الأربعاء 18 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عودة فى الجوار.. بعض من رواية أمير تاج السر الجديدة

أمير تاج السر
أمير تاج السر

- يسرد أمير تاج السرّ روايته الملأى بالقصص من الريف السودانى

- أمير كاتب كبير يكتب بروح المغامر وعماد كتابته الشاعر الذى فى داخله

صدرت منذ أيام، عن دار هاشيت أنطوان نوفل فى بيروت، رواية «عورة فى الجوار» للروائى السودانى أمير تاج السر.

وجاء فى نبذة الناشر عن الرواية: «بسردٍ فاتن، ولغةٍ صادمة ونقدٍ حارق، يسرد أمير تاج السرّ روايته الملأى بالقصص من الريف السودانى، مُخرجًا الملامحَ والعادات الاجتماعيّة التى تُشكّله: النميمة التى تُطلقها رابطة الكذب - نسوة البلدة الموكَلات بتدبير الزيجات، إلى الألقاب والفضائح، النزق والكبت الجنسى، تعظيم المسئولين، طباع الساسة، التطرّف فى الغنى والفقر، الفتن اليوميّة، الحسد وخرق الخصوصيّات، الغضب والحرَد والوقاحة، والاحتراب الداخلى ممثلًا بقبيلتَين اقتَتلتا زمانًا على فدّان». 

«كلب الحرّ» سائق عربة الشحن بين البلدة والمدينة الذى يحلم منذ صغره أن يكون عورةً!، و«شاخر سوار» شحّاذ البلد والدجّال المعتزِل الذى يكشف المستور ويفكّ السحر، و«شعيب التكرورى» بائع السحر الباحث عن مهرّج، و«داود أقرع» فقيه البلد صاحب نظريّة: الضرب على الميت حرام... هؤلاء وغيرهم، شخصيّات اجتماعيّة، سياسيّة ودينيّة... مستوحاة من صميم الواقع السودانى، ينفذ الكاتب إلى أعماقها مُعرّيًا حقائقها ونازعًا عنها أقنعتها.

فى سرده الملىء بالفكاهة السوداء، يذكر الكاتب أحداثًا تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزى أيّام المهدى محمد أحمد بن عبدالله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة «سنة ستّة» عام 1888... ويرصد انتقال البلد إلى «العصرنة» و«التفتّح» عبر التأثيرات الثقافيّة للخارج التى ترد إلى الأرياف من المدن، كفرق الصرعات الموسيقيّة، تحرّر الفتيات، موضة الهيبيز وتسريحات الشعر... وكذلك تبدّل وسائل النقل، وأشهر العطور والأغانى...

«عورة فى الجوار» كشفٌ ممتعٌ لعورةِ واقعٍ مُرّ.

وجاء تصدير الغلاف الخلفى للرواية بتصدير من الكاتب والشاعر المصرى إبراهيم داود الذى يقول: «أمير كاتب كبير يكتب بروح المغامر، وعماد كتابته الشاعر الذى فى داخله».

أمير تاج السر روائى سودانى من مواليد 1960 بشمال السودان. تخرج فى كلية الطب بجامعة طنطا فى مصر. نال جائزة كتارا للرواية فى دورتها الأولى عام 2015 عن «366»، ووصلت بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة فى جوائز أدبيّة عربيّة مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسى»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»). تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة. صدر له عن نوفل: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التى وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 - 2020)، و«سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، و«غضب وكنداكات» (2020)، و«حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته فى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربيّة. 

«حرف» تنفرد بنشر فصلين من رواية «عورة فى الجوار».

 

منذ الصباح الباكر بدأ الانتعاش يهرول، أنعشَتْ الزوجات أزواجَهن، العنزات تيوسَهنّ، الدجاجات البلديّة ديوكَهنّ، وأنعشتْ الغددُ العرقيّة عرقَها، والنخاميّة هرموناتِها. وعندما انتصف النهار، كانت الرغبة فى التهام التكرورى وأباليسه المتخيَّلين قد أكلَتْ الرغبات جميعها بلا استثناء. لم يعد للشبع رغبةٌ، ولا لرى الظمأ رغبةٌ، ولا حتّى رغبةٌ للتفرّس فى وجهٍ مليحٍ. فى البداية احتكموا إلى القرعة، ولعبة الصورة والكتابة التى يُستخدَم فيها قرشٌ من النحاس، وذلك لتحديد مدخله فى وسط المداخل الستة التى تربط البلدة بالآرترى أوف كنترى، ثم لجأوا إلى حيلةِ الحبال المضفَّرة بالعلب الفارغة لاستخدامها كهواتف محلّيةٍ تربط المداخلَ بعضها ببعض، حيث أوقفوا فى كلّ مدخل صبيًّا.

كان كلب الحرّ قد أكمل فى ذلك الوقت تسعةً وعشرين عامًا مدهونةً بالشيطنة والسفر، والخطوات الملحّة لاكتماله عورةً. كانت عربته مزركشةً بألوانٍ فاقعة، عيناه محمرّتَيْن من أثر السهر، ولسانه عاريًا لا يستر عريَه شىء. وكانت نظرية «الضرب على الميت حرام» التى ردّدها ولد أقرع، فى أوج استخدامها الآن، حتّى صار يستخدمها بنفسه عندما يكلّمه أحدٌ. خبّروه بخبر التكرورى حيث كان يسترخى بعد سفر طويل، فجاء إلى موضع الغليان جريًا، وبلا مقدّمات طاف بالمواضع كلّها. أفرغ فى كلّ موضعٍ قليلًا من وقود عربته ثم أشعل النار. لم يكن ضدّ التكرورى بالتحديد، ولا كانت تعنيه الأباليس التى جاءت تنقّبُ عن مهرّجٍ محتملٍ لإرساله إلى العاصمة، لكنّها كانت خطوةً مهمّةً وضروريّةً فى سبيل مشروعِ العورة الذى سيكتَمل. وعندما وصل التكرورى بعد ذلك ناله شيءٌ من وهجِ النار، وكان بحاجةٍ إلى إطفاءٍ وضماداتٍ وتطْييبٍ للخاطر، قبل أن يُباشر مهمّتَه فى البلدة.

«أحضروا الصبى عدوّ الشياطين» 

قال التكرورى، وهو يُمصمِص عظمًا أستراليًّا خاصًّا، أشرف سليمان بنفسه على طهوه بعيدًا عن آراء زوجته الممرّضة، وأسهم فى تتبيله، وكسائه بالثوم والتوابل والفلفل الحرَّاق، وتقديمه إلى الضيف فى طبقٍ فاخرٍ من الأستيل استورده من العاصمة، وكان حديثَ الريفيّات ومطابخهنّ فى تلك الأيام. لدرجةِ أنّ كثيراتٍ منهنّ فكّرنَ فى سرقته أو التقاطِ صورٍ تذكاريّة تمثلهنَّ وهنّ يلحسنَ من قاعه. وكان سليمان من شدّة إعجابه بالطبق يحفظه فى خزانة الأشياء المهمّة، ولم يسمح حتى لنفسه باستخدامه من قبل. كان جادًّا فى مشروع التهريج، ومستعدًّا لأى شىءٍ فى سبيل تحقيقه.

كان التكرورى قد اعتذر عن كلّ مشاغل هامشيةٍ جاءت تسعى إليه، ومضى حثيثًا إلى مهمته التى كان أجرها مدفوعًا مقدَّمًا. ومنذ الوهلة الأولى التى سمحتْ لأهل البلدة بالتوغّل فيه، اكتشفوا أن عينَيْه بلا بياضٍ ولا سوادٍ ولا نظرةٍ محدّدة تستقرّ عليها النظرات، وأنّ شاربه بلون الصفق العجوز أحيانًا، وبلون خلاصةِ اللبن أحيانًا أخرى، وأنّ وحمةً جبّارةً قد استقرّتْ على ثلثَى خدّه الأيسر، حتّى كأنّ وجهه أيمن فقط. كان مزيجًا من الغرابة والغرابة الأغرب، تكّته من حديدٍ ليّن، وسراويله من قماشٍ غير متداول، عجزت الخبرة الطويلة للحسن ولد زينب، خيّاط العمائم والجلابيب الشهير، فى الوصول إلى خاماته. وصوته الذى قال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، لا يمتُّ بصلةٍ إلى صوته الذى شتمَ كلب الحرّ وآباءه وأجداده عندما أحرقَ المداخل.. لا يمتّ بصلةٍ إلى صوته الذى قال: «بلدتكم جميلةٌ، لكنّها سيّئةُ الطبع». 

منذ أُطفئ وضُمِّدَ وانتقلَ إلى ضيافة سليمان، لم ينقطع التوغّل فيه، لدرجةِ أنّ كركرة الغازات فى بطنه كانت قد لُوحظتْ واكتُشِفَتْ. وعلى مدى ثمانيةٍ وعشرين عامًا، هى عمر التصاقه بالبلدة، كانت غرابته تتراجع يومًا فيومًا، حتّى صار مألوفًا للنمل والعقارب، والبراغيث التى استطعمَتْ دمَه كما كانت تستطعم دماءَ الناس فى البلدة.

أوّل من اعترضَ طريقَه كان سعدية المبارك. فى البداية طلبتْ السماح، واعتذرتْ عن سلوكٍ ما كان يحدُث من ولدٍ آخر من عيالها. ثم سردتْ، بصوت أمٍّ مجروحة، قصةَ الولد الذى مزّق عيْنَها، وبعثر هيبتَها، وجعل رقبتَها مثل رقبَة الدجاجة، وجلستَها وسط النساء كجلسة الجرادة فى وسط الطيور. وبلغ بها الأسى درجةً من الطيش أنّها رفعتْ ثوبَها، أرتْه ستة جروحٍ قديمة تتوزّع على الساقَيْن عشوائيًّا، قالتْ:

«انظرْ يا شيخنَا... هذا من كثرةِ الوقوع والخبط فى الأبواب وأنا ألهثُ وراءه». 

ثم سقطتْ باكيةً.

واساها الضيفُ بصوتٍ لا يمتّ إلى أصواته السابقة بصِلةٍ، وعد بلملمةِ بعثرتِها وترقيعِ عينِها وإعادةِ هيبتها، ومسح آثار الجروح القديمة من ساقيْها، ولكن بعد انتهاء مهمّته.

ثانى مَن اعترض أباليسه عجوزٌ عاشقٌ من إحدى القبائل، كان قد استهزَأ بدستورِ أنداده الذى ينهى عن العشق والتباكى واستهلاك طاقة القلب فى هذه السنّ، ويحضّ على تعمير المساجد، ومطاردة التقوى، وانتظار الراحة الأبدية بذاتٍ متجرّدةٍ، وقد سقطَ فى حبّ فتاةٍ مراهقةٍ كانت تضحكُ بشدّة كلّما شاهدتْه فى الطريق، أو تبختَرَ أمامها بقلبه العاشق. كان الفقيه ولد أقرع قد وعده مازحًا فى إحدى أماسيه العامرة بالضحك بتقوية رجولته، وإحياء نشاط ركبتيه، والرقص بالعصا فى يوم زفافه إلى الفتاة المراهقة، ثم مات والمزحة لا تزال معششةً فى ذاكرة العجوز. وقد حاول كثيرٌ من الناس تنويره. قالوا له لا تصدِّق ولد أقرع، لقد كان رحمه الله يُحبّ المزاح، فلم يأبه لهم. وعندما انطلقتْ شائعةُ الفيض الذى أتى، وإمكانية تحقيق ما لا يمكن تحقيقه فى البلدة، زحف إلى الفيض زحفًا. وكانت فَتاتُه التى يعشقها الآن فى سنٍّ تسمح لها بالضحك أكثر.

عرض العجوز أشجانه، ورغبته فى الفتاة الصبيّة، متبوعةً بقيراط من التمر وخاتمَين من الذهب، وصندلٍ من جلدٍ أصيل على الضيف. فتقبَّل التمر والخاتمَين والصندل الجلدى، ووعد بالنظر فى تلبية نداء الأشجان فيما بعد.

وتوالت اعتراضاتُ البلدة للتكرورى، لدرجة أنّ أعراب الفراحين، الذين كانوا يترحّلون فى صحراء متاخمة، ويعذّبهم البحث عن مصادر الماء، وآثار المطر، وأماكن تجمّع الجراد الصحراوى، الذى يُشكّل وجبةً مهمّةً لديهم، جاءوا. خيّموا فى البلدة بانتظار أن يُفرج الضيف عن حكمته ويُرشدهم. أيضًا جاءت عفيفة راقصة الريف الشهيرة، التى أصلها من غجر صعيد مصر. كانت مطلّقةً فى ذلك الحين، وكان فى خاطرها تاجرٌ متمكّنٌ فى التجارة، جاءتْ لتكتيفه. هذه لم يقبل التكرورى استقبالها أبدًا، قال: «فى قلبها حسدٌ، وفى وجهها وشمٌ يقتل نخوةَ خدّامه الأوفياء». وعندما جهر سوار الشحّاذ بعقيرة المتسوّلين، قال: «كلّنا فى الهوا سوا.. وشعيب ماضٍ فى طريقى»، اضطُر سليمان إلى تعيين موظّفين أمنيّين حمايةً لضيفه، وتدعيمًا لمشروع التهريج أن يكتمل. لم يأتِ كلب الحرّ إلى تلك المعمعة أبدًا، بالرغم من ركوده فى البلدة. اكتفى بفعلةِ إحراق الطرق، وكان ينتظر أمَّه كلّما خرجت وعادتْ، يسألها عن جهودها المضنية فى شأن أخلاقه، ويضحك: 

«هل وعدكِ بشىء؟».

وتبلغ به الوقاحة أن يُبدى استعداده لجلبِ خامات شفائه من أى مكان يُحدّده التكرورى، حتّى لو كان بلدة المرافيت فى أقصى الشرق، التى تقطنها الضباع وذئاب البرارى. كانت أمّه تغتاظ، لكنّ غيظها يتلاشى شيئًا فشيئًا، وتجد فى ذات الدرب الذى اختير لها:

«أحضروا الصبى عدوّ الشياطين».

وبالرغم من أنّ أمّه أنكرتْ حملَه وولادتَه وإرضاعَه، والنزوحَ به إلى ميعة الصبا.. وبالرغم من أنّ جدّته أنكرتْ حملَها أباه وولادتَه وإرضاعَه، وتزويجَه وثكلَه أيضًا.. وبالرغم من أنّ ثرثرة الريف الفاطرة أبدًا صامَتْ فى ذلك اليوم وجلًا من مصيرٍ غامضٍ، عثر الباحثون على هارون مسلَّم، عثروا عليه مغلّفًا بدهان الجَمَلكة الشبيه بلون الجلود الوطنية، ومرصوصًا وسط عدّة طاولات باللون نفسه، غطّى بعضها رأسه، وبعضها رجلَيْه، وعلى ظهره مفرشٌ من قماشٍ خشن، وعلى المفرش كوبٌ من الزجاج المشجَّر، تتألّق فى قاعه بقايا من عصير العرديب، كأنّه قُدِّم لضيفٍ رفيع الشأن رشف منه قليلًا ولم يُكمله. كان تخفِّيًا مبتكرًا، متجاوزًا تخفِّيات الريف الغشيمة، التى ما تعدّتْ أبدًا عيدان الذرة، وحقول البرسيم، وحظائر الماشية، وأسفل ملابس الجدَّات. وكان الصبى قد أُلهمَ به فى لحظة خوفه الكبير. ولولا أن نجّارًا لمّاحًا كان بين الباحثين، انتقد تلك الطاولة المقوّسة، وسعى إلى إصلاحها، لما عثروا على ولد مسلّم أبدًا.

جرّوه من التخفّى الماكر، غسلوه بصبغة اليود، والفنيك، وماء الكولونيا اللافندر، ووضعوه نظيفًا يتلألأ بين يدى شعيب التكرورى. تأمّله الأخير بتأنٍ لافتٍ بدا للكثيرين أنّه تأنّى الخبرة وهى تَختبر؛ جسّ شعرَه الخشن، وجنبَيْه الهزيلَيْن، قرص أذنَه، وقسا على بطنه الضامر بأصابع سميكة حتّى حصل على نموذجٍ معتوهٍ لضحكة صبيّة. كانت أمّه تتلوّى، جدّاته يؤلّفنَ المناحات، وقبيلته الهشّة بلا حولٍ ولا قوّة ولا حتّى عكازٍ يرتفع، أو صوتٍ يصيح. وذوو الحاجات الذين جاءوا أصلًا لقضاء حاجاتهم، وعطّلتْهم مهمّة التكرورى، يدخلون ويخرجون، ويتأفّفون. وفى النهاية قال التكرورى بصوتٍ لا يمتّ إلى جميع أصواته السابقة بصلةٍ.. صوت ناظرٍ مخضرَمٍ لمدرسةٍ ابتدائيّة: «هو ذا مهرّجكم، خذوه إلى العاصمة لتكملة الإجراءات».

منذ صغره أرادَ أن يُصبح عورة. اتكاءً على تلك الرغبة التى ابتلعتْ طفولتَه، وتماسُك أهل بيته وجيرانه، وأماكنَ حسّاسة فى جسد العادات والتقاليد، وقراءات الحفظ والتجويد، والمدائح فى خلوة الفقيه داود أقرع، انفلتَ الصبى. كحَّلَ عينَيْه بكحلِ الزوغان، تعلّم سفّ التنباك وتدخين السجائر، ونكشَ الشعر بأمشاطِ الخشب والحديد. وطَّد علاقته بالهرجلة والحرَدان، والسهر، والبحث عن عظام العصعص فى طبيخ الكمّونية الرخو الخالى من العظام، فى الوقت الذى كان فيه الصبيان دافئِينَ ودلّوعِينَ وهادِئين، ويَشدّون قرصات الدلّال شدًّا إلى خدودهم.

كانتْ قمصانه من أقمشةٍ مزركشة، وسراويله يغلب على ألوانها الأحمر والأخضر، والليمونى، وكساءُ نعليْه من صنادل كان يلوّنها بنفسه. وكانت فِرق الصرعاتِ الموسيقية والفنّية، مثل فرقة «ليالينا»، وفرقة «الصعاليك»، التى تهتكُ هدوءَ الريف من حين لآخر، تجِدُ فى هيئته موضةً فريدةً، وفى صوته بركانًا يسند صرعاتِها الموسيقيّة حتى ترتحل.

فى البداية نوّه الفقيه داود أقرع برفقاء السوء المحليّين، ثم بالتأرجح التربوى داخل البيت، ثم بالبرامج الإذاعيّة، ثم بغابات النيم الواقعة خلف البلدة، التى تتمرّغ فيها الشقاوة وألعاب الكرة، وصيد الزرازير الحزين. وعندما شاهد الصبى فى أحد الأيام يشدّ عنزًا من ذيلها، ويُلقى بها فى أعماق ترعة ريفيّة غاضبة، وفى يومٍ آخر يعتدى على نخلةٍ مثمرة، ويجزّها من عرقها بفأس، قال: «الضرب على الميِّت حرام».

وأنزل عصاه، ولم يرفعها حتى رحل.

وفى إحدى السنوات وصل إلى البلدة مع الصباح الباكر، مثل مغسولٍ يُقرّر «أنّ السيّئة منكورة». تقبّلتْه البلدة بصدرٍ رحب، عمّمتْه على البيوت والشوارع والأزقّة والسوق. وبدأ الناس يُنكرون سيّئاتهم بشدّة، يُخرجونها من الأنفس، ويُلقونها فى الطرق حتى تكوّمَتْ السيّئات بلا أهلٍ ولا أولياء. عربدتْ الخمور بلا سكارى، والصعلكةُ بلا صعاليك، وسرقاتُ الليل بلا لصوص، أُكِلتْ أموالُ اليتامى بلا أسنان، وأموالُ المواطنين بلا سوق سوداء، وطُرقَتْ بيوتُ الهوى بلا أصابع.

ضرب سعيد الورّاق على صدره ذى العظام الليّنة فى ذلك الحين وصرخ: «كلّها سيّئاتى». وهجم على المثل ومزّق جسدَه.

كانت أمّه مغتاظةً وغير مصدِّقة، أنتجتْه بالخطواتِ نفسها التى أنتجتْ بها إخوانَه من قبل؛ دوَخان الصباح، وتورُّم الساقين، وكراهيةُ نبات الجرجير وثمار الدوم وطيور القطا المسافرة فى الأجواء، والشعور الأهوج بدنوّ الأجَل كلَّما رفّتْ عينُها أو ارتعشَ لسانها، أو داهم الطلقُ امرأةً فى البلدة. حتّى اسمه سعيد، كان ناتجًا من رؤيا ليليّة رأتْ فيها شيخًا أبيض اللحية يخرج من ماءٍ عذبٍ، ويُهديها إياه.. تمامًا مثلما نتجتْ أسماءُ إخوانه كلّهم. تركتْ عافيتَها تتأرجح، ولسانها يتمرّغ فى المذاق المرّ ومشاغلها البيتيّة تذهب إلى الجحيم، وبدأتْ تُنقِّب البلدةَ بحثًا عن عملٍ معمولٍ، أو طلسمٍ مدفونٍ فى الأرض، أو شيطانٍ أعورَ حرّضتْه الغيرة وموّله الحسد. ولم تقصِّر البلدة أبدًا، كانت تؤازر تنقيبَها بشدّة، وتمدّها بالأعمالِ المعمولة، والطلاسم المطلسَمة، والشياطين العُور باستمرار، حتّى ضجّ بيتُها بجلود التيوس وخصلات الشعر، وألسنة الضفادع، والصفق المكسّر، وخلاصات الأجنّة أيضًا، وتحوّلَ بمرور الأيام إلى سلّةٍ همجيّةٍ للمهملات.

سألوه ذات يوم:

- متى تجعل أمّكَ تمشِّط شعرَها وتكحِّل عينيْها، وتنام الضحى والقيلولة مثل سائر النساء؟

ضحكَ ضحكةً طاعنةً فى الشقاوة حسده عليها الكثيرون.. قال:

- حتّى يجعلها أبى تفعل ذلك.

سمعه أبوه صبر الورّاق، الذى كان مبتهِجًا فى عرسه الثانى، أو ربّما الثالث أو الرابع، فى إحدى القرى المجاورة. أخبره الفتّانون وهم يحملون فتنةً يوميّة كانت تُملَّح وتُبهَّر وتُطبَخ على نارٍ هادئة، ويُطاف بها فى القرى والأرياف لتوزَّع على مستهلكيها، من وسط بعثرة العرس لملموه:

«يا ولد الورّاق... يا ولد الورّاق».

نزع عمامة العرس الناصعة البياض عن رأسه، ترنّم بأغنيةٍ راقصة. رقص وانتشى وتصابى، وطوّقَ ماشطات الشعر والمغنّيات بأضعاف ما كان يُطوقه بهنّ العُمَد والمشايخ، والنظّار، كانتْ حِنّاؤه ليّنة حين عاد، دماؤه مطليّةً بفرحٍ غامضٍ، أُبوّته ساخنة ومتهيّجة، وفى فمه مشاريع ضحكات تُوشك أن تكتمل. قبّل ابنه، وضع فى جيبه جنيهًا، فى قدميه صندلًا جديدًا، وفى فمه المسوّس الأسنان سيجارةً مشتعلةً من ماركة «برينجى»، وذهب. 

تلك الليلة حلف الرجال طلاقًا على سعدية المبارك ألّا تنفعل، أهدوها عقاقير «سمبا» المخدّرة للأعصاب، سلّفوها نساءهم ولياليهم للتهدئة، رصّوا على حجرها المنتفض عيالَها الآخرين وعيالَهم الخجولين لإعادة الثقة إلى أُمومتها. أتتْها ضرَّات عديدة تصاحبنَ فجأةً وجلسنَ عندها رزينات، وغضب أحد المخلِصين غضبًا مقصودًا، فتزوّج فى الليلة نفسها بثانية، وجاء بزوجتَيه أنيقتَيْن ووديعتَيْن تحتضن إحداهما الأخرى. حتّى داود أقرع الفقيه جاءها، كان كبيرًا فى العطاء، وواسع الصدر، كلّمها عن النقاء والتضحية، وابتلاءات العبد، وأهداها قِصّة شفاهيّة وردت فى مآثر الغابرين.

وعندما هدأتْ فى النهاية كانت البلدة قد سيطتْ وانقلبتْ وتوعّكتْ، ركضتْ ألسنتُها بأقاويلَ طازجةٍ، ومشتْ فى إرثها عاداتٌ وتقاليدُ ما كانت تجرؤ على المشى من قبل.

وكانت أكثر الأيام تحدّيًا لأمومتها، تلك التى أعقبتْ دخول موضة «المثل الأعلى» إلى البلدة، بعد أن سَفَرَت أعوامًا فى العاصمة والمدن، وحملتْها الطرق المعبَّدة والوعرة إلى الريف. كانتْ قد سالتْ من العالم على البلاد عبر مواسير الصداقة والحقائب الدبلوماسيّة، والجهود المبذولة لتحسين الوضع.

فجأةً أصبحتْ ابتسامةُ تشرشل مثلًا أعلى لابتسامة رئيس الوزراء، وأحذيةُ قدمَى إميلدا ماركوس مثلًا أعلى لأحذية أقدام القرينات والعقيلات، ودعاياتُ «سيجنال تو» مثلًا أعلى لدعايات مسواك الأراك، وتشرّدُ الغجر فى روما وسالونيك مثلًا أعلى لتشرّد البدو فى تهاميم وعيدات وعيتربة، والدماءُ التى شهقتْ فى شوارع منروفيا وكوت ديفوار مثلًا أعلى للدماءِ التى سوف تشهَق فى شوارع الخرطوم، وطموحُ المناوئين فى كوبا وسلفادور مثلًا أعلى لطموحِ المناوئين فى اتحادِ نقاباتِ العمّال والمهنيّين والمصارف، وحلاقةُ شعر النازيِّين فى هامبورغ مثلًا أعلى لحلاقة شعر الصعاليك فى زقاق أبورفّاس. حتى مقابر البكرى وفاروق، وحمد النيل وجدتْ مثلًا أعلى فى مقابر سيبيريا. وميدان أبى جنزير الأعرج فى وسط العاصمة، تضرّج احمرارًا عندما اتّخذ مثلًا أعلى ميدانَ روسيا الشهير. لم تكُن حركة طالبان موجودةً فى ذلك الحين، لتصير مثلًا أعلى للميليشيات المسلّحة، ولا كان لتنظيم القاعدة تنفّسٌ، يُصيّره مثلًا أعلى لتنفّس معسكرات التدريب العنيفة فى البلاد.