الأحد 13 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مَن ينقذ دار الكتب والوثائق؟

عملية إنقاذ.. تحقيق عن «ألزهايمر» الذى يلتهم «ذاكرة الأمة»

حرف

- «البيروقراطية» تُهدد أول مكتبة وطنية فى الوطن العربى 

- أين ذهب مشروع منصة «تراث مصر الرقمية»؟

- الملايين من الوثائق والمخطوطات والكتب ما زالت حبيسة المخازن

- تجاهل إتاحة كنوز الدار بمقابل مالى يهدر ملايين الدولارات على الدولة

فى صباح الثلاثاء الموافق الأول من أبريل الجارى، تواترت أنباء على مواقع التواصل الاجتماعى حول تصاعد دخان من أحد المبانى التابعة للهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، فى منطقة «العمرانية» بالجيزة، وتحديدًا داخل مخزن مكون من طابق واحد، مع الإشارة إلى الدفع بسيارتى إطفاء لإخماد الحريق، وعدم وقوع أى إصابات بشرية.

ومع انتشار الخبر بصورة كبيرة، سرعان ما صدر بيان نفى عن دار الكتب والوثائق القومية، أكدت فيه عدم وجود أى منشآت تابعة لها بمنطقة «العمرانية»، مشددة على أن جميع منشآتها سليمة، وأنه لم يتم تسجيل أى بلاغات تتعلق بوقوع حرائق أو أضرار فى أى من المبانى التابعة للدار.

وسواء كان المبنى تابعًا أم لا، ما يحدث داخل «دار الكُتب»، التى تعد أول مكتبة وطنية فى العالم العربى، وتعود نشأتها إلى عام 1870 فى عهد الخديو إسماعيل، يحتاج إلى وقفة، خاصة ما يتعلق بزيادة «البيروقراطية» وسيطرتها على سير العمل فى الدار، حتى تفاقمت الأزمات داخلها بما يعُجل بشرارة يمكن أن تؤدى إلى اندلاع حريق بين العاملين فيها، تداعياته أكثر وأشد وطأة من نيران مخزن العمرانية.

فى التحقيق التالى، ترصد «حرف» أبرز الأزمات التى باتت تحاصر دار الكتب والوثائق القومية بلا حلول.. أو بالأحرى هو تحقيق عن «البيروقراطية»، أو ما يمكن تسميته «ألزهايمر» الذى بات يلتهم ذاكرة الأمة ويُهدد أول مكتبة وطنية فى الوطن العربى.

ويعود تاريخ «دار الكتب» إلى عهد محمد على باشا، أول من أنشأ دارًا لحفظ السجلات الرسمية للدولة، فى القلعة عام 1828، وأطلق عليها «الدفتر خانة»، بهدف جمع الوثائق الرسمية وحفظها. وفى عام 1993 أُطلق عليها الاسم الحالى «الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية»، وتم افتتاح المبنى فى منطقة «رملة بولاق»، بعد انفصالها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعدما كانت انضمت إليها عام 1971.

احتفاء تام فى معركة الـ «أفروسنتريك»

مر أكثر من عامين على تعيين الدكتور أسامة طلعت، أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية فى جامعة القاهرة، رئيسًا لدار الكتب والوثائق القومية، منذ صدور قرار بذلك من الدكتورة نيفين الكيلانى، وزيرة الثقافة آنذاك، فى ١٨ يناير ٢٠٢٣، خلفًا للدكتورة نيفين محمد موسى، التى تم تعيينها مستشارًا لوزيرة الثقافة.

وبرصد ما أنجزه «طلعت» فى عامه الأول، نجد أنه لم يحرك ساكنًا فى إدارته أول مكتبة وطنية فى الوطن العربى، بل على العكس تراجع حضور دار الكتب والوثائق القومية عما سبق، لكن الغريب أنه استمر فى منصبه رغمًا عن ذلك.

فمع تولى الدكتور أحمد فؤاد هنو وزارة الثقافة، أصدر قرارًا بتكليف الدكتور أسامة طلعت قائمًا بأعمال الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، إلى جانب عمله كرئيس لدار الكتب والوثائق القومية، خلفًا للدكتور هشام عزمى، فى ١٤ أغسطس ٢٠٢٤، وهو ما استمر حتى ٢ ديسمبر من نفس العام، حين صدر قرار جديد بندب الدكتور أشرف العزازى، الأستاذ بكلية الدراسات الإفريقية العليا، أمينًا عامًا للمجلس، مع عودة «طلعت» إلى مكانه فى الدار حتى يومنا هذا.

أول الملفات التى تؤخذ على الدكتور أسامة طلعت، ما حدث من تجاهل دخول «دار الكتب» فى معركة مواجهة حركة الـ«أفروسنتريك» أو «المركزية الإفريقية»، التى كثر الحديث عنها على مدار العامين الماضيين، رغم أن ظهورها الفعلى كان منذ قرن مضى.

و«المركزية الإفريقية» حركة فكرية تأسست وانتشرت بين الأمريكيين من أصول إفريقية، وتسعى للتمركز حول الهوية الإفريقية، مع الادعاء بأنها «أصل الحضارة الفرعونية» وليس المصريين، ومن هنا تأتى خطورتها الكبيرة.

ومع ذلك، لم يكن لدار الكتب والوثائق القومية موطئ قدم فى هذه المعركة، رغم ما تحتويه من مقتنيات رسمية وأهلية لا تُقدر بثمن، قادرة على تفنيد ادعاءت الـ«أفروسنتريك»، والرد على ادعاءاتها بشأن الحضارة الفرعونية، وهو دور مهم للغاية، يمكنه أن يساعد صانع القرار المصرى فى التصدى لخطر هذه الحركة المثيرة للجدل.

وقال رئيس دار الكتب، الدكتور أسامة طلعت، فى تصريحات سابقة، إن الدار لديها وثائق عمرها يعود إلى ٩٠٠ عام، لكنها لم تلعب دورها المتوقع فى هذه المعركة المهمة التى تمس التاريخ المصرى.

دعكم من «معركة الأفروسنتريك»، فقد يرى رئيس دار الكتب أن هناك جهات ومؤسسات محلية قد تكون أكثر نفعًا فيها من الدار، ودعونا نرصد- فى السطور التالية- كيف تُدار دار الكُتب داخليًا وخارجيًا فى عهده، عسى أن تصلوا بأنفسكم لإجابة حول أداء الرجل، وما إذا كان يستحق التجديد له فى أغسطس المُقبل، أم من الأفضل أن يعود إلى طلابه فى كلية الآثار بجامعة القاهرة كأستاذ متفرغ.

«وأد» مشروع «رقمنة 100مليون مخطوطة»

تتضارب الأرقام المتعلقة بعدد المخطوطات التى تحتفظ بها دار الكتب والوثاق القومية، ما بين ٥٧ ألف مخطوطة وفقًا لصفحة الدار عبر الموسوعة الحرة «ويكيبيديا»، و٥٩ ألفًا و٣٢١ مجلدًا تضم ٨٨ ألفًا و١٦٤ عنوانًا، وفق تصريحات لرؤساء الدار، ومن أبرزهم الدكتور محمد صابر عرب، وكذلك الرئيس الحالى الدكتور أسامة طلعت.

وفى كل الأحوال، ليس لدينا رقم معتمد لما تضمه دار الكتب والوثائق القومية من مخطوطات نفيسة تغطى تشكيلة واسعة من الموضوعات، خاصة مع بقاء عدد كبير منها خارج نطاق الخدمة، أى «مُفهرَسة» فقط للاطلاع الداخلى وغير «مرقمنة».

يأتى ذلك رغم إعلان رئيس دار الكتب الأسبق، الدكتور محمد صابر عرب، فى عام ٢٠٠٩، عن مشروع لـ«رقمنة» ١٠٠ مليون وثيقة مخطوطة فى الدار، وهو المشروع الذى تم «وأده»، أو بالأحرى التباطؤ فى تنفيذه لأسباب غير معلومة.

وهنا نستدعى حديث الدكتور أسامة طلعت، فى تصريحات تليفزيونية أدلى بها بتاريخ ٢٠ يونيو ٢٠٢٣، وأعلن خلالها عن مشروع منصة «تراث مصر الرقمية» على جميع أجهزة التليفون المحمول، بالتكامل والتعاون بين وزارتى الثقافة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

وبحسب ما بينه «طلعت» وقتها، فإن بروتوكول التعاون الموقع بين الوزارتين يتضمن تضافر الجهود بين ما تملكه «الثقافة» من محتوى و«الاتصالات» من أدوات وتقنيات لإتاحة التراث والتاريخ المصرى بشكل رقمى، عبر «رقمنة» ما يزيد على ٨٤٠٠ كتاب، وإتاحة وثائق التراث والتاريخ المصرى وفنون الأدب فى العصور المختلفة.

ومع ذلك، ما زالت الملايين من الوثائق والمخطوطات والكتب وغيرها من الكنوز الموجودة فى دار الكتب حبيسة المخازن، دون استفادة من إتاحتها رقميًا بمقابل على غرار الأرشيفات البريطانية والأمريكية والفرنسية، التى تتم الاستفادة من عوائد منحها عند الطلب لمن يريد، خاصة المسموح منها للاطلاع، بما يعنى إهدار ملايين الجنيهات والعملة الصعبة، التى يمكن توفيرها حال إتاحة هذه الكنوز للباحثين من أنحاء العالم كله.

ويبلغ رصيد الكتب فى إدارة المقتنيات الخاصة بدار الكتب ما يزيد على مليون و٥٢ ألفًا و٦٠٠ كتاب عربى، و٣٦١ ألفًا و٢٤٠ كتابًا أجنبيًا «الإنجليزية/ الفرنسية/ الألمانية.. إلخ»، فى شتى علوم المعرفة، إلى جانب اللوحات والخرائط والوثائق والبرديات والمخطوطات والدوريات والعملات والتحف التاريخية الأخرى.

ورغم وجود مشروع تعاون بين دار الكتب والوثائق القومية، وكل من مؤسسة التعاون الدولى اليابانية «جايكا» ووزارة الاتصالات ومكتبة الإسكندرية، لتوفير الكتب المسموعة والمرئية التفاعلية والخاصة بذوى القدرات الخاصة والأطفال، لم يسفر سوى عن قاعة واحدة لذوى الهمم، افتتحتها الدكتورة إيناس عبدالدايم منذ سنوات، ولم تشهد أى تطوير منذ افتتاحها.

يضاف إلى ذلك قلة الكتب التى تصدرها دار الكتب والوثائق القومية بطريقة «برايل»، وكذلك كتب «ديزنى»، التى صدرت فى مستهل تنفيذ هذا المشروع لذوى الهمم، رغم أن عددهم فى مصر يبلغ ١٧ مليون مواطن، وفقًا للمجلس القومى لشئون الإعاقة.

ترميم مصحف فى عامين.. واستعادة المخطوطات «صفر»

طوال فترة توليه مهام عمله كرئيس لدار الكتب، لم يستطع الدكتور أسامة طلعت استعادة أبرز المخطوطات المصرية، سواء الموجودة فى مزادات لندن وأشهرها «سوثبى»، أو غيرها من المزادات فى دول أخرى، مقابل نجاح الدكتور هشام عزمى، رئيس الدار فى عهد الدكتورة إيناس عبدالدايم، من استعادة مخطوطين فى أشهر معدودة.

الأول هو مخطوط «قنصوة الغورى» الذى كان معروضًا للبيع فى صالة مزادات «سوثبى» بالعاصمة البريطانية لندن، فى ١٥ أكتوبر ٢٠١٨، بمبلغ يقدر ما بين ٧ و١٠ آلاف جنيه إسترلينى، والثانى مخطوط «المختصر فى علم التاريخ» للكافيجى، لدى ظهوره فى صالة مزادات بلندن، فى أبريل ٢٠١٨، بعد نحو ٥٠ عامًا من اختفائه.

ونجح «عزمى» فى استعادة المخطوطين دون أن تتحمل الدار جنيهًا واحدًا، ولم تدفع أى مقابل لذلك، سوى تكريم صالة المزادات نتيجة استجابتها وتعاونها فى إعادة المخطوط، عبر إهدائها درع دار الكتب والوثائق القومية، وشهادة تقدير على ورق من البردى.. ومنذ ذلك الوقت، لم نسمع عن استعادة أى مخطوط آخر من قبل دار الكتب.

ومع ذلك، ما يُحسب للدكتور أسامة طلعت الانتهاء فى عهده من ترميم «المصحف الحجازى»، وهو ما أُعلن عنه فى احتفالية رسمية، أقيمت فى سبتمبر ٢٠٢٣. وهذا المصحف انتقل إلى دار الكتب يوم ١٣ فبراير ١٩١١، وكان فى مجموعة من الصحائف الموجودة فى جامع عمرو بن العاص.

حرمان الباحثين والجمهور من النوادر بحجة «العهدة»

تضم دار الكتب والوثائق القومية العديد من المكتبات المُهداة لمجموعات كبيرة من مشاهير الأدباء والمفكرين، فى قاعة «المخطوطات» بالطابق الرابع، أمثال الإمام محمد عبده وعمر مكرم وعباس العقاد وأحمد تيمور باشا وأحمد زكى باشا ومصطفى فاضل باشا، إلى جانب مكتبة خليل آغا، صاحب مدرسة الخط المشهورة، وهى مخطوطات متعددة اللغات مثل العربية والفارسية والتركية، وفى مختلف العلوم مثل الطب والهندسة والكيمياء والفلك والفقه.

الغريب أن هذه المكتبات ما زالت لا تحظى بالتسويق الجيد لما تضمه من كنوز معرفية وتاريخية وحضارية، وما زالت تعامل فى إطار «العُهدة»، دون الاستفادة الكاملة من مخطوطاتها ونوادرها للجمهور العام والباحثين.

فى الوقت نفسه، تضم الدار مجموعة من المصاحف الشريفة، أقدمها مصحف منسوب للإمام الحسن البصرى يعود لعام ٧٧ هجريًا، بالإضافة إلى مصاحف مملوكية نادرة ومجموعة من المخطوطات الفارسية المزينة بالصور «المنمنمات»، مثل نسخة من «كليلة ودمنة» تتضمن ١١٢ صورة مرسومة بالألوان من القرن الثامن الهجرى.

وتضم الدار كذلك نسخة من «الشاهنامة» لـ«الفردوسى» تعود لعام ٧٩٦ هجريًا وتضم ٦٧ صورة ملونة. كما تمتلك ٣٧٣٩ بردية بالعربية واليونانية والقبطية، و ٢٦٢٧ على «البردى» و١٠٥٠ على «الكاغد»، و٣ على «الرخام»، وواحدة على «النسيج»، فضلًا عن ١٨٢٥٣ خريطة، و١٣٢١٤ قطعة نقدية إسلامية، و٦٤٠٠ قطعة من الصنج الزجاجية والقوالب والميداليات الإسلامية. لكن مصير هذه الكنوز يشبه مصير المكتبات المُهداة سالفة الذكر، من حيث الإهمال وعدم تسويقها بالشكل اللائق للجمهور العام والمتخصص.

غياب اشتراطات الأمان والحماية من الحرائق

يتبع الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية عدد من المبانى والمنشآت، منها المبنى التاريخى لدار الكتب فى باب الخلق، ومبنى الهيئة فى كورنيش النيل، ومبنى المخازن فى ساحل روض الفرج «المبيضة»، ومبانى المكتبات الفرعية بأرجاء القاهرة الكبرى. 

هذه المبانى ما زالت تعانى من عدم الجاهزية فى أغلبها، خاصة فيما يتعلق بملف الحماية المدنية، الذى يشهد إهمالًا من قبل رئيس الدار، والذى لم يصدر أى تصريح رسمى عنه بشأن هذا الملف منذ توليه المنصب، رغم خطورته الكبيرة.

بالتالى، يظل خطر تحول هذه المبانى إلى بؤر حريق قائمًا، ما يهدد ما تضمه من كنوز ثقافية. تدعم هذا القلق حادثتان: الأولى فى يناير ٢٠١٨، عندما اندلع حريق فى سلم الطوارئ بدار الكتب والوثائق برملة بولاق، تمت السيطرة عليه من قبل قوات الحماية المدنية دون خسائر بشرية. أما الثانية فكانت فى يوليو ٢٠٢٠، عندما أعلنت نيابة بولاق أبوالعلا الجزئية عن حريق محدود نشب بين مبنى الدار والهيئة المصرية العامة للكتاب، وأظهرت المعاينة أن سبب الحريق ماس كهربائى.

قاعات الإطلاع تعمل بالطرق التقليدية

تمتلك دار الكتب أكثر من ٦ آلاف عنوان من الدوريات «جرائد ومجلات» باللغة العربية، مجمعة فى ٢٤٠ ألف مجلد ضمن إدارة «المقتنيات الخاصة»، بالإضافة إلى نحو ٧ آلاف عنوان باللغات الأجنبية موزعة على ٢٥٠ ألف مجلد. 

ومع هذا الكم المعرفى الهائل، لا تزال خدمات الإطلاع المجانى فى القاعات المخصصة للمستفيدين، مثل الرئيسية والإنسانيات والأمم المتحدة والمطبوعات الحكومية، وكذلك القاعة الملكية، تعمل بمنهجية بيروقراطية متصلبة.

تجدر الإشارة هنا إلى أحد المقترحات المقدمة من عضو فى لجان المجلس الأعلى للثقافة إلى الدكتور أسامة طلعت، دعا فيه إلى إتاحة الدوريات والكتب الموجودة فى قاعات الاطلاع للباحثين مقابل رسوم مالية رمزية. 

واستهدف هذا المقترح توفير الوقت والجهد على الباحثين القادمين من محافظات أخرى، وتسهيل استخدام هذه المصادر فى أبحاثهم ورسائلهم العلمية. ومع ذلك، ظل حبيس الأدراج دون تنفيذ.

«سوق سوداء» وعراقيل فى منظومة أرقام الإيداع

يشهد نظام أرقام الإيداع أزمة حادة تهدد ذاكرة النشر المصرية، على الرغم من وجود تشريع ينظم حقوق المؤلفين ويضمن لهم الحصول على رقم إيداع يثبت ملكيتهم الفكرية للكتاب قبل نشره، مع إلزامهم ودور النشر بإيداع عدد معين من النسخ بعد الصدور.

ويأتى ذلك رغم صدور قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم ٣٨ لسنة ١٩٩٢، الذى يمنح إدارة الإيداع فى دار الكتب والوثائق القومية صلاحية منح أرقام الإيداع والترقيم الدولى، واستقبال ١٠ نسخ من كل كتاب تُوزع نسختان منها إلى دار الكتب، و٦ نسخ للمكتبات الفرعية، ونسخة لمكتبة مجلس النواب، ونسخة لمكتبة مجلس الدفاع الوطنى.

هذه الأزمة التى بدأت تتفاقم منذ أكثر من ٢٠ عامًا، برزت بشكل واضح عام ٢٠١٧، عندما تحول رقم الإيداع من مجرد إجراء روتينى إلى عقبة أمام النشر، بعدما تراكمت الأرقام المسجلة فى دفاتر دار الكتب لعناوين لم تُطبع أو لم تُودع. 

هذا دفع الكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة آنذاك، إلى إصدار قرار بخفض عدد النسخ المطلوبة من ١٠ إلى ٥ نسخ، كحل مؤقت لم يفعل سوى تخفيف حدة الأزمة دون معالجتها جذريًا، لتعود وتتفجر من جديد عام ٢٠٢٢ برفض دار الكتب منح أرقام إيداع لبعض الناشرين، بل ومنع بعضهم من المشاركة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وهو ما دفع اتحاد الناشرين المصريين للسعى إلى إيجاد حلول خاصة، مع شكوى الناشرين من العبء المالى الذى تمثله النسخ المطلوبة.

وأصدرت الدكتورة نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة آنذاك، القرار رقم ٢٠٥ لسنة ٢٠٢٣ لمعالجة معوقات استخراج أرقام الإيداع، بناءً على توصيات اللجنة المشكلة لهذا الغرض، ومنح الناشرين ٦ أشهر لتسوية أوضاعهم، لكن هذا القرار، وفق سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين آنذاك، لم يُنفذ بالكامل، وما زالت العديد من دور النشر متخلفة عن إيداع النسخ المتراكمة عليها.

كما استمرت ظاهرة السوق السوداء لأرقام الإيداع، التى كشف عنها «عبده» خلال فعاليات صالون «الدستور» الثقافى، مشيرًا إلى أن «بعض الناشرين الأعضاء يحصلون على أرقام إيداع متعددة وينشرون كتابًا واحدًا فقط، ليتاجروا بالأرقام المتبقية لناشرين غير أعضاء بالاتحاد، فى غياب أى عقوبات رادعة».

ورأى رئيس اتحاد الناشرين السابق أن حل هذه الأزمة يتطلب تحديث البيئة التشريعية الحاكمة لصناعة النشر، خاصة مع التطورات التى تشهدها هذه الصناعة فى مصر. لكن هذا التحديث لم يتحقق حتى الآن، سواء من خلال مسودة التشريع التى كان من المفترض أن يقدمها الدكتور أسامة طلعت، رئيس دار الكتب الحالى، أو سلفه.

من جهته، كشف فريد زهران، رئيس اتحاد الناشرين المصريين الحالى، عن تقديمه طلبًا أثناء رئاسة الدكتورة نيفين موسى لدار الكتب، يقترح فيه تحمل الاتحاد تكلفة تحويل خدمة منح أرقام الإيداع إلى النظام الرقمى بالتعاون مع وزارة الاتصالات. لكنه لم يتلق أى رد، سواء من رئيسة دار الكتب السابقة، أو الدكتور أسامة طلعت، الرئيس الحالى.

قرار وزارة الثقافة بشأن أرقام الإيداع

تعدد الإدارات المركزية وغياب «الباركود» عن الإصدرات

شهد عام ١٩٩٣ صدور القرار الجمهورى بإنشاء الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، لتحصل على هيكل تنظيمى مستقل يتكون من عدة إدارات مركزية رئيسية تشمل: الإدارة المركزية لدار الكتب، والإدارة المركزية لدار الوثائق، والإدارة المركزية للمراكز العلمية، والإدارة المركزية للشئون المالية والإدارية، ودار الكتب بباب الخلق، بالإضافة إلى الإدارات التابعة مباشرة لرئيس مجلس الإدارة. ومع تعدد هذه الإدارات وازدحامها بالعاملين، يمكن دمج بعضها، مثل الإدارتين المركزيتين لدار الكتب ودار الوثائق فى إدارة واحدة. وكشفت مصادر مطلعة عن وجود موظفين من الإدارة المركزية للمراكز العلمية يعملون خارج مصر. كما تواجه دار الكتب أزمات متعددة، أبرزها غياب نظام «الباركود» على إصداراتها، وهو النظام الإلكترونى الذى يعتمد على رمز ثنائى الأبعاد من خطوط سوداء وبيضاء، ويمكن من خلاله تتبع حركة الإصدارات من المخازن ومعرفة الكميات المبيعة وغير المبيعة. وهذه المشكلة لا تقتصر على إصدارات دار الكتب والوثائق القومية فقط، بل تمتد لتشمل جميع إصدارات قطاعات وزارة الثقافة المصرية.

من الجدير بالذكر أن الدكتور أسامة طلعت، رئيس دار الكتب والوثائق القومية الحالى، عمل على تنظيم قواعد النشر، والمشاركة فى سلسلة «رسائل تراثية»، إحدى أهم سلاسل الدار، من خلال اعتماد نظام التواصل عبر البريد الإلكترونى. ومع ذلك، لم يتم تعميم هذا النظام على سلاسل أخرى، مثل سلسلة «مصر النهضة» التابعة لمركز تاريخ مصر المعاصر، الذى يرأسه المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق منذ سنوات طويلة.

وفى الختام، نطرح تساؤلًا حول الممارسات الإدارية التى رصدناها خلال فترة إدارة الدكتور أسامة طلعت لدار الكتب: ألا تتفقون معنا أن البيروقراطية التى سيطرت على إدارة أول مكتبة وطنية فى الوطن العربى خلال العامين الماضيين تشبه مرض «ألزهايمر» الذى ينهش ذاكرة الأمة ويهدد مستقبل هذه المؤسسة العريقة؟