«معاقبة بوتين».. كتاب أمريكى يكشف ما خفى من حيل القيصر
- معركة العقوبات لن تنتهى فى وقت قريب مع روسيا أو الصين.. والحرب الاقتصادية سوف تستمر
- نائب مستشار الأمن القومى لبايدن للمؤلفة: لا نريد أن يستمر الصراع من خلال القنوات العسكرية ونستخدم الأدوات الاقتصادية كسلاح
- بيكر: من الصعب تحويل الأدوات الاقتصادية إلى أسلحة دقيقة أو حتى تجنب تحولها إلى نتائج عكسية
- العقوبات الاقتصادية على روسيا تضاعفت 6 مرات منذ حرب أوكرانيا لتصل إلى 20 ألفًا.. وأمريكا فى المقدمة ثم كندا
فى صيف عام 1941، سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز هيمنتها الاقتصادية على اليابان من خلال فرض حظر نفطى كامل على منافستها التى تشكل تهديدًا متزايدًا، وكانت الفكرة تتلخص فى استخدام القوة الاقتصادية الساحقة لتجنب حرب إطلاق نار.
وفى النهاية، بطبيعة الحال، أدت العقوبات الاقتصادية الأمريكية إلى وضع طوكيو فى مأزق، لم يكن الهروب الوحيد الواضح منه سوى الهجوم على ميناء بيرل هاربور بجزر هاواى.
ولأنه ليست الأسلحة المرتدة هى الأسلحة الوحيدة التى يمكنها الارتداد، فقد أصدرت «ستيفانى بيكر» خلال الشهر الماضى، وهى صحفية أمريكية بريطانية، كتابها «معاقبة بوتين: داخل الحرب الاقتصادية العالمية لإسقاط روسيا»، الذى يكشف أسرار حرب العقوبات الغربية على الرئيس الروسى بوتين منذ أزمة أوكرانيا.
و«بيكر» تعمل حاليًا فى بلومبرج، وهى مراسلة سابقة فى صحيفة «موسكو تايمز» فى روسيا، وأمضت سنوات طويلة فى تغطية أخبار روسيا، وهى حاصلة على شهادة البكالوريوس من كلية أوبرلين الأمريكية، ودرجة الماجستير من كلية لندن للاقتصاد فى السياسة المقارنة مع التركيز على أوروبا الشرقية وروسيا.
وقدمت «ستيفانى» وصفًا دقيقًا للإجراءات الأمريكية والأوروبية التى أقرت بهدف إخضاع روسيا لإرادتهما خلال حربها مع أوكرانيا، فى ظل هيمنة مالية وتكنولوجية يتمتعان بها، لكن لم يسر الأمر بالكامل، كما هو مخطط له.
حيل القيصر
وبعد مرور أكثر من عامين ونصف العام على حرب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى أوكرانيا، لا تزال عائدات الطاقة الروسية مزدهرة، لتغذى آلة الحرب التى تتمكن من الوصول إلى العتاد الحربى عالى التقنية، بما فى ذلك من الولايات المتحدة.
وكانت العقوبات من الأساس تستهدف إبعاد رجال النخبة المالية الروسية التابعين لبوتين عنه، لكنها على العكس تمامًا كانت سببًا فى التقارب بينهم، ورغم مواجهة موسكو كثيرًا من الانتكاسات، كان آخرها فقدان السيطرة على جزء من أراضيها بالقرب من كورسك، لكنها تمكنت من استعادتها مرة أخرى، وفى نفس الوقت لم تكن العقوبات المدمرة واحدة من هذه الانتكاسات.
ويعتبر الكتاب أولًا وقبل كل شىء قراءة سريعة ومباشرة، اعتمدت فيه «بيكر» على عقود من الخبرة فى تغطية الشئون الروسية، والتى منحتها إمكانية وصول لا مثيل لها للمصادر الغربية والروسية، بجانب الاستعانة بأسلوب التقارير البسيطة لصياغة أفضل وصف لحرب العقوبات الغربية ضد روسيا حتى الآن.
ويكشف الكتاب الملىء بالشخصيات الحية، اليخوت الفاخرة الخاضعة للعقوبات، وعوامل المراوغة التى اتبعتها روسيا، ومنها أساطيل الظل، وهى عبارة عن شبكات نقل بحرية تعمل بسرية لنقل النفط والغاز وغيره من السلع بشكل سرى إلى أوروبا وآسيا، من خلال تغيير الأعلام، وإيقاف أجهزة التعقب، واستخدام شركات وهمية.
سلاح واشنطن المفضل
وتحلل «المؤلفة» فى كتابها إجراءات التوازن الصعبة للغاية التى تكمن وراء نشر العقوبات التى تعتبر سلاح واشنطن المفضل ضد الدول للخضوع لإرادتها، فرغم أن قرار تجميد أكثر من ٣٠٠ مليار دولار من ممتلكات البنك المركزى وقطع النظام المصرفى الروسى أضر بموسكو، فإنه كان هناك تخوف أمريكى من أن تؤدى العقوبات إلى انهيار الأسواق المالية العالمية.
وتشير «الكاتبة» إلى أن نائب مستشار الأمن القومى للرئيس الأمريكى بايدن، دليب سينج، قال لمستشار الأمن القومى للبيت الأبيض جيك سوليفان، إنه يخشى أن يؤدى «النجاح الكارثى» للعقوبات إلى تفجير الأسواق المالية العالمية.
وكانت هذه الواقعة قبل أن يقرر الغرب استهداف صادرات روسيا الضخمة من النفط والغاز، وهو ما فعله بعدها بسلسلة من الإجراءات الفاترة التى بدأت فى وقت لاحق من ذلك العام، ولذلك فكتاب «بيكر» يمنح لمحة بارعة عن العالم الذى سيأتى مستقبلًا مع عودة المنافسة بين القوى العظمى بشدة.
ويتجلى الصراع بين الولايات المتحدة والصين، فى الوقت الحالى، فى معارك حول الرسوم الجمركية وأشباه الموصلات والأنتيمون، وهو شبه معدن يستخدم فى صناعة الإلكترونيات لصنع بعض أجهزة أشباه الموصلات، مثل كاشفات الأشعة تحت الحمراء.
وحسب ما قال نائب مستشار الأمن القومى للرئيس الأمريكى، سينج، لبيكر: «نحن لا نريد أن يستمر هذا الصراع من خلال القنوات العسكرية، لذا فمن المرجح أن يتم من خلال استخدام الأدوات الاقتصادية كسلاح مثل العقوبات، وضوابط التصدير، والتعريفات الجمركية، والحد الأقصى للأسعار، والقيود على الاستثمار».
سياسة الحكم العقابية
ورصدت «الكاتبة» من جانبها، تاريخ استخدام الأدوات الاقتصادية كسلاح، الذى بدأ منذ أكثر من ألف عام، عندما واجهت إمبراطورية اقتصادية أخرى ناشئين مثيرين للمشاكل، فتقول إنه فى عام ٤٣٢ قبل الميلاد، فرضت أثينا، القوة اليونانية والدولة التجارية العليا، حظرًا تجاريًا صارمًا على مدينة ميجارا، حليفة أسبرطة «اليونان».
وهى الخطوة التى، وفقًا لبعض العلماء، أشعلت شرارة الحرب البيلوبونيسية بين الطرفين، وتضيف بيكر أن أثينا لم تتمكن من التخلص من هذه العادة: ولم يمض وقت طويل حتى أزعجت جارتها مرة أخرى.
وأخبرت جزيرة ميلوس اليونانية أن «الأقوياء يفعلون ما فى وسعهم، والضعفاء يعانون مما يجب عليهم»، والمفارقة بالطبع هى أن أثينا، البحرية، والقوة العظمى قد خسرت الحرب فى نهاية المطاف أمام منافسها الرئيسى بفضل الحظر البحرى.
وتشير «المؤلفة» إلى أنه قد يكون من المغرى الاستفادة من الأدوات الاقتصادية، ولكن من الصعب تحويلها إلى أسلحة دقيقة، أو حتى تجنب تحولها إلى نتائج عكسية، فعلى سبيل المثال رغم أن القبضة البحرية للإمبراطورية البريطانية فى القرن التاسع عشر وحبها للحصار، ساعد فى إسقاط نابليون، لكنها بدأت حربًا صغيرة مع الولايات المتحدة فى هذه العملية.
وتضيف «بيكر» أن بريطانيا لم تخجل قط من استخدام قوتها البحرية والمالية لفرض ثقلها، ولكن حتى الجنيه الإسترلينى لم يكتسب الأهمية المركزية التى يتمتع بها الدولار الأمريكى اليوم فى نظام أكبر بكثير وأكثر تكاملًا للتجارة والتمويل العالميين.
إن هذا «الامتياز الباهظ»، على حد تعبير رجل الدولة الفرنسى جيسكار ديستان، مكن الولايات المتحدة فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من الارتقاء بكل من الأعمال الخيرية «خطة مارشال، كبداية» وسياسة الحكم الاقتصادية العقابية إلى آفاق جديدة.
سجل العصا المختلط
وتروى «ستيفانى» قصة العقوبات الأمريكية على الدول، فتقول: «لقد تبين أن الحظر المفروض على كوبا الشيوعية أو إيران الثورية كان مجرد بداية لنهج أمريكى معزز للاستفادة من هيمنتها المالية التى ازدهرت أخيرًا مع ما يسمى بالحرب على الإرهاب والدول المارقة».
وهى قصة رويت جيدًا فى كتب مثل «حرب الخزانة: إطلاق العنان لعصر جديد من الحرب المالية» لنائب مستشار الأمن القومى الأمريكى سابقًا، خوان زاريت، الصادر عام ٢٠١٣ أو كتاب «فن العقوبات» لريتشارد نيفيو، الصادر عام ٢٠١٧.
وتتابع ستيفانى: لقد مات أسامة بن لادن، وضاعت كابول، وما زالت كوبا شيوعية، ولا يزال كيم يدير كوريا الشمالية، لكن حب العقوبات لم يتضاءل أبدًا فى واشنطن، وبالنظر إلى النفور من وقوع خسائر بشرية، والسعى الدائم لإيجاد طرق منخفضة التكلفة لفرض إرادتها، فقد أصبحت واشنطن أكثر ميلًا إلى استخدام العصا الاقتصادية بلا مبالاة.
وتستكمل: لقد ارتفع استخدام العقوبات فى عهد الرئيس باراك أوباما، ومرة أخرى فى عهد دونالد ترامب؛ ولم تقم إدارة بايدن بتنسيق مجموعة غير مسبوقة من العقوبات على روسيا فى عهد بوتين فقط، بل دفعت أيضًا حرب ترامب التجارية مع الصين إلى أبعد من ذلك.
وتشير «الكاتبة» إلى أنه على الرغم من السجل المختلط للعقوبات الأمريكية، فمن المؤكد أن الدولار القوى قادر على إثارة مخاوف فى الدول التى تضطر إلى اتباع خط عقابى، قد تحاول الالتفاف عليه لولا ذلك.
وقد تضطر البنوك فى دول ثالثة، على سبيل المثال، أحد البنوك الفرنسية الكبيرة، إلى تأييد عقوبات واشنطن على إيران بغض النظر عما قد تمليه السياسة الفرنسية، وتثير تلك العقوبات الثانوية المزعومة، الغضب فى بعض الأحيان فى أماكن مثل «باريس وبرلين»، مما يؤدى إلى دعوات دورية لفرض سيادة مالية والتحرر من طغيان العملة الأمريكية.
وتضيف «بيكر»: لكن ومع ذلك لم يتغير سوى القليل، فالدول التى ترغب فى الاستمرار فى امتلاك بنوك عاملة ليس لديها خيار سوى العمل كمنفذ لإرادة واشنطن.
وتعلق «المؤلفة»: المفارقة التى تثير الدهشة حقًا، هو أن نمو العقوبات باعتبارها الأداة الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية، لم يقابله نمو متناسب فى مجموعة الأشخاص المكلفين بصياغة العقوبات وتنفيذها.
وتلفت إلى أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، وهو ذراع العقوبات الرئيسية لوزارة الخزانة، يعانى إرهاقًا فى العمل ونقصًا فى الموظفين، وهناك فرع أقل شهرة ولكنه على نفس القدر من الأهمية، وهو مكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة، الذى يكافح من أجل فحص مجموعة واسعة من ضوابط وقيود التصدير مع موظفين راكدين وميزانية ميتة.
وتوضح «ستيفانى» أن بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبى واجهت تحديات أكبر فى القفز إلى عربة العقوبات الغربية، حيث اضطرت فى السنوات القليلة الماضية إلى إعادة إنشاء هيئة جديدة من الصفر تقريبًا، لفرض عقوبات اقتصادية جديدة.
شبكات الالتفاف العالمية
وتقول «المؤلفة» إن العقوبات على روسيا التى تتنوع ما بين حظر السفر الفردى والحظر المالى على القلة الحاكمة فى الكرملين، إلى مصادرة الأصول إلى التدابير الشاملة التى تهدف إلى خنق الروبل واستنزاف خزائن موسكو- تهدف فى نهاية المطاف إلى إضعاف قدرة بوتين على مواصلة المعركة فى أوكرانيا.
وحسب آخر بيانات محدثة لشركة «كاستيلوم. إيه آى» السويدية المتخصصة فى رصد مخاطر العقوبات، فرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية على روسيا منذ بدء الحرب الأوكرانية، يصل عددها إلى ١٩٥٣٥ عقوبة، وكان العدد يبلغ ٢٦٩٥ قبل الحرب.
ووفقًا للبيانات، تأتى العقوبات من جانب أمريكا فى المرتبة الأولى، ثم «كندا، وسويسرا، والاتحاد الأوروبى، وفرنسا، وبريطانيا، وأستراليا، وأخيرًا اليابان»، والتى تتنوع لتشمل تقييد الصادرات والواردات الخاصة بالنفط والذهب والفحم والغاز والمعادن، والخدمات، وقيود فى التعامل مع المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، وأيضًا التعامل مع نظام الدفع الدولى السويفت.
وخلال الأيام القليلة الماضية، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على ٢٧٥ فردًا وكيانا فى دول مثل الهند والصين وسويسرا وتركيا، بهدف «تعطيل شبكات الالتفاف العالمية» على العقوبات المفروضة على روسيا.
وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية فرض قيود تجارية على ٤٠ كيانًا أجنبيًا لدعمها حرب روسيا فى أوكرانيا، وعززت القيود القائمة على ٤٩ كيانًا أجنبيًا آخر من دول، مثل الصين وبريطانيا والإمارات للتصدى لمشترياتها من الإلكترونيات الدقيقة، التى تحمل العلامة التجارية الأمريكية وغيرها من السلع، لصالح روسيا.
حكم الأقلية الثرية
وخلال كتابها نجحت ستيفانى بيكر بشكل ظاهر فى التحدث مع كل شخص مهم تقريبًا على الخطوط الأمامية الاقتصادية فى حرب العقوبات، لتشرح تفاصيل العمل الروتينى الذى حدث فى واشنطن ولندن وبروكسل، حتى قبل أن تطير الدبابات والصواريخ الروسية عبر حدود أوكرانيا فى فبراير ٢٠٢٢، وخاصة فى الأيام والأسابيع المشحونة التى تلت ذلك.
وهو الأمر الذى حول المسئولين التكنوقراط إلى أبطال فى الكتاب، الذى ركز فى الجزء الأكبر منه على العقوبات التى طالت حكم الأقلية الثرية فى روسيا، والتى ساعدت فى دعم نظام بوتين، رغم الرغبة الغربية فى إحداث انقلاب فى القصر ضده، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.
وتوضح بيكر أسباب فشل هذه الفكرة، فتشرح من خلال سلاسل من عمليات البحث عن اليخوت الفاخرة والشركات القابضة فى جزيرة جيرسى الأوروبية، أولها أنه من الصعب الاستيلاء فعليًا على الكثير من المليارات غير المشروعة التى كانت فى أيدى القلة.
وثانيها أن حكومة الولايات المتحدة تنفق ملايين الدولارات على صيانة اليخوت الفاخرة المجمدة، على سبيل المثال، لكنها لا تستطيع بعد تحويلها إلى أموال لأوكرانيا، وثالثها، أن النهج العقابى لم يفصل بين حكومة القلة وبوتين، بل على العكس من ذلك، قال مصدر فى الكرملين لبيكر: «سلطته أقوى بكثير لأنهم الآن بين يديه».
وتعلق الكاتبة: تدور معركة العقوبات الحقيقية حول احتياطيات البنك المركزى الروسى المجمدة، والتى يوجد ثلثاها فى الاتحاد الأوروبى، والجهود المستمرة لخنق عائداتها من الطاقة، دون قتل الاقتصاد العالمى.
قوة الطاقة الروسية
هذه المعركة تناولت الكاتبة قصتها بالتفصيل، وقصة المعركة التى تلت عملية الاستيلاء على الاحتياطيات الروسية، ونجحت فى شرح التفاصيل المعقدة جدًا لفكرة «الحد الأقصى لأسعار النفط»، الذى لم يحسم بعد، ولم يتم التمكن من تحديد سقف لإيرادات النفط الروسية على الإطلاق.
وتبدأ بيكر توضيح هذه التفاصيل، من خلال تسلسل زمنى للأحداث، وأولها فى نهاية أكتوبر ٢٠٢١، عندما اجتمع القادة فى قمة مجموعة العشرين فى روما، لأول مرة، بشكل مباشر لهم منذ وباء كورونا، وحينئذ قرر الرئيس الأمريكى بايدن مشاركة المعلومات الاستخبارية الأمريكية مع بعض الحلفاء الأوروبيين، وكشفوا لأول مرة عن خطط بوتين لغزو أوكرانيا.
وخلف الكواليس، كان المسئولون الأمريكيون يحاولون بناء تحالف لمواجهة بوتين إذا قام بالغزو، وسرعان ما أدركوا أكبر نقاط ضعف الغرب فى حالة نشوب حرب، اعتماده على النفط والغاز الروسى.
وروسيا هى ثانى أكبر مصدر للنفط الخام فى العالم بعد المملكة العربية السعودية، وحسب ستيفانى، ذات يوم، وصف السيناتور الأمريكى الراحل جون ماكين روسيا، بأنها «محطة وقود تتنكر فى هيئة دولة».
وتضيف ستيفانى، أن قوة الكرملين، التى تعود إلى الفترة السوفيتية، كانت تعتمد دائمًا على الأسعار العالمية للنفط، المصدر الرئيسى للعملة الصعبة، وخلال الأعوام الأربعة والعشرين التى قضاها الرئيس الروسى بوتين فى السلطة، استفاد بأسعار مرتفعة نسبيًا للنفط، الأمر الذى مكنه بدوره من ضخ الأموال إلى المؤسسة العسكرية الروسية.
وتشير بيكر إلى أنه كان على القادة الغربيين أن يتوصلوا إلى طريقة ما لوضع حد لأرباح روسيا، وهو ما من شأنه أن يعوق قدرة بوتين على تمويل المجمع الصناعى العسكرى فى البلاد، من دون التسبب فى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية.
مصالح غربية متباينة
لكن الولايات المتحدة وأوروبا كان لهما نقطتا ضغط مختلفتين للغاية، وكان الأمريكيون حساسين لارتفاع أسعار البنزين لتزويد سياراتهم بالوقود؛ وكان الأوروبيون يهتمون أكثر بالغاز الطبيعى الذى يتم نقله عبر الأنابيب من روسيا، والذى يستخدم على نطاق واسع لتدفئة المنازل وصناعة الطاقة.
تقول ستيفانى إن هذه المصالح المتباينة جعلت من غير المرجح أن تجد واشنطن وبروكسل ولندن قوة الإرادة السياسية، لمواجهة روسيا كقوة عظمى فى مجال الطاقة، وكانت أسعار الطاقة مرتفعة بالفعل، مع إعادة فتح الاقتصادات بعد كورونا.
وتشير المؤلفة إلى أن دليب سينج، نائب مستشار الأمن القومى لبايدن، قال لها وهو يتذكر المناقشات التى دارت حول مجموعة العشرين: «كانت الطاقة هى المجال الوحيد الذى كانت تتمتع فيه روسيا بميزة غير متكافئة على الغرب».
وأضاف سينج: «كنا نحاول استباق ما كنا نعلم أنه قد يكون انقطاعًا فى الإمدادات فى أعقاب الحرب، وإذا كان لروسيا أن تستغل تفوقها من خلال استخدام إمداداتها من الطاقة كسلاح، فيتعين علينا أن نكون مستعدين للرد بالمثل من خلال الإفراج الجماعى عن احتياطياتنا الخاصة».
وتمتلك أمريكا شبكة من الكهوف الملحية تحت الأرض فى تكساس ولويزيانا، المعروفة باسم احتياطى البترول الاستراتيجى، والتى تحتوى على أكبر إمدادات من النفط الخام فى حالات الطوارئ فى العالم، وتم إنشاؤها عام ١٩٧٥، وهو أحد الأدوات التى يمكن للرئيس الأمريكى استخدامها لتوفير النفط لتهدئة الأسعار.
وأعلن بايدن فى نوفمبر ٢٠٢١، عن إطلاق ٥٠ مليون برميل من النفط، وهى كمية هائلة بالمعايير التاريخية، لكنها تعادل حوالى يومين ونصف فقط من الطلب الأمريكى، لكن لم يدم انخفاض الأسعار طويلًا، وبحلول ديسمبر، كان القلق بشأن حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا، إلى جانب الطلب المكبوت بعد فيروس كورونا، سببًا فى ارتفاع أسعار النفط مرة أخرى.
ومع تزايد احتمالات الغزو الروسى، بدأت أسعار الغاز الطبيعى فى الارتفاع أيضًا، حيث تعتمد أوروبا على روسيا فى نحو ٤٠٪ من وارداتها من الغاز الطبيعى، مما يزيد من احتمال وفاة الآلاف من الناس بسبب البرد، لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف تدفئة منازلهم، إذا أمر بوتين قواته بالدخول إلى أوكرانيا وقتها.
مخاوف الركود العالمى
وبمجرد غزو روسيا، ارتفعت الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعى بشكل كبير، وتلفت المؤلفة إلى أنه فى البداية، قرر زعماء الغرب عمدًا عدم ملاحقة صادرات الطاقة الروسية، خوفًا من أن يؤدى أى تحرك ببساطة إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات أعلى.
وعلى حد تعبير أحد كبار المسئولين فى إدارة بايدن: «أردنا ممارسة الضغوط على روسيا، وليس التسبب فى ركود عالمى»، وامتنعت الإدارة الأمريكية عن عرقلة بنك جازبروم، ثالث أكبر بنك فى روسيا، والذى يخدم قطاع الطاقة، باستثناء القيود المفروضة على قدرته على جمع التمويل فى الغرب.
ونتيجة لذلك، استمر بوتين فى التمتع بتدفق مستمر من دولارات النفط، حيث كان البنك بمثابة القناة الرئيسية، وتعلق المؤلفة بأن هذه النقطة كانت فجوة كبيرة فى حزمة العقوبات المالية الشاملة، وشكلت عائدات النفط والغاز ٤٥٪ من الميزانية الفيدرالية الروسية فى عام ٢٠٢١؛ لذا بدأت الدعوات لمهاجمة تلك الإيرادات فى التصاعد.
وفى خطاب بالفيديو فى أوائل شهر مارس، كثف الرئيس الأوكرانى زيلينسكى الضغوط من أجل مقاطعة كاملة، وشبه شراء الطاقة الروسية بـ«منح المال لإرهابى»، ومن جانبه انتقد وزير الخارجية الأوكرانى، شركة «شل» لشراء النفط الروسى، قائلًا: «أليست رائحة النفط الروسى مثل رائحة الدم الأوكرانى بالنسبة لكم؟».
وبعد أيام، أعلنت شركة «شل» عن خطتها للانسحاب من روسيا، بما فى ذلك الوقف الفورى لمشتريات النفط الفورية، وهو ما كان تحولًا تاريخيًا لشركة كانت لاعبًا رئيسيًا فى السوق، وأدى القرار إلى تسريع انسحاب شركات الطاقة الغربية من روسيا، لكنه أثار أيضًا مخاوف بشأن الكيفية التى ستحل بها السوق العالمية محل البراميل الروسية.
وبعد فترة قليلة، أعلنت واشنطن فرض حظر على النفط والغاز الروسى، وهو الأمر الذى قال عنه بايدن إنه «سيوجه ضربة قوية أخرى» إلى «آلة الحرب» لدى بوتين.
وترى ستيفانى أن هذه الخطوة كانت غير مؤلمة نسبيًا بالنسبة للولايات المتحدة، حيث تأتى فقط نسبة ٨٪ من واردات النفط الأمريكية من روسيا، كما أن الولايات المتحدة هى مصدر صافى للمنتجات البترولية، مما يعنى أنها يمكن أن تحل محل الإمدادات بسهولة.
لكن بعد إعلان بايدن، تصاعدت المخاوف العالمية بشأن الإمدادات الروسية، مما أدى إلى ارتفاع سعر النفط إلى ذروته عند ١٣٩ دولارًا للبرميل، وهو أعلى مستوى منذ ما قبل الأزمة المالية فى عام ٢٠٠٨.
أزمة أوروبا الشاملة
وقفزت أسعار البنزين فى الولايات المتحدة إلى مستوى قياسى فى ذلك الوقت بلغ ٤ دولارات للبرميل، وبينما كانت الولايات المتحدة قلقة بشأن النفط، كانت أوروبا أكثر قلقًا بشأن الارتفاع الهائل فى أسعار الغاز الطبيعى.
لكن فى الواقع، كانت القارة تواجه أزمة طاقة شاملة بسبب اعتمادها الكبير على روسيا، وذلك على عكس الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، حيث اعتمدت أوروبا على روسيا فى حوالى ثلث وارداتها النفطية قبل الحرب.
وبعد الحظر الذى فرضته الولايات المتحدة على النفط الروسى، أصبح هناك زخم لا يمكن وقفه لتحرك مماثل فى أوروبا، وتروى الكاتبة أن بيورن سيبرت، رئيس ديوان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قال لها: «فى البداية، كان التوصل إلى اتفاق بشأن العقوبات بمثابة تدحرج الكرة إلى أعلى التل».
وأكمل سيبرت: «بمجرد أن بدأت الحرب، كانت الكرة تتدحرج إلى أسفل التل، وكان التحكم فيها أكثر تعقيدًا لأن الجميع أرادوا المزيد من العقوبات».
استخدام سقف الأسعار
على الجانب الآخر، فإن المؤلفة تشير إلى أن كاثرين ولفرام، وهى خبيرة اقتصاد الطاقة فى وزارة الخزانة الأمريكية قالت لها: «كان من الواضح أن الروس كانوا يستثمرون الأموال فى أسواق الطاقة ويستفيدون من الحرب». «لقد كانت المفارقة المطلقة».
وتضيف: «كانوا يعلمون أن الأرقام كانت مخيفة»، وكانت روسيا أكبر من أن تفرض حظرًا على النفط الذى يمثل نحو ١١٪ من إنتاج النفط العالمى، وأشارت النماذج الأولية لوزارة الخزانة حينئذ إلى أنه إذا تمت إزالة كل النفط الروسى من السوق، فإن الأسعار سترتفع بنسبة ١٠٠٪، مما يتسبب فى ركود عالمى، وفى حالة حتى سحب نصف النفط الروسى من السوق قد يؤدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار بنسبة ٥٠٪.
وتستطرد ولفرام: «لقد أدركنا أننا بحاجة إلى تجربة شىء جديد»، وكان فرض ضريبة أو تعريفة عقابية على النفط الروسى أحد الخيارات، واستخدام العائدات لصالح أوكرانيا، لكن المسئولين الأوروبيين رفضوا هذه الفكرة، لأنها تزيد من خطر زيادة الأسعار بالنسبة للمستهلكين الغربيين، لأن المستوردين سيتحملون تكاليف الرسوم الجمركية.
وكانت الفكرة الأخرى تتلخص فى استخدام سقف لأسعار النفط الروسى لتقييد عائدات الكرملين، ولكن كان التنفيذ معقدًا إلى حد كبير، وتوضح الكاتبة إلى أنهم طلبوا من ولفرام أن تقوم بتحليل الأرقام، وبعد بضعة أيام، عادت لتزعم أن خيار التعريفة الجمركية أو الضريبة، والحد الأقصى للسعر سيكون لهما تأثيرات مماثلة إلى حد كبير، لكن الحد الأقصى كان بمثابة محاولة غير مسبوقة للتلاعب بسوق النفط العالمية.
أوتار الحرب المستمرة
وترى ستيفانى أنه رغم كون العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، شاملة وغير مسبوقة، لكنها لم تضع حدًا لقدرة بوتين على مواصلة الحرب فى أوكرانيا، لكنها جعلت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للروس العاديين، وأدت إلى انخفاض عائدات روسيا من تصدير الطاقة، لكنها لم تقطع أوتار الحرب بعد.
وتقول بيكر: «لكن فى الواقع، لم يضرب الغرب روسيا بحوض المطبخ»؛ لذلك فهى ترى
أن فرض المزيد من العقوبات، خاصة فيما يتعلق بالطاقة، سيكون أمرًا حاسمًا لتكثيف الضغوط، والبدء فى معاقبة بوتين فعليًا.
لكنها فى الوقت ذاته، تؤكد أن الشىء الوحيد غير المرجح هو أن معركة العقوبات ستنتهى فى أى وقت قريب، ليس مع روسيا بوتين، وليس مع القوى العظمى الأخرى مثل الصين، وتخلص إلى أنه «طالما بقى بوتين فى الكرملين، فإن الحرب الاقتصادية سوف تستمر».