من كتاب «خالد النبوى.. سقف جديد للإبداع» لأيمن الحكيم
أنا وهؤلاء.. خالد النبوى يحكى عن هيكل والأبنودى ومحمود عوض وصلاح عيسى
- افتقدت كتابات زكى نجيب محمود العميقة فدلنى محمود ياسين على مقالات أنور عبدالملك
يحتفى مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، الذى يقام خلال الفترة من 9 إلى 14 يناير الجارى، بمسيرة النجم الكبير خالد النبوى، حيث يعرض له 4 أفلام خلال فعاليات المهرجان، فضلًا عن إصدار خاص بعنوان «خالد النبوى.. سقف جديد للإبداع»، من تأليف الكاتب أيمن الحكيم.
«حرف» تنفرد بنشر فصل من الكتاب، وفيه يتحدث خالد النبوى عن علاقاته بعدد من رموز الثقافة والإبداع فى مصر.
كنت محظوظًا بهؤلاء المبدعين العظماء الذين عاشوا فى حياتى وعرفتهم فى مشوارى وشكلوا وجدانى وأناروا عقلى وتعلمت منهم الكثير..
كنت محظوظًا بالقرب من ممثل كبير مثل نور الشريف.. والحق أن الأستاذ نور كان مثقفًا حقيقيًا وتستمتع بالحديث معه والاستماع لوجهات نظره وكان قادرًا على الحديث بعمق فى كل القضايا.. وبسبب قربى من الأستاذ نور وزياراتى له فى مكتبه وعشقه للكتب اقتنيت مجموعات من الكتب كان حريصًا أن تكون فى مكتبته، يعنى مثلًا اشتريت موسوعة «قصة الحضارة» من ٢٢ جزءا، ولفت نظرى كذلك حرصه على تجليد كتبه، يعنى يشترى الكتب ويبعتها تتجلد بطريقة معينة.. كان أستاذا وتعلمت منه الكثير.
وعرفت ممثلًا قديرًا آخر هو الفنان الكبير محمود ياسين، أحد أساتذتى الكبار والداعمين الحقيقيين والمؤمنين بى، عرفته فى بداية مشوارى بعد أن جمعنا العمل فى مسلسل «الحكم مؤجل» من إخراج الأستاذة علوية زكى، وصارت بعدها علاقة عظيمة، فتح لى بيته وقلبه وأعطانى الكثير من خبرته، فى أى وقت أعوذ أشوفه أكلمه وأعدى عليه فى مكتبه بالهرم، ياما قعد يحكى لى عن مشواره وذكرياته، وياما تكلمنا فى «الشغلانة» وما يجرى فيها، الغريب إنه كان منحازا لجيلنا، كان يرانا الأحسن والأكثر تطورا، وكنت أراجعه فى رأيه وأقول له: أنتم جيل عظيم، لكنه كان مصرًا: أنتم أحسن منا..
والأستاذ محمود ياسين كان قارئًا عظيمًا، وهو الذى دلنى على الدكتور أنور عبد الملك المفكر الكبير، مرة قلت له إننى أفتقد كتابات وأفكار ومقالات الفيلسوف العظيم د. زكى نجيب محمود فى الأهرام، وكانت ظروفه الصحية قد منعته حينها من الكتابة (وكنت أنتظر مقاله الأسبوعى بشغف) ثم كان حزنى عليه كبيرا عندما رحل، سألنى محمود ياسين: قريت لأنور عبدالملك؟، وقرأته ووجدتنى أمام مفكر عظيم..
كنت ممتنا للأقدار التى وضعت فى طريقى كاتبا مبدعا مثل محسن زايد، كنت أعتبره «أبويا»، وهو نفسه كان يعاملنى على أننى ابنه، كنت أستمتع بالحديث معه، وطالما عزمنى على طواجن السمك الذى يعشقه، فجأة يكلمنى: إنت فين يا واد؟، وقبل أن أجيبه يواصل: أنا عند عمك عمار الشريعى و كان لسه بيسألنى عليك.. تعالى عايز يشوفك.. إحنا عنده فى الاستديو بالمنيل..إوعى تتأخر!
عرفت الأستاذ محسن منذ بداية مشوارى، بعد أن شاركت فى فيلمه «المواطن مصرى» ( كتب له السيناريو عن رواية للأستاذ يوسف القعيد)، ثم توطدت صلتى به مع مسلسله الفذ «حديث الصباح والمساء»، وكنت أزوره فى بيته أثناء كتابة السيناريو، وكنت أجده وقد حوّل الحائط إلى سبورة كبيرة علق عليها شجرة العائلات فى الأحداث، ومن قرأ رواية الأستاذ نجيب محفوظ المأخوذ عنها المسلسل يدرك صعوبة بل استحالة تحويلها إلى حلقات درامية، وأذكر أن الأستاذ أسامة أنور عكاشة قال لى مرة عن مسلسل «حديث الصباح والمساء»: محسن زايد تصدى للمستحيل.. عمل اللى مفيش سينارست يقدر يعمله.
وكان لى حظ أن أكون صديقا للأستاذ أسامة أنور عكاشة، وكان شايف أن «رام» فى المصير و«داود باشا» فى «حديث الصباح والمساء» هما أفضل أدوارى على الإطلاق (حتى ذلك الوقت طبعا)، ودايما كلما قابلنى يقول لى: عايزين نشتغل مع بعض، وأنا كنت أتمنى طبعا، لكن هذه الأمنية تحققت للأسف بعد رحيل الأستاذ أسامة فى مسلسل «راجعين يا هوى» المأخوذ عن قصة له.
وأسعدنى الحظ كذلك بصداقة كاتب كبير آخر هو الأستاذ محفوظ عبدالرحمن، وكان مسلسله البديع «بوابة الحلوانى» من الأعمال الفارقة فى بدايات مشواري، من تأليفه وإخراج الأستاذ إبراهيم الصحن، ولا يزال دور «حمزة الحلوانى» من الأدوار التى أعتز بها فى رصيدى الفنى..وما زلت أذكر أنه المسلسل الذى أتاح لى المقابلة الوحيدة مع الموسيقار العبقرى بليغ حمدى، وبليغ بالنسبة لى موهبة استثنائية، وله عندى مكانة خاصة، ودائمًا ما أقول: أتمنى أن أمثل زى ما كان بليغ بيلحن..
ووقت المسلسل طلبت من المخرج إبراهيم الصحن أن يبلغنى بالموعد الذى سيحضر فيه بليغ إلى الاستوديو، وكان قد أسند إليه تلحين تترات وأغانى المسلسل، وظللت أترقب حتى أبلغنى الأستاذ الصحن: بليغ هيكون بعد بكره فى ستديو ١٠ بالتليفزيون، طبعًا رحت فى الميعاد، وأذكر أن الاستديو لم يكن به غير كرسيين، جلس المخرج على أحدهما وترك المونتير «وأذكر أن اسمه ماجد» كرسيه للأستاذ بليغ، وسلمت على بليغ، وكانت هى المرة الوحيدة التى قابلته فيها، ولم يزد الحوار بيننا عن كلمات قليلة، حيث سأل عنى المخرج فقال: ده عامل دور حلو قوى فى المسلسل، كانت دماغ بليغ مشغولة بالألحان، قعد يسمع من المخرج عن أحداثه ويتفرج على مشاهده، ولم يكن قد بدأ بعد فى مزيكا المسلسل، كل ذلك وأنا جالس على الأرض بجانبهم فى الاستوديو أتابع بليغ من بعيد وأتأمل هذا العبقرى الذى سحرنى بألحانه ونغماته ولا يزال..
الغريب والمدهش أننى كنت سأعتذر عن مسلسل «بوابة الحلوانى»، كان أجرى فى العمل ١٩٠٠ جنيه، ووقتها عرُض علىّ المشاركة فى فيلم وكان أجرى فيه يزيد بنحو مرتين ونصف، وكنت وقتها مسئولا عن أسرتى بعد وفاة والدى باعتبارى الابن الكبير، والحقيقة أن الأجر الضخم فى الفيلم لعب فى دماغى، فقد كنا فى حاجة إلى هذا المبلغ، لكن أمى رحمها الله هى التى منعتنى، وعلمتنى درسا لا أنساه فى الالتزام واحترام تعهدى حتى لو كان الاتفاق عليه بكلمة من لسانى، قالت لى بحسم: طالما اتفقت على المسلسل الأول يبقى لازم تلتزم.. إوعى ترجع فى كلمتك حتى لو خسرت الفلوس!
أمى من الشخصيات التى علمتنى كثيرا، وأدين لها بالفضل، ربما لم تنل حظا كافيا من التعليم ولكنها كانت تملك فيضا من الوعى والفطرة الإنسانية والحكمة الحياتية «وأفتقدها كثيرا منذ رحيلها إلى رحمة الله فى ١٤ سبتمبر ٢٠١٨».
وأسعدنى زمانى بصداقة شاعر عظيم مثل الخال عبدالرحمن الأبنودى، وقبل هذه الصداقة كنت واحدا من عشاق شعره، ثم حدث فى العام ١٩٩٨ أن فوجئت باتصال من صديقى الصحفى بالأهرام على السيد يخبرنى بأن الأستاذ الأبنودى مريض، وقلت له فورا وبدون أن أعرف أى تفاصيل: لازم نزوره ونطمن عليه، ولكنه فاجأنى من جديد: طبعًا هنزوره.. بس هو مكلفنى أحمل لك رسالة.. هو كان هيشارك بعد بكره فى ندوة بنقابة الصحفيين تضامنًا مع ليبيا ضد العدوان الأمريكى عليها وكان هيقرأ قصيدته «الموت على الأسفلت».. فهو اختارك تقولها مكانه وتختار منها المقاطع اللى تعجبك!
لا تتصور مدى فرحتى بهذا الاختيار، ووافقت فورًا، واخترت أن أقرأ الأبيات التى تبدأ بقوله:
ينام العالم العربى
ليلاتى.. زى ما بينام
بعواجيزه.. بفتيانه
بأطفاله.. بشبانه
قرا الجورنال
وملا سيارته بالبنزين
وشاف النشرة بعد الضهر
وقال فى الانتفاضة كلام
وحياها
وبعدين نام
وتضاعفت سعادتى عندما اختارنى لأحاوره فى العدد التذكارى لمجلة «نصف الدنيا» فى عيد ميلادها العاشر (فبراير ١٩٩٩)، وفيه تولى نور الشريف محاورة هيكل، وليلى علوى حاورت أنيس منصور، وحاور أسامة أنور عكاشة وزير الثقافة فاروق حسنى، ولك أن تتخيل صعوبة مهمتى فى أن أشارك فى عمل بهذه القيمة، وأن يكون من نصيبى محاورة شاعر بقيمة الأبنودى، واحتشدت لتلك المهمة الصحفية، وسافرت إليه فى بيته الريفى بالإسماعيلية، وسجلت معه نحو ثلاث ساعات، وأفردت له المجلة ٦ صفحات كاملة.
واستمرت علاقتى بالخال وكنت أزوره فى الإسماعيلية حيث يقيم، وغالبًا ما كان يعزمنا على السمك، بالإضافة إلى المانجو الذى يقطفه من مزرعته، والأمتع كان حديثه وذكرياته وحكاياته وشعره، وظلت العلاقة حتى آخر حياته، وما زلت أعشق شعره وأردده، خاصة جوابات «حراجى القط».. وأعتز كثيرًا بالإهداء الذى كتبه لى على الديوان: «إلى الفنان المهم.. شاعر الرباب المختبئ تحت القميص والبنطلون.. تحية من حراجى القط الذى عشقته فعشقك الناس.. تحية لا ينفد عطاؤها ومسيرة تحوطها محبتنا».
ومن الذين تأثرت بهم وشكلوا تكوينى وأعتز بصداقتهم كاتبنا الكبير الأستاذ هيكل، وكنت أتردد عليه فى مكتبه على نيل الجيزة، ودائمًا كان يستقبلنى بسؤاله الذى لا يتغير: يا خالد.. الفن بيعمل إيه النهارده؟..
ولا يصح أن يأتى ذكر الأهرام وكتابه ومبدعيه ولا أذكر بكل تقدير ومحبة الأستاذ الكبير سلامة أحمد سلامة وقلمه المستنير وعموده الرائع «من قريب»، ولا أنسى عندما جاء ليشاهد مسرحية «الجنزير» وجاءنى بعد العرض ليهنئنى، وكانت سعادتى به غامرة وظللت أنا أحدثه عن مقالاته وإعجابى بما يكتبه.. وأقول له بفرح: أنا بقرأ لك كل يوم!.
ومن الكُتّاب الذين تشرفت بمعرفتهم وسحرتنى كتاباتهم وتعلمت منها الأستاذ صلاح عيسى، وكان كتابه الممتع «حكايات من دفتر الوطن» من المراجع التى عدت إليها أثناء التحضير لمسلسل «ممالك النار» وشخصية «طومان باى».. ولا أنسى دفاعه المجيد عن فيلم «المهاجر» عندما تعرض لحملة شديدة ومحاولات للمنع..
وصرنا أصدقاء، وكنت من قرائه، وأستمتع بكتاباته التاريخية، ولا أنسى أننى صحبت معى كتابه «رجال ريا وسكينة» فى شنطة سفرى وأنا مسافر لتصوير فيلم «مملكة الجنة» وكان رفيقى وسلوتى فى الأيام التى لا يكون لى فيها مشاهد للتصوير..
تشرفت كذلك بصداقة كاتب كبير آخر هو الأستاذ محمود عوض، صاحب الكتب الفذة عن أم كلثوم وعبدالوهاب وعن تاريخنا السياسى، وهى من الكتب التى أثرت كثيرًا فى وجدانى وتكوينى وأضاءت عقلى، ولذلك كنت حريصًا على أن أوجه له الدعوة لحضور مسرحيتى «لعب عيال» بالمسرح القومى، ولا أنسى تعليقه ورأيه: إنت ماشى عكس التيار.. فخليك عكس التيار..وهتوصل!.
وعندما أصدر كتابه الموسوعى عن تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى «.. وعليكم السلام» كتب لى عليه هذا الاهداء: «إلى صديقى الفنان خالد النبوى.. مع كل التحية والتقدير»، وبعد توقيعه على الإهداء سجل تاريخه (نوفمبر ١٩٧٧).. فسجلت أنا تحته هذه الملاحظة: الأستاذ محمود عوض كان يقصد عام ١٩٩٧ لكن أعتقد أن عقله كان لا يزال مشغولًا بتاريخ نوفمبر ١٩٧٧ تاريخ ذهاب الرئيس السادات إلى إسرائيل».
عرفت الناقد الكبير رجاء النقاش، أول من وضع صورتى على غلاف مجلة الكواكب، وكان من أكثر الداعمين لى فى أول مشوارى، وجاء لمشاهدة «الجنزير» وأبدى إعجابه الشديد بالعرض، وعزمنى كثيرًا فى بيته، وفى تلك السهرات قابلت نجوم الإبداع والفن وقتها مثل صلاح السعدنى وجمال الغيطاتى وفريدة الشوباشى وشمس الإتربى..
ربما يكون من المنطقى والطبيعى أن أكون صديقًا لهؤلاء المبدعين أو أن أسعى إلى صداقتهم والتعلم منهم، لكنى كنت أسعى كذلك لكل من هو صاحب قيمة وتجربة، وأفتخر مثلًا بتلك الصداقة التى تجمعنى بالعالم الجليل د. محمد غنيم، رائد زراعة الكلى ومؤسس أشهر مراكزها فى مدينتى المنصورة، وزرته هناك فى مكتبه، وأسعد كثيرًا بلقائه، لأننى أجد نفسى أمام رجل قيمة، فضلًا عن ثقافته الرفيعة..
جمعتنى الصداقة كذلك مع الدكتور أحمد زويل، فوجئت بهذا العالم الحاصل على نوبل فى الكيمياء أنه صحب معه نحو ١٤ عالمًا أمريكيًا ليشاهدوا فيلمى «مملكة الجنة» وكان فى منتهى السعادة لأن ممثلًا مصريًا يشارك فى بطولة هذا العمل السينمائى الضخم، وحدث تعارف بيننا فى زياراته للقاهرة، وأهديته نسخة من فيلمى «المهاجر» و«المصير» بناء على طلبه، كما أهدانى أحد كتبه، ورغم مكانته العلمية الرفيعة وتخصصه الدقيق، إلا أنه كان من المهتمين بالثقافة والفن العارفين بقيمة الإبداع والفكر..
من الصعب بل من المستحيل أن أحصى عدد كل هؤلاء الذين كنت محظوظًا بصداقتهم، من كبار المبدعين والشخصيات المعتبرة، ممن كان لكل واحد فيهم أثر وبصمة فى وجدانى وعقلى، فالمقام لا يتسع للحديث عن دورهم وتأثيرهم، بل وتأثير من عشت معهم فى إبداعهم ولم يحالفنى الحظ فى أن ألتقى بهم مثل صلاح جاهين وفؤاد حداد ونجيب سرور.. لكن يبقى لأستاذى يوسف شاهين مكانة خاصة، منحنى بداية لم أكن أحلم بها فى المهاجر.