رحلتى مع رجال الدين.. الشك.. إسقاط الأقنعة.. التحجيم!
- رجل الدين لا يستطيع أو ليس من قدراته أن يقودنى أو حتى يقود نفسه إلى الفردوس
- لدىّ خبرات شخصية سابقة سلبية فيما يخص منظومة الكتاتيب خاصة فى الأقاليم
- رجال الدين يرهبون الناس بمقولة يقينية «قال رسول الله» ثم يلقون بأقوالٍ تقطع بصواب ما يدّعون
رحلةٌ طويلة بدأت إرهاصاتُها مبكرًا جدًا وأنا فى مراحل الدراسة الأساسية، وعبارة «اسأل الشيخ» كانت أول أسطرها.
فكان التصادم العقلى الأول مبكرًا جدًا.. إذا كان الله هو خالق الكون فمن خلقَ اللهَ؟ ومتى؟ وماذا كان هناك قبل ذلك؟! وكان الرد الأغرب بسؤال متعالٍ متأفف.. إنت ياد بتصلى؟! روح اتوضى وصلى!
فى هذا العمر لم تكن عبارات الاستعاذة التقليدية تصلح للجم تمرد العقل الصغير. كان اكتشاف عجزهم عن المعرفة الحقيقية مبكرًا جدًا. ظلت تلك الأسئلة ترافقنى طويلًا حتى توصلت إلى قناعة بعد ذلك بسنوات.. قناعة لم أجدها عندهم. أننى- ككل إنسان- ضعيف أحتاج دائمًا إلى قوة روحية تمنحنى الإحساس بالحماية، والعدل، والاطمئنان بإمكانية اللجوء لتلك القوة ساعات الشدة. لن يكبح جموح العقل سوى طغيان الروح عليه بتنشيط احتياجها لتلك القوة. ورجل الدين لا يملك هذه القوة فهو- أى رجل دين- ليس الله وليس نبيًا مرسلًا، بل هو ضعيف مثلى تمامًا يحتاج إلى هذه القوة.
روضتُ عقلى وعقدتُ اتفاقى معه بعيدًا عنهم.. لا تبحث عمن خلق اللهَ، لكن ابحث عمن يمنحك سكينة روحك، ولن تجد ذلك إلا فى رحاب الله ذاته، لا فى رحاب إنسانٍ مثلك يريد منك أن تكون تابعًا له تنفذ ما يريده هو وما يعتنقه هو، لا ما تطمح إليه أنت من سكينة روحك وطمأنينتها.
فلقد اكتشفتُ وقتها أننى أحب الله حين أراه وأعرفه مباشرة من قرآنه، بينما أنفر منه حين أراه فى كتب أو خطب أو حديث رجال الدين. أن أرى الله كما قال هو عن نفسه، لا كما يدعون هم عنه. اتهموا الشيخ ياسين فى دينه حين قال فى إحدى قصائده رأيتُ اللهَ فى كل شىء، لكننى قد فهمتُ قولته واخترقتنى وشعرتُ بصدقها وصدقته كما لم أصدقه من قبل.
فى تلك المرحلة الممتدة إلى نهاية المرحلة الثانوية استهوتنى تلك اللغة الرنانة الزاعقة لرجال الدين رغم قناعتى المبكرة بعجزهم وخوائهم عن المعرفة الحقيقية. استهوتنى الجرأة السياسية. التقطتْ يدى كتيبات كثيرة واستمعتُ لنجوم الكاسيت وعلى رأسهم كِشك، واستهوتنى المجلات والصحف النارية من عينة الاعتصام والمختار الإسلامى، وبعض إصدارات الأزهر المتعصبة جدًا وقتها. قرأتُ لأول مرة كلمة الطواغيت على صفحات الاعتصام على خلفية صورة كبيرة لعبدالناصر وضباط الثورة وفوقها عبارة «الطواغيت الذين حكموا مصر!»، واقتنيتُ كتيبات تحريم الموسيقى التى كنت أقرأها فى سخرية ثم أستمتع بأغنيات أم كلثوم وحليم! كيف يريد هؤلاء المجانين حرمانى منهما؟!
وصلتُ إلى مطبوعات الجماعات المتطرفة فى تلك المرحلة. حتى شيوخ الأوقاف وقتها كانوا لا يختلفون كثيرًا عن نجوم تلك الجماعات. ونجومٌ دعاة من المشاهير كانوا يسيرون فى نفس الركب. ارتضيتُ فى هذه المرحلة ممارسة الشيزوفرينيا العقلية.. التمتع المراهق بخطابٍ دينى زاعق مع التمتع بما أحب من موسيقى وغيرها من ممارسات الشباب.. عرفت العشق مبكرًا، وقرأتُ الشعر وكتبتُ بعض الخواطر الساذجة.
اكتشفت تناقضاتهم مبكرًا.. إمامٌ شابٌ مغترب يقيم باستراحة ملحقة بمسجد.. صادقناه فى المنطقة وجمع مريدين كُثر، وخطب خطبة عصماء عن تحريم التدخين. بعدها بيومين زرناه فى استراحته فرأيته يدخن. كنت الأصغر بين الزائرين فانفعلت عليه، ورد بعصبية خذوا عنى العلم والقول لا الفعل! آخر حكى فوق المنبر عن قصة الرجل الذى سقى الكلب بخُفه وخاطر بحياته بالنزول للجُب، ثم أقسم ثلاثًا فوق المنبر أن القصة لو حدثت الآن لما قام أحدٌ بما قام به الرجل! أقسم الرجلُ على تجردنا من أخلاقنا وإنسانيتنا وهو على المنبر!
حتى كانت مرحلة الجامعة فى معقلٍ من معاقل الإرهاب فى محافظة المنيا. قرأت كتاب سيد قطب لأول مرة وكتيبات حسن البنا وجريدة الشعب، وصليت جمعًا كثيرة فى مساجد الجماعة والجماعة الإسلامية، وصادفتُ بعض قياداتها الشهيرة فى مسجد شارع الحسينى ومنطقة أبوهلال والناس يعاملونهم كأنهم من الصحابة، وبعضهم ملطخة أيديهم بدماء رجال الشرطة فى مديرية أمن أسيوط وقت اغتيال السادات.
واكتشفت أن مساجد الأوقاف فى تلك المحافظة ليست إلا أوكارًا للجماعات المتطرفة المختلفة، ومكتباتها تعج بكتب التكفير. كانت أزمتى العقلية الحقيقية مع هؤلاء- شيوخ الأوقاف المتطرفين- لا مع أعضاء الجماعات.
وفى الجامعة وفى مدينتها الجامعية، رأيتُ الشيطان وجهًا لوجه. كانت غرفتى مقرًا ليليًا لجلسات عصفٍ ذهنى- دفعتُ ثمنها بالاستبعاد من العمل بالجامعة رغم تفوقى- مع بعض طلابهم، وأعترف بأننى لم أستطع مناطحتهم فى البداية لقيامهم دائمًا بترديد آيات قرآنية تبدو فى ظاهرها وكأنها تؤيد أفكارهم. وكلما سألتُ أحد شيوخ الأوقاف أراه يوافقهم.
كان جنونًا خالصًا أن تكون على يقين بصواب موقفك وتعجز عن الرد المتناسب مع حماسة الشباب.
كانت تلك نقطة البدء لرحلة قراءة زاعقة اقتطعتْ أشهرًا طويلة من سنوات الدراسة الجامعية، وشكلت حجر زاوية لكل قناعاتى لاحقًا.
بدأت الحقائق تتكشف، وبدأ الذهول يتوارى لصالح مشاعر غضبٍ عارمة. أصبحت أفكر فى كل كلمة يلقيها إمام مسجد فى خطبة جمعة. ما كل هذا الهراء! ما كل هذه الجرأة! ما كل هذا الاستغفال!
كيف تجرأوا على الله؟!
لقد شكّل هذا السؤال حاجزًا وسدًا منيعًا بينى وبينهم. كيف يتجرأون عليه ويدّعون أنه قد أباح لهم الفتوى بقتل إنسانٍ لمجرد أنه مسيحى أو يهودى أو مسلم مخالف الطائفة أو حتى وثنى؟ كيف يدّعون أنه قد أباح لهم الأموال والأنفس، وهو الذى لم يبح للنبى «ص» دماءَ الكفار إلا بعد أن رفعوا سيوفهم عليه، وحالوا بين الناس وبين تغيير معتقدهم؟!
حتى لو صح جدلًا- واعتقادى أنه غير صحيح ولم يقله- ما نُسب للنبى «ص» وقال لقد أُمِرتُ بأن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها فقد عصموا منى دماءهم. حتى لو صح هذا عنه، فهذا يختص فقط به هو كنبىًّ مرسل ولا يحق لأى إنسان بعده أن يدعى لنفسه حقًا اختص اللهُ به نبيَّه فقط.
كيف استباحوا لأنفسهم اغتصاب حق الله بالحكم على شخص بالردة ثم يستبيحون رقبة هذا الشخص؟ ما هذه الجرأة على الله؟
وكيف تجرأوا على كتاب الله، فزعموا أن عشرات الآيات عن الرحمة والتعايش كأنها لم تكن لمجرد أن أناسًا قد زعموا ذلك من قرون طويلة؟ كيف اختاروا الانتصارَ لآراء بشرٍ- مهما تكن أسماء هؤلاء البشر- فى مقابل آيات الله؟
كيف ادّعوا أحقية أناسٍ فى هدم دور عبادةٍ رغم تناقض ذلك مع آيات قرآنية صريحة، ومع سيرة النبى «ص»، ومع وثائق التاريخ التى أثبتت وجود هذه الدُور فى حياته عليه الصلاة والسلام؟!
لقد كرهتهم لذلك كثيرًا، وكرهتُ كل المشاهير منهم حين قالوا بأى من ذلك. فهل هذه الكراهية تخرجنى من الملة؟! هذا سؤالٌ عبثى لأننى لا أرى أن أحدًا فوق هذه الأرض من حقه أن يطرحه ناهيك عن الغوص فى إجابته!
كان المتنطعون من طلاب الجماعات حين يضعون طالبًا هدفًا لغسل عقله يستخدمون كلماتٍ سمجة فى غير ما وضعت وقيلت له مثل هذه العبارة اللزجة الممتزجة بابتسامة صفراء.. يا أخى إنى أحبك فى الله! ولا علاقة بين ما يدعون إليه من كراهية واستحلال للدم ودعوة لشرعنة القتل، وبين الحب أو الله.
فى تلك الفترة راقت لى عبارة موازية أننى أكرههم فى الله! أكره الذين حاولوا رسم صورة لله تجعله- حاشا له وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- وكأنه من شخصيات الأساطير اليونانية الرومانية يتمتع بسفك الدماء. خلق البشرَ ثم قرر أن يتمتع برؤية سفك دمائهم. ومرة أخرى كانت أزمتى العقلية هى حقيقة عدم وجود فروق جوهرية بين ما يدعيه أعضاء الجماعات التكفيرية الصريحة وبين السواد الأعظم من رجال الدين وقتها.
وحين أراد بعض مدّعى الاعتدال الرد على أعضاء الجماعات، فقد نشروا كتابًا بعنوان «ظاهرة الغلو فى التكفير!» أى كَفّروا لكن لا داعى للغلو!
لقد كرهتهم لجرأتهم على الله، ولأنهم جعلونى فى لحظات- قبل رحلة بحثى الذاتية عن الحقيقة- أنفر من الله كما رأيتُه فى أعينهم وقسمات وجوههم المتشنجة وكلمات الكراهية الطاغية على خطابهم. وكنتُ على وشك الوقوع فى الفخ ووضعهم هم والدين فى سلة كراهية واحدة، ولم يحل دون ذلك غير الله الذى رأيتُه فى القرآن الكريم وفى تمايل دراويش الحضرة!
نعم فى لحظة ما اقتنعتُ أن الدرويش ذا الملابس الممزقة وهو يصرخ «يا حبيبى يا رب» يعرف الله أكثر مِن كل مَن أسمعهم يتشنجون ضدنا فوق المنابر ويتهموننا دائمًا بأننا نُغضب الله وأنه غير راضٍ عنّا، وأنه ينتظر موتنا لكى يذيقنا صنوفًا من العذاب! «يا حبيبى يا رب!» صرخة صادقة انتشلتنى من تيه الكراهية الذى كنت أراه فى كل مناسبة دينية أو خطبة جمعة.
«الله محبة» حقيقة فى الإسلام الحق والمسيحية الحقة وفى العطف على الفقراء والضعفاء والحيوانات، وفى النفور من الشر والعنف والكراهية.
فى الدين الأكاديمى، للحقيقة وجوهٌ كثيرة. كل رأى فقهى تجد أمامه آراءً كثيرة، لكنهم ينتقون ما يتفق مع هواهم. نوعٌ من الكذب والخديعة. آياتُ القرآن الكريم يتم اقتطاعها من سياقها واستخدامها حسب الهوى. جرائم القتل يتم تجميلها بأنها جهادٌ لنصرة الدين. القتلة الجاهلون المستخدَمَون يتم وصفهم بأنهم شباب الصحوة الإسلامية. التكفير يطال الجميع من ساسة ورجال حكم ورجال شرطة ومفكرين وكتّاب وعلماء وأدباء. التحريم ينهش كل الفنون. طلابٌ يدرسون السياحة ويعتقدون أنها حرام!
يرهبون الناس بمقولة يقينية «قال رسول الله» ثم يلقون بأقوالٍ- اكتشفتُ أن كثيرًا منها لم يقلها أو على أقل تقدير تثور شكوكٌ كبرى حول نسبتها له- تقطع بصواب ما يدّعون!
خدعوا المصريين بإحداها لإقناعهم بحرمة تنظيم الأسرة، وبأخرى لإقناعهم بأن الخلافة من الدين وأنها عائدة بلا شك، وأن من لا يؤمن بذلك قد يمرق من الملة، ومن أجل هذه العودة تستباح الدماء والأوطان!
وحين تبدو بارقة أمل فى عالِم حقيقى تتم ملاحقته باتهامات مشينة بأنه عالم سلطة أو أنه ذو ميوعة فى دينه!
بعد انتهاء مرحلة الدراسة كنت قد خضت رحلة قراءة مكثفة. كنت أهوى صحف المعارضة ومطبوعاتها المختلفة، وكنت شاهدًا على دور المحلل الذى قامت به بعض هذه الصحف التى فتحت صفحاتها على مصراعيها لأساطين الجماعات وروّجت لأباطيلهم. كما كنت شاهدًا على نفس الدور ورجالُ دينٍ رسميون مشاهير يقومون به.
حتى كانت أحداث يناير، وأصبح المصريون على أعتاب الوقوف أمام صناديق الاقتراع بعد سقوط نظام مبارك. فضجت المساجد بخطب تكفيرية تخلط السياسة وأطماعها برؤى دينية تتهم كل من سيمتنع عن منح صوته لأحد الأحزاب الدينية فى دينه وعقيدته.
كاد الجنون يصيبنى فى مناقشة مع بعض الأصدقاء العاملين فى نفس المجال وهم يقولون إنهم سيمنحون أصواتهم لميليشيا الإخوان لتحكم مصر! فى هذا العام أعترف بأن كراهيتى لرجال الدين تضاعفت أضعافًا، ليس لأنهم رجال دين، لكن لما قاموا به من منح أنفسهم حقوقًا هى من تمام حقوق الله وحده بتوزيع اتهامات الكفر، ومنح صكوك الإيمان، وكأن الله قد أوكل إليهم مفاتيح الجنة والنار، وكأن مصر قد سقطت فجأة فى صفحة من صفحات تاريخ أوروبا فى العصور الوسطى حين كانت صكوك الغفران تُباع وتُشترى!
رجال الدين بشرٌ ضعفاء مثلنا يحتاجون مثلنا إلى الله ولا يملكون لنا من دونه شيئًا. فلماذا منحوا أنفسهم كل هذه الصلاحيات والحقوق للتدخل فى مفردات حياة البشر من سياسة وطب وعلاقات اجتماعية أسرية؟
وأخيرًا ينصبون أنفسهم قادة سياسيين! تضاعفت الكراهية لأنهم لم يكونوا يرون أن هناك وطنًا. كنت أراهم يصرخون من فوق المنابر وهم يعلمون أن ما يدعون إليه يمكنه أن يحرق هذا الوطن. كان واضحًا أن فكرة الوطن لم تكن حاضرة إطلاقًا فى حساباتهم. سببٌ جديد للكراهية فى منتهى القوة لمن هم مثلى ممن يعرفون شخصية وقيمة هذا الوطن، ويدركون أى حافة هاوية كان هؤلاء يدفعون هذا الوطن للسقوط فيها.
هل يصلح رجال الدين- أى دين وفى أى عصر- لقيادة الأمم فى دروب السياسة؟ الإجابات الكامنة فى دهاليز التاريخ مفزعة. هم غير قادرين لأنهم لم يجمعوا العلوم الكونية فى رءوسهم. قد درسوا وتعلموا بعض العلوم الدينية النظرية فكيف تُطلب فتاواهم فى مسائل طبية أو توجهات سياسية مثلًا؟
كلمة السر هى النفوذ، وليست المعرفة المؤهِلة. النفوذ الروحى على العامة هو ما يمنحهم تلك الجرأة. فى العصور القديمة لجأ الحكام إليهم للسيطرة على الشعوب. فكانت المعادلة نفوذٌ لهم مقابل الحكم والسيطرة على العامة للحكام.
فى بدايات المسيحية قبل تحول الأباطرة الرومان للديانة الجديدة تصارعت الكنائس أو أساقفتها على مناطق ومساحات النفوذ هذه بمنأى عن الحكم. فلما اعتنق الأباطرةُ المسيحية نافسوا الأساقفة على هذا النفوذ. اتفقوا أحيانًا على غنائم خارجية، وتصارعوا أحيانًا على أخرى. ما علاقة الله بكل هذا؟!
فى أوروبا المسيحية فى العصور الوسطى كان رجال الدين لصوصًا بالمعنى الحرفى للكلمة. اتفقوا مع الحكام على نهب مقدرات شعوبٍ أخرى، ومنحوا لهذه السرقة الممزوجة بسفك الدماء رايات وتفاسير دينية من عندهم لا من عند الله.
ورجال الدين اليهود صاغوا كتابًا- التلمود- يضج بالعنصرية البغيضة ويستبيحون حياة وأعراض وأموال كل من هو غير يهودى. ما علاقة الله بكل هذا؟!
ظلت اللعبة هكذا حتى فى ظل إمبراطورية خلافة المسلمين. كان الصراع القبلى العربى قد تحول إلى صراع سياسى دينى. نفس المعادلة.. شرعية الحكم التى تُخصع الشعوب. كل مجموعة أو قبيلة أرادت أن تقتطع لنفسها قضمة من النفوذ السياسى والحكم استعانت بعلماء وفقهاء صاغوا لها من الأحكام والرؤى والتفاسير الدينية ما يمنحها زيفًا شرعية دينية لأطماعها السياسية.
وصل النفوذ إلى ذروته ببروز طائفة محترفة لوضع أحاديث ونسبتها للنبى «ص» كذبًا لتحقيق مكاسب سياسية أو إقناع العامة بأمر من أمور الدنيا! كيف سيواجه هؤلاءُ الله وكيف سيواجهون النبى «ص» وقد كذبوا عليه عامدين متعمدين؟!
ووصل الهراء إلى قيام بعض رجال الدين فى فترات تاريخية بأن يحرموا الزواج بين أتباع الديانة الواحدة طبقًا لما قاموا به هم أنفسهم من تقسيم هؤلاء الأتباع إلى طوائف وملل!
بعد أن تخلصت أوروبا ولو ظاهريًا من هذه المعادلة وشرعت فى بناء شرعيات حكم أخرى متحررة من مناطحة رجال الدين، قررت نفس الدول استخدام هذه اللعبة فى دول الشرق مثلما حدث فى لبنان تحديدًا، وما قامت به دولٌ مثل فرنسا، ومثلما حاولت إنجلترا فعله فى مصر أثناء فترة الاحتلال.
طوال القرون منذ بدء المسيحية ثم الإسلام كان رجال الدين حاضرين بقوة فى مشاهد الصراع على النفوذ.
لا تصدقوا أن المسلمين ليس لديهم رجال دين أو كهنوت وإنما علماءٌ تتم استشارتهم. هذا كذبٌ صريح. هناك بالفعل رجال دين يتولون مناصب كبرى منذ قرنين من الزمان على الأقل، ويقودون مؤسسات دينية وتعليمية.
ولو أن فى الإسلام حقًا لا يوجد ما يسمى بطبقة رجال الدين فلماذا بقيت تلك المناصب؟!
فى الحقيقة لم توجد إطلاقًا ديانة دون رجال دين. فإمام المسجد فى عقود حكم مبارك مثلًا كان يمارس نفوذًا مجتمعيًا، ويتحكم فى توجه العامة من المحيطين به والقاطنين حول كل مسجد. كل مشاهد الفتنة الطائفية التى أحرقت قرى ونجوع صعيد مصر منذ بدء الثمانينيات كان خلفها رجال دين علانية أو من خلف الستار.
مارسوا نفوذهم فى الشأن العام مرددين عبارة أن الإسلام دين ودنيا، وأن الرسول «ص» كان يفعل ذلك فى المسجد. وهم بذلك يخدعون العوام لأنه عليه الصلام والسلام كان نبيًا يوحى إليه ولم يكن مجرد مسلمٍ من آحاد الناس مثلهم، كما أن ذلك كان يحدث فى عصر ما قبل وجود مؤسسات حكم وإدارة مؤهلة للقيام بهذه الأدوار.
وفى آخر عقد ونصف أصبح لرجال الدين دور واقعى على الأرض فى تهيئة وتعبئة العامة فى الاتجاه الذى يريدون.
أى عقل وأى منطق هذا الذى يفترض مثلًا أنه يتوجب علىّ كمصرى مسلم أن أستأذن أو أستشير رجل دين أو أستطلع رأى مؤسسة دينية قبل أن أهنئ جارى أو زميلى المسيحى يوم عيده؟!
المصرى المسلم الذى يعمل ويحارب مع المصرى المسيحى عليه أن يستشير أحدًا ما قبل أن يقول لرفيقه المصرى المسيحى «كل عام وأنت بخير» وقد يكونوا مختلطى الدماء فعليًا! هناك شهداء عسكريون ومدنيون من الديانتين فى معارك واحدة، وهناك نقل دماء بالفعل بينهم!
إن المواطن الذى يبعث بسؤال لهيئة دينية يستطلع رأيها فى هذا عليه أن يراجع مدى استقرار قواه العقلية، والهيئة الدينية التى تستجيب لذلك وتصدر فتاوى من هذا القبيل قد سقطت فى الفخ! وعليها أن ترد على مثل هذه التساؤلات بتقريع سائليها لا أن تستجيب للسقوط فى الفخ!
وعلى طريقة اللمبى أقول «دا إنتو الكويسين منكم آكلين شاربين شغالين محاربين مع بعض..وأحيانًا بعضكم فاسدين سارقين للمال العام ومرتشين وحشاشين ومتهربين من الضرايب مع بعض.. هتيجوا عند دى وهتحشروا رجال الدين فيها!»
إن ما مرت وتمر به مصر فى هذه الفترة قادنى إلى قناعة كبرى، وهى حتمية تحجيم دور رجال الدين فى الشأن العام. لدىّ عدة مسوغات لهذه القناعة، أولها ما قام به بعضهم فى تلك السنوات الأخيرة من أدوار صريحة أو ضمنية بما يتعارض مع صالحى الشخصى المباشر فى قضيتى الأولى والأخيرة وهى هذا الوطن.
فبعضهم صرح بما يتعارض بشكل صريح مع رؤية وتوجه مصر، وبعضهم قام بذلك سلبًا بالصمت والامتناع عن الاصطفاف- على الأقل كمواطنين وكقادة عقل شعبى جمعى كما يرون أنفسهم- فى خندق هذه البلاد، فالصمت من جانبهم فَهِم منه كثير من العامة بأنه ليس رضا وإنما رفضٌ سلبى لشخصية وقرار الدولة.
المسوغ الثانى هو نتاج تلك الرحلة الطويلة التى قادتنى إلى الوقوف على درجات معارفهم فى أوجه الشأن العام. فإذا كان رجل الدين لا يستطيع أو ليس من قدراته أن يقودنى أو حتى يقود نفسه إلى الفردوس، فلماذا أفوضه أو حتى أسمح له بقيادة وطنى إلى الجحيم؟!
ما هو الدور الأمثل لرجل الدين فى دولة مثل مصر الآن؟ إننى أعتقد أن الخروج من مرحلة تاريخية لأخرى هو الطريق الصحيح. هذا يعنى الاكتفاء بالدور الوظيفى والأخلاقى والقيمى، لأن العقائد لا يتم تثبيتها بالإلحاح، لكن بالقناعة الداخلية.
كيف يستقيم عقليًا أن يتصدوا لقضايا جماعية مصيرية فى تاريخ الأوطان فيثبت- بعدها بسنوات- خطأهم العفوى المعرفى أو كذبهم أو تضليلهم العمدى، ثم ندعهم يتصدون مرة أخرى لقضايا أخرى وكأن شيئًا لم يحدث!
فلقد تصدوا لقضية تنظيم الأسرة، واتفقوا جميعًا على تحريمها فضربوا هذا المجتمع ضربات اقتصادية ومجتمعية قاتلة. ولقد أجمعوا تقريبًا فى عقود سابقة على تحريم بعض الفنون وتحريم بعض عمليات الطب ثم ثبت خطأهم وكذبهم.
ولم يتصدوا لموجات التكفير والإرهاب التى ضربت مصر طوال عقود. أربع سنوات كاملة قضيتها فى إحدى معاقل الإرهاب- المنيا- ولم يحدث ولو مرة واحدة أن قصد الجامعة وفدٌ ممن يسمون أنفسهم علماءً معتدلين أو نظموا ندوات للطلاب لصد محاولات غسيل العقول التكفيرى!
فأى منطقٍ هذا الذى يجعلنا نقدم مرة أخرى على منحهم أدوارًا فى قضايا مجتمعية مصيرية أخرى؟ هل كُتب على هذه الشعوب وهذه الأوطان أن تقضى أعمارها وهى تدفع أثمانًا باهظة لإصرار رجال الدين على دس أنوفهم فيما لا يحيطون به علمًا؟!
إن أى علوم وفنون ومجالات يجب أن تكون بعيدة تمامًا عن أى تدخل لرجال الدين- ولا أقصد ديانة بعينها- ويجب أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة فيها لأربابها.
أما العلوم الدينية فهى علوم إنسانية نظرية مثل علوم التاريخ والاجتماع السياسى. حين أشرح تاريخ مصر لمجموعة ما ثم يجادلنى أحدهم ببعض ما قرأ لا يمكننى أن أسفه ما يقوله أو أدعى احتكارى للحقيقة. فعلوم الدين تحتاج إلى رجل دين، لكن أيضًا تحتاج إلى عقلٍ يصمم ويثابر ويصبر على طلب المعرفة من كل ما كُتب، وأهم ما كتب هو القرآن الكريم.
والمسلم الذى يتكاسل عن هذا- مهما تكن ألقابه المهنية وما وصل إليه من درجات علمية فى مجاله- هو ضمنًا يرفض الأمر الإلهى «اقرأ»، وليس من حقه أن يفرض على الأوطان أن تُخضع عقلَها ومصيرها كما فعل هو لرجل دين.
رجل الدين معلم أو مدرس ينقل علومًا إنسانية، ولا يمكنه أن يدّعى احتكاره للحقيقة الدينية أو يُرهب الناس ويخوفهم من محاولات الفهم والمناقشة والمجادلة والرفض، أو يدّعى لنفسه قداسة مستقاة مما ينقله من علوم. فالقداسة للدين ذاته، لا لعلومه، أو لناقلى تلك العلوم.
علوم الدين الإسلامى ليست علومًا سرية تختص بها فئة دون غيرها. الجدل الأكاديمى الدينى هو جزء من تاريخ العلوم يقبل التطور والتغيير والتبديل. ترهيب العامة القادرين على القراءة الذاتية وتخويفهم من التفوه، ومقارنة العلوم الدينية بالعلوم التطبيقية كالطب مثلًا هو خديعة كاملة.
فدراسة العلوم النظرية شىء والعلوم التطبيقية شىء آخر تمامًا. فالطبيب يتعاطى مع مواد كيمائية لا يدركها العامة وتتوقف عليها حياة إنسان، لذلك لا يستقيم أن يتغول على تخصصه أو يُستشار فيما يعن من مسائل طبية غيره سواء كان هذا الغير رجلَ دين أو متخصصًا فى علم آخر.
وعلم القيادة السياسية مثلًا ومرحلة إعداد قيادات الأجهزة السيادية المخول لها اتخاذ القرارات السياسية لدولة ما يدخل فى نطاقها مفردات الأمن القومى السرية، فلا يجوز أن يناطح رجلُ دين هذه القيادات فى قراراتها، لأنه لم يطلع على هذه المفردات والمعلومات السرية. لكن العكس غير صحيح، فكل مسلم يمكنه- بل يتوجب عليه بالأمر القرآنى المباشر- أن يطلع على العلوم الدينية ويقوم برحلة بحث ذاتية. أو ليصمت إن قرر التنازل عن هذا الحق الواجب لا أن يُلزِم الآخرين بسلك مسلكه.
الإنسان الذى يقرر دمج رجل الدين فى الدين حتى يصبحا شيئًا واحدًا وكيانًا واحدًا، ويمنح بناء على ذلك لرجل الدين قداسة الدين هو إنسانٌ قرر أن يتنازل عن حمل أمانة العقل والروح، وأوكل لرجل الدين حملها نيابة عنه. هذا الإنسان عبءٌ على الأوطان لأنه يصبح مثل قطعة الشطرنج جامدة لا تملك قرار حركتها وتترك ذلك ليد اللاعبين. وهؤلاء اللاعبون يحركونها طبقًا لما يعتقدون أنه يضمن لهم الفوز ولا تمثل لهم القطعة سوى أداة. فكرة إجلال العلماء بصفة عامة بمن فيهم رجال الدين هى فكرة طيبة وجديرة بالاحتفاء، لكن القفز بها- فى حالة رجل الدين- إلى التقديس أو التميز عن باقى الأفراد فى التحصن ضد التجريح مثلًا هى فكرة شاذة أخلاقيًا.
فى لحظة ما مرقت عبارة عابرة «لحوم العلماء مسمومة» إلى العامة، فاستمرأها بعض رجال الدين وروجوا لها وكأنها من مسلمات الإسلام. لم يتنبه أحد إلى تعارضها مع مبادئ المساواة فى الإسلام فيما يتعلق بالأخلاقيات وتحصين حياة وأعراض كل الناس، مسلمين أو غير مسلمين، عامة أو خاصة. لم يتنبهوا إلى المقابل المنطقى لها وهو أن لحومًا غيرهم مستباحة! هذا ما حدث بالفعل، منذ عقود تمت استباحة أعراض الناس فى دروس وخطب دينية فى شرائط كاست، واستكمل بعضهم ذلك بعد تطور التقنيات، رغم نهى القرآن صراحة عن الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب وقذف الأعراض.
ونحن نتحدث عن التمنى بدخول مصر عصرًا جديدًا يتم فيه ضبط دور رجال الدين فى المجتمع وقولبته وتقنينه، فوجئنا بما يسمى مبادرة وزارة الأوقاف لعودة الكتاتيب.
فى الحقيقة أنا لدى خبرات شخصية سابقة سلبية فيما يخص منظومة الكتاتيب خاصة فى الأقاليم والمناطق الشعبية. عدة سنوات قبل سقوط نظام مبارك أرسلنا أطفالَ الأسرة إلى كُتّاب ملحق بأحد المساجد لحفظ بعض سور القرآن الكريم، فعادوا إلينا يومًا بمطبوعات فيها تحريم لعدد من ممارسات المصريين الاحتفالية «شم النسيم وعيد الأم وتحريم ارتداء اللون الأحمر للذكور وغير ذلك!».
ذهبت وقابلت الشيخ المسئول الذى قام بذلك ودارت بيننا مناقشة عاصفة انتهت بأننى امتنعت عن إرسالهم مرة أخرى، وبيقين تام أن هذه الكتاتيب لا تكتفى بتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، لكن القائمين عليها وقتها ينتهزون الفرصة للسيطرة على عقول الصغار وملئها بما يريدون من أفكار متعصبة أو متناقضة مع شخصية مصر وهويتها.
بعد أن تتبعت وقتها بعض الكتاكيب الأخرى التابعة لما يسمى بجمعيات أنصار السنة المرخصة أدركت أنها جميعًا تقوم بنفس الشىء.
فى السنوات الأخيرة بعد ما واجهته مصر أدركنا جميعًا ما كان يحدث فى مساجد مصر، سواء التابعة للأوقاف أو التابعة للجمعيات الدينية. استقطاب صغار السن لإعدادهم لتلقى الأفكار المتطرفة. وكان نتيجة ذلك ما حدث حين منح ملايين المصريين أصواتهم للتطرف الدينى الصريح لحكم مصر.
لذلك فمن حقنا كمواطنين أن نتساءل عن حيثيات هذه المبادرة من عدة أوجه. الوجه الأول هل ستكتفى الكتاتيب فعلًا بتحفيظ القرآن الكريم أم ستشمل مقررات دينية أخرى؟ وما هى؟ ومن قام بإعدادها وإجازتها؟
أما الوجه الثانى الأهم فهو عن آليات المتابعة فى كل المناطق التى ستتم إعادة تفعيل الكتاتيب بها؟ إذا كانت هناك آلية لضبط الخطاب الدينى فى المساجد، فهل أعدت الوزارة آلية مماثلة لما نحن بصدده؟ أم أننا أمام محاولة ناعمة للعودة للمشاهد السابقة والعودة بمصر إلى المربع صفر؟!
الوجه الثالث هو تساؤل عام هل مصر فى حاجة حقيقية إلى هذه الكتاتيب إذا ما كانت ستشتمل على مقررات دراسية بخلاف تحفيظ القرآن؟ ألا يكفى مصر هذه الآلاف من العقول الصغيرة التى يتم القذف بها فى مسار المدارس الدينية أو المعاهد الأزهرية كل عام؟
وإذا كان الرد المعلب سوف يأخذنا إلى ضرورة وجودها لعمل توازن أخلاقى مجتمعى مع ما يتعرض له الصغار من محاولات لجرهم للانحراف عبر محتويات مختلف الوسائل البصرية والسمعية، فإننى أقول... ولماذا لا تقوم بذلك الدور مؤسساتُ التربية الأصيلة من بيوت وأسر ومدارس مدنية؟
هل تقتصر النواحى الأخلاقية على الدين؟ أين مفردات المجتمع المصرى الأخلاقية الأصيلة؟ ولماذا لا نعتبر ما كانت تقوم به الكتاتيب فى العقود السابقة- مثل الخبرة الشخصية التى أوردتها كمثال- انحرافًا أخلاقيًا؟ أليس تشويه المبادئ المجتمعية الوطنية وقيم التسامح والتعايش هو انحرافٌ أخلاقى؟
أختتم حديثى بدعوة خالصة لوجه هذا الوطن لكل مسئول مصرى يتولى منصبًا، ولجموع المصريين كلهم أن نشعر بعِظم المسئولية الملقاة على عاتقنا لكى نحفظ لهذه البلاد هويتها الحقيقية، وألا نفرط فى هذه الفرصة السانحة لكى ننتقل بمصر إلى مرحلة الدولة الوطنية المدنية الحقيقية. فهل سنفعل أم سنهدرها كما أهدرنا فرصًا أخرى ونعود ببلادنا عدة عقودٍ للوراء؟
أترك إجابة هذا التساؤل... للتاريخ!