مقال نادر للعميد.. طه حسين يدافع عن الأزهر
الأزهر صورة لمصر فيه كل ما فيها من القوة والضعف ومن النشاط والخمود ومن التقدم والمحافظة
هذا كتاب قدَّر صاحبه أنه سيحيى به مجد الأزهر، ويرد به إلى هذا المعهد الكريم علينا بعض حقه، ويعيد إليه شيئًا من مكانته التى يظن كثير من الأزهريين أنه زحزح عنها فى هذا العصر الحديث، وهذا التفكير نفسه خير؛ لأنه البر والوفاء، ولأنه الإنصاف ورفع الحيف، ولكن صاحب الكتاب لم يكد يتم عمله، ويفرغ من كتابه حتى تبين للذين يقرأون هذا الكتاب أنه تجاوز ما فكر فيه المؤلف إلى شىء هو أعظم منه خطرًا، وأكثر منه شمولًا، وأجدر منه بالرضا، وأحق منه بالثناء، فمن الخير كل الخير أن يحب الطلاب معاهدهم، ويبروها، ويفوا لها، ويذودوا عنها ما يصيبها، أو ما تتعرض له من المكروه.
ولكن تحقيق التاريخ فى نفسه من حيث هو تاريخ، وإظهار الحق فى نفسه من حيث هو حق أعظم من ذلك نفعًا، وأشمل منه فائدة، وأجدر أن يقدره الباحثون حق قدْره، ويمنحوه خير ما يملكون من العناية والإعجاب، ذلك أن الحق الخالص هو مطلب الذين يفرغون للعلم، ويعكفون على البحث، ويبتغون المعرفة الخالصة التى ترتفع عن الهوى، ولا تتأثر بالعاطفة، ولا يلونها الشعور بما للمؤلف من الميول والنزعات.
والحق الخالص خليق بأن يخرج الناس من الظلمة إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الغفلة إلى التنبيه، وأن يبصرهم بما مضى من أمرهم، ويرفع لهم الأعلام فيما يستأنفون من حاضرهم ومستقبلهم، فهو غذاء لعقولهم، وشفاء لنفوسهم، وراحة لقلوبهم، ونور يهتدون به فيما يأتون وما يدعون، وقد استقر فى نفوس الأجيال المعاصرة منذ أواخر القرن الماضى أن الأزهر الشريف قلعة المحافظة، وموئل الرجعية، ومستقر الجمود، وأنه يحيا بمعزل عن الحضارة الحديثة التى تغمر مصر وتدفعها إلى الأمام، وأن هذه الحضارة إما تتلقاها معاهد التعليم المدنى، فتنشئ عليها الصبية، وتغذو بها الشباب، وتكوّن بها الرجال الذين ينهضون بأعباء الحياة العامة، وإذا كان للأزهر عمل فى هذه الأيام، فإنما هو عمل المعارض فى كل تقدم، الممانع فى كل تجديد، الحائل دون كل رقى، وقد يذكر لهذه الأجيال بعض الأشخاص الذين امتازوا فى هذا العصر، وأثروا فى الحياة الحديثة تأثيرًا بعيدًا، وتخرجوا فى الأزهر، ولكن الناس يسمعون أسماء هؤلاء الأشخاص فيمنحونهم الرضا والحب والإعجاب دون أن يفكروا فى المعهد الذى نشأهم صبية، وكونهم شبابًا، وأعدهم لهذا التفوق والامتياز.
فمحمد عبده، وسعد زغلول عظيمان من عظماء العصر الحديث، ولكن الأزهر عَرَض من أعراض حياتهما قد مر بهما أو مرا به دون أن يؤثر فيهما أو يؤثرا فيه أثرًا ذا خطر، وكذلك تنشأ الأجيال على الخطأ والجهل والعقوق، ويستقر فى نفوس الناس أن الأزهر شىء قديم له قيمة التراث، فينبغى أن يحتفظ بهذه القيمة، وألا يطمع فى أكثر منها، وينبغى قبل كل شىء ألا يقوم عقبة فى سبيل الرقى والتقدم والإصلاح.
وهذا الكتاب الذى أقدمه مغتبطًا بتقديمه إلى القراء مصلح هذا الخطأ، مزيل هذا الجهل، منقًّ للنفوس من هذا العقوق، لأنه يظهر فى أوضح الوضوح وأجلى الجلاء أن الأزهر لم يكن مشرق النور فى عصورنا القديمة وحدها، وإنما هو مشرق النور فى العصر الحديث، هو الذى تلقى الحضارة الأوروبية، وهو الذى أذاعها فى مصر ثم فى الشرق، وهو الذى ما زال يتلقى الحضارة الأوروبية ويذيعها فى مصر والشرق، وهو المؤثر الأول فى الحياة المصرية الحديثة منذ اتصلت مصر بأوروبا اتصالًا دقيقًا منظمًا فى أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم، وإلى الغد القريب أو البعيد فيما يظهر، فهو الذى تلقى الحضارة الحديثة من أصحاب «بونابرت» حين وفدوا بها على مصر، وهو الذى أرسل رواده يلتمسون هذه الحضارة فى مواطنها بعد أن عاد الفرنسيون إلى ديارهم، أرسل هؤلاء الرواد أيام محمد على الكبير، وأيام إسماعيل العظيم، وهو يرسلهم اليوم وسيرسلهم غدًا وبعد غدٍ، وهو الذى نقل العلوم والآداب الأوروبية إلى اللغة العربية أول ما نقلت، وما زال ينقلها إلى اليوم، وسينقلها غدًا وبعد غدٍ، وهو قد شارك أدق المشاركة وأقواها فى إنشاء المعاهد العلمية المختلفة، وما زال يشارك فى هذا الإنشاء إلى الآن.
كان من أبنائه من شارك فى إنشاء مدرسة الطب القديمة ومن شارك فى مدرسة الألسن، ومن شارك فى إنشاء الجامعة المصرية حين كانت تسمى بهذا الاسم، ومنه أُنشئت معاهد كانت أشد به اتصالًا، بعضها لا يزال قائمًا إلى الآن كدار العلوم، وبعضها لم يكد يخرج منه حتى عاد إليه كمدرسة القضاء، وهو قد استأثر فى وقت غير قصير بالسيطرة على النشاط الثقافى الحديث فى مصر، وما زال مشاركًا أقوى المشاركة فى السيطرة على النشاط الثقافى المعاصر، وهو لم يدع ميدانًا من ميادين الإصلاح إلا برز فيه وأحرز الفوز كل الفوز، فهو قد شارك فى الإصلاح السياسى على اختلاف أطواره، ولا يزال يشارك فى هذا الإصلاح، وشارك فى الإصلاح الاجتماعى، ولا يزال يشارك فيه أقوى المشاركة، وكل خلاف بين القديم والجديد، وكل خصومة بين التقدم والمحافظة، وكل صراع بين النشاط والجمود فإنما نشأ فى الأزهر، ونما فى الأزهر بين الأزهريين أنفسهم أول الأمر، ثم بين الأزهريين وغيرهم بعد ذلك، فمحمد عبده وخصومه كانوا أزهريين، والمجددون المعاصرون وخصومهم أزهريون شاركهم غيرهم فى هذه الخصومة متأثرين بهم، وتفصيل هذا كله مبسوط بسطًا رائعًا فى هذا الكتاب.
فالأزهر صورة لمصر فيه كل ما فيها من القوة والضعف، ومن النشاط والخمود، ومن التقدم والمحافظة، ومع أن الحياة المعاصرة قد اجتهدت فى أن تعزل الأزهر، ولا تعطيه حظه من الإصلاح إلا بمقدار، فإن الأزهر قد قهر ظروف الحياة الحديثة، واقتحم ما بث أمامه من العقبات، فأبناؤه اليوم يشاركون فى فروع الحياة العامة على اختلافها، فرضت اللغات الأجنبية فتعلموها، وفرضت الإجازات المدنية فظفروا بها، وفرضت الدرجات الجامعية الأوروبية فارتقوا إليها فى الجامعات الكبرى، وعادوا يعلمون فى الجامعتين وغيرهما من معاهد العلم، ويشاركون فى أكثر فروع الحياة المدنية.
وقد استطاع المؤلف أن يجلى الحقائق، وأن ينبه المصريين إلى أنهم يظلمون الأزهر، ويظلمون أنفسهم حين يظنون أن هذا المعهد العظيم يعيش على هامش الحياة الحديثة.
وتمكن الأستاذ المؤلف من تجلية هذه الحقائق على رغم ما اعترضه من المصاعب التى عرفها، والمصاعب التى لم يعرفها دليل واضح حى على أن فى الأزهر كنزًا من خصب العقول، وذكاء القلوب، وحسن الاستعداد لجلائل الأعمال، يجدر بمصر الحديثة ألا تهمله وألا تنساه.
من تقديم طه حسين لكتاب الأزهر وأثره فى النهضة الأدبية الحديثة