على صفحة جريدة، فهل كانت والدتى مكشوف عنها الحجاب، عندما اتجهت أنا للعمل بالصحافة والكتابة.. هل كانت تعرف ما يخبئه لى القدر؟
بالتأكيد لم تكن تلك الإرهاصات ذات معنى، لو لم يصبح جمال عبدالناصر زعيمًا وخالدًا معًا، ولو لم يتورط كاتب هذه السطور فى الكتابة، فهل اتضحت معالم الطريق الذى سندخل منه إلى السيرة النبوية، من حيث مقاربة فكرة تحول الأساطير إلى حقائق، وتحول الحقائق إلى أساطير؟.
إن فكرة الإرهاصات والنبوءات مسيطرة إلى حد كبير على أذهاننا، وهذا المنهج التنبؤى يستمد مبادئه الأساسية من تناول الرواة القص الدينى عمومًا، وقصص الأنبياء خصوصًا، والسيرة النبوية فى النهاية بوصفها سجل حياة خاتم الأنبياء والمرسلين.
وسنحاول من خلال السطور اللمقبلة تبيان كيف تتبدل الأمثلة إلى حقائق، وكيف تتحول كلمة «كأن» الدالة على المثل، أو المجاز الرمزى، إلى كلمة التعليل «لأن» التى تقال للتعليل والتوكيد؟، وكيف يقاوم العقل المرتكن إلى الأساطير الانتقادات العلمية المضادة، فى سياق محاولة ذلك العقل الاحتفاظ بما يعتز به من عقائد، إلا أن الشكوك التى يثيرها أمثالنا من محبى إثارة الشغب الذهنى، تحول العقائد المألوفة إلى فروض، فإما أن يرفض العقل فكرة النقد فى مجملها، وهو السبيل الأيسر، وإما أن نعترف- وهو الصعب- بأن ما نعتقده مجرد فروض.. ولنحتفظ بهذه العقائد كأوهام رمزية!
وقبل مناقشة العقلانى التاريخى والخرافى اللا تاريخى فى السيرة النبوية، نريد التوصل مع القارئ إلى عقد تضامن مع كاتب هذه السطور، فنشترك معًا فى النقد، بهدف الوصول إلى ما يريح العقل القويم، والضمير المستقيم فى رصد بعض المزايدات على سيرة الرسول الكريم! فنحاول معًا وضع حدود معرفية للتفرقة بين ما هو تاريخ حقيقى، وما هو زوائد أسطورية.
والزوائد الأسطورية هى تلك الروايات التى وضعها بعض الرواة والإخباريين بلا سند سوى شاهد أو شاهدين، اطلعا على ما لم يطلع عليه أحد، وأولئك الذين وضعوها، كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولكنهم لم يدركوا أى جناية جنوها على الإسلام، وأى خطر سيصيب الإسلام فى أعز روافده، الحديث النبوى، والسيرة، والتاريخ، بحيث أضحت رواياتهم، التى وضعت خصيصًا لنصرة الإسلام، تستخدم من قبل أعداء الإسلام، فى محاولات هدمه والنيل منه، فنحن لا نشكك فى نوايا أسلافنا- وإن لم تكن جريمة أن نشكك فى نواياهم- ولكننا فقط نشك فى إدركهم لعواقب الأمور، نقصد الوضع والانتحال.
أما عن جنايتهم على السيرة النبوية، فقد أشرنا فى كتابنا «فى نقد الإسلام الوضعى»، وتحت عنوان «الأسطرة والتأريخ» إلى ما فعله المؤرخون عندما حاولوا سد ثغرات القص القرآنى، حيث لا ينشغل القص القرآنى بالتفاصيل قدر انشغاله بالعبرة والعظة، فاستدانوا من الروايات الإسرائيلية «الإسرائيليات»، وهم فى غفلة عن الفرق بين القص والتأريخ الذى دونته التوراة، والقصص التى أنزلها الله فى القرآن الكريم.
أما فيما يخص السيرة النبوية، فالرواة لم يتركوا فرصة يمكن حشوها بالخرافى واللا عقلانى، والمتعالى فوق الإنسانية، إلا استغلوها أحسن استغلال.. أو أسوأه على الأرجح.
ولأن شخصية النبى- فى المخيلة العربية- شخصية كاريزمية، بطولية دشنت لها إرهاصات ونبوءات كثيرة تأسيسًا لأسطورة الصيت، التى تقوم وظيفتها على استثمار ولادة ومآثر بطل شعبى محاطة بهالة من الغموض والإعجاز، كان لا بد- فى المخيلة العربية أيضًا- من التدشين لسيرة شعبية موازية للسيرة التاريخية.
تدخل تحت تلك السيرة الشعبية عدد كبير من الزوائد الأسطورية، مثل الأساطير التى نسجت حول مولده صلى الله عليه وسلم ووصلت سيرته إلى النبى إسماعيل- الذى لا نعرف له وظيفة نبوية سوى أنه ابن إبراهيم أبوالأنبياء أبوالعرب، وقصة ذبح إسماعيل وفدائه، التى أعاد الرواة إنتاجها بشكل مختلف مع عبدالله بن عبدالمطلب والد النبى، ليصبح النبى ابن الذبيحين، إسماعيل وعبدالله، مرورًا برؤى جده عبدالمطلب وأمه آمنة، والنور الذى كان بين عينى والده إلى أن منحه إلى آمنة بنت وهب أم النبى.. وروايات عام الفيل، وقصة شق الصدر، التى قيل إنها حدثت وهو طفل يرضع فى بنى سعد، وغيرها من الروايات والأساطير التى حُشيت بها كتب السيرة، ويدخل تحت نفس السياق كل ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من معجزات مادية وحسية، وخوارق ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تذكر فى القرآن.
ومن تلك الروايات، أيضًا، ما يخص رحلة الهجرة إلى المدينة، بإضافة الحمام والبيض وعش العنكبوت على باب الغاز، فالله سبحانه وتعالى قادر على طمس عيون الكافرين، كما حدث عند خروجه من منزله، وقد غشيهم العمى، وما يخص رحلة الإسراء والمعراج من تهاويل أضيفت بعد مرور الزمن على القصة الرئيسية، وتحولت رحلة الإسراء والمعراج وحدها إلى رواية شعبية ليس فيها من الحقيقة إلا قليلًا، وقياسًا على ما ذكره القرآن عن تلك الروايات، نكشف أنها محاولات دائمة لإضفاء هالات من القداسة حول شخص النبى، هو صلى الله عليه وسلم- فى غنى عنها، لأن تاريخه الواقعى أكبر دليل على عظمته الإنسانية، فمعجزة النبى كانت قرآنه وليس فوق هذا معجزة، أما أن يتخيل الناس نبيهم كأنه نصف آله، كما يحاول بعض المتدروشين تصور الأمر، فهذا ما لا يقبله عقل ولا نقل.
وفيما يخص إرهاصات مولده، التى صاغها الناس بعد انتصار الإسلام فى النهاية، من اهتزاز إيوان كسرى، وجفاف بحيرة «ساواة» المقدسة، وخمدان نار المجوس، وغيرها من الإرهاصات التى قيل إنها صاحبت مولده، فلم يسأل أحد، هل تمت صياغة تلك الروايات بعد إعلان النبى نبوته، أم قبلها؟
وإذا كانت قبل إعلان النبوة، فلماذا كذبه مشركو قريش؟ وإذا كانت بعدها، فمن كان يملك الأقمار الصناعية فى ذلك الحين، ليرصد كل هذه التحولات التى اجتاحت العالم مبشرة بمولد النبى الأعظم؟!
الأمر الذى يدعونا لتأمل هذه الروايات الشعبية وربطها بالأساطير العالمية المبشرة بميلاد الأبطال العظام والرجال مغيرى التاريخ، هذه الروايات الشعبوية الفلكلورية تحتاج إلى دراسات مستقلة تتناول السيرة النبوية كسيرة شعبية أنتجها المتخيل العربى فى سياق تدشين النبوة، حجيتها وتاريخها!
وحتى لا نصدم القارئ، فى قناعاته، ولا يظن أننا نبتدع هذا المنهج النقدى فى قراءة السيرة النبوية، فليعود المتشكك فيما نقول إلى كتابين من أهم ما كتب حديثًا فى السيرة، ليعرف مدى صدق ادعائنا، وحقنا فى تنقية كتب السيرة من كل ما هو خرافى، ولا عقلانى.. وما يتعارض كذلك مع الحقائق القرآنية حول بعض مواقف السيرة.
الكتاب الأول هو «حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل، والثانى «فقه السيرة» للشيخ محمد الغزالى، وليرى كيف تعامل كل من هيكل والغزالى مع بعض التخاريف.
فهيكل مثلًا ينكر حادثة شق الصدر، وهو ما يفهم ظاهريًا من سورة الانشراح، ويرفضها بسبب وجيه جدًا، هو أن راوى الحادثة «أن ملكين أخذا النبى وشقا صدره وغسلاه، وهو طفل لم يتجاوز عمره السنوات الثلاث الأولى»، وكذلك يتجاسر هيكل ليرفض كل الخوارق والمعجزات الحسية التى أضيفت إلى السيرة المحمدية.
ويشاركه هذا الرفض الشيخ الغزالى فى فقه السيرة، حيث ينكر الغزالى أن ميلاد النبى كان به أى شىء ملفت للنظر، فيقول: ولد محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ولادة معتادة، لم يقع فيها ما يستدعى العجب أو يستلفت النظر، ويعلق على روايات الإرهاصات، وما قاله البوصيرى فى البردة، قائلًا إن هذه الروايات تعبير غلط عن فكرة صحيحة، فميلاد محمد كان حقًا إيذانًا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه، ولكن الناس بعد انطلاقهم من قيود العسف أحبوا تصوير هذه الحقيقة، فتخيلوا هذه الإرهاصات وأحدثوا لها الروايات الواهية، و«محمد» غنى عن هذا كله، فإن نصيبه الضخم من الواقع المشرف، يزهدنا فى هذه الروايات وأشباهها.
فهل يتعقل الناس هذا الكلام، لينقوا خيالهم من الروايات الشعبية فى السيرة النبوية، مدركين أن تلك الخرافات والأساطير لا تضيف إلى السيرة قدر ما تنتقص من العقلانى والإنسانى فيها؟!
ثمة إشارة أخيرة، لكنها مهمة وخطيرة.
ألم يدرك المستمسكون بالروايات الموضوعة والغريبة والشاذة أى جناية جنوها على السيرة بتصحيحهم لما ضعف، ودفاعهم عن حجية الرواية أمام أهل الرأى أو الدراية، فإن الإبقاء على تلك الروايات هو ما يشجع البعض على هدم الإسلام من الداخل، مستشهدًا بذلك التراث، ودونا كتاب خليل عبدالكريم- غفر له الله ما تقدم من فكره وما تأخر- فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين، والكتاب كله مبنى على روايات أهل السنة والجماعة، وعلى ما صحت نسبته إلى كتب السيرة القديمة والحديثة على السواء، وبالرغم من ندرة المصادر التى تناولت فترة ما قبل البعثة فى حياة النبى، إلا أن بعض الروايات حول اتصال النبى بورقة بن نوفل، وبحيرى الراهب، بل مساندة خديجة له فى تحمل كفالته مقابل تفرغه للتعبد فى غار حراء، ومحاولات الرواة فى إثبات نبوة محمد بشهادات أهل الكتاب، من ذلك الراهب بحيرى الذى قابله تحت شجرة فى رحلة الشتاء والصيف، مرورًا بحادثة أول ما نزل من الوحى واللجوء إلى ورقة بن نوفل عن طريق خديجة.
كل هذه الروايات وعشرات التفاصيل والمعلومات التى لا يمكن أن يرصدها بشر، ومع ذلك ذكرت فى كتب السيرة، تلقفها خليل ليصنع منها بيتًا واهيًا من الافتراضات التى تقول إن النبى محمد تمت صناعته على يد الله، عن طريق خديجة، وورقة، وبحيرى الراهب، وإنه كان يتلقى معهم فى جلسات سرية دورات تدريبية لإعداد الأنبياء، وأنه كان يعد من أجل تلك المهمة، وبغض النظر عن مخالفة أو موافقة ما كتبه خليل للعقل والدين معا، نعرف أنه ما كان له أن ينسج أسطورته الخاصة حول «تصنيع النبى» إلا بمعاونة تلك الروايات غير المنطقية، التى تم حشو كتب السيرة والحديث والمغازى بها.
أرأيتم معى كيف يتم استغلال تلك الخرافات، لتوصلنا إلى نتائج ما أنزل الله بها من سلطان.
إنه النبى العربى القرشى محمد بن عبدالله ليس فى حاجة إلى تلك الروايات، لأن سيرته التاريخية، ومعجزته الأبدية «القرآن» تغنيه عن كل هذه الأساطير، وأنه صلى الله عليه وسلم لو علم ما كتبه عن حياته بعد مماته، لأعاد النظر فى أمته، حيث إن أول ما دون عن السيرة، وهو سيرة ابن هشام، تم تدوينها بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بقرنين من الزمان.
ترى أليس هذا الزمن كافيًا لإنتاج سيرة النبى أكثر من مئتى مرة، وكل مرة يضاف إليها المزيد من الروايات، والخرافات والخوارق والمعجزات، لتتضخم سيرته التاريخية، وتصبح سيرة شعبية، وتتحول الروايات التى سبقت لإثبات نبوة محمد، هى نفسها التى تستخدم فى هدمها.
فهل ندعو فى سياق تجديد الخطاب الدينى، إلى ضرورة نقد ومراجعة السيرة النبوية العطرة، للانتقال بها من خانة الفلكور إلى التاريخ.. ومن خانة الظن إلى خانة الحق.. لأن الظن لا يغنى عن الحق شيئًا.. فهل نبدأ؟