الثلاثاء 14 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صفوة وحرافيش.. العالم السرى لـ«مقاهى نجيب محفوظ»

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

- كان محفوظ ورفاقه يلتقون فى مساء كل يوم خميس من كل أسبوع

- ارتبط «نجيب محفوظ» فى بداية شبابه بمقهى «عرابى» بالعباسية

- لم يكن نجيب محفوظ من ذلك النوع الذى يسكن فى برج عاجى

نجيب محفوظ ليس مجرد روائى أضاف إلى بنية السرد العربى ونقل هذا الفن الحكائى من مرحلة الرواية التاريخية التى كتبها أمثال «جرجى زيدان» و«محمد المويلحى» وغيرهما إلى الرواية الواقعية فقط، بل هو ابن حقيقى لتراث الشعب المصرى وحضارته العريقة، استطاع فى إبداعاته أن يعبر عن كل القيم الأصيلة والجوهرية فى الشخصية المصرية.

هو «رجل الساعة» على حد تعبير صديقه الراحل «محمد عفيفى» الذى واجه الزمن بتقلباته العاصفة بـ«نظام زمانى ومكانى صارم»، فقد حسب لكل لحظة قيمتها، عرف متى يكتب ومتى يتوقف، ومتى يتأمل.

لم يكن نجيب محفوظ من ذلك النوع الذى يسكن فى برج عاجى، رغم أنه الأديب العربى الوحيد الذى حصل على جائزة نوبل فى الآداب، لكنه كان قريبًا من الناس، فمن عاداته اليومية السير من بيته فى العجوزة إلى جريدة الأهرام، وفى تلك الأثناء يذهب ليشرب قهوة الصباح فى مقهى «ريش» فى شارع طلعت حرب. كما ارتبط «محفوظ» فى حياته بعدد من المقاهى التى كان يلتقى فيها بأصدقائه يوميًا، وكذلك بالأدباء الجدد ومن القراء أيضًا. هنا إضاءة حول بعض الذكريات لمحفوظ على مقاهى القاهرة.

فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى جاء «جورج بهجورى» إلى القاهرة يبحث عن ربة الفن فى حوارى وشوارع العاصمة بعد أن ندهته النداهة من صعيد مصر فجاء محملًا بموروث ثقافى متعدد الملامح، ولم يكن يملك إلا ريشة وورقة بيضاء. زاده اليومى التجول فى الشوارع والتأمل فى وجوه البشر بحثًا عن فضاءات لخطوط تشكيلية مغايرة.

وذات ظهيرة قائظة أخذته قدماه إلى مقهى «أوبرا» بميدان العتبة، وهناك اختار ركنًا قصيًا، لخجله الريفى، ربما، وربما أيضًا ليرصد تفاصيل المكان دون أن يراه أحد أو يزعجه، فإذا به أثناء اندماجه فى رسم لوحاته تقع عيناه على «نجيب محفوظ» الذى كان يداوم على الذهاب للمقهى صباح كل يوم جمعة، ويتحلق من حوله المريدون من الأدباء والمثقفين. فتقرب البهجورى بأوراقه ورسومه، التى كانت عبارة عن تخطيطات تشكيلية لبعض أبطال روايته من الحرافيش والجبلاوى. وفى إحدى المرات وبعد أن تعمقت العلاقة بينهما اقترب بهجورى من الأستاذ بعد أن انفضت الندوة الأسبوعية وقال له:

«أنا مسافر باريس أرسم هناك من أجل العالمية».

فأجاب محفوظ:

«خليك محلى هنا وكلما زادت المحلية أصبحت عالميًا».

ومنذ منتصف الأربعينيات كان نجم نجيب محفوظ الأدبى قد بدأ فى التصاعد، خاصة بعد خروجه من مرحلة كتابة الروايات التاريخية إلى مرحلة الروايات الواقعية التى بدأت برواية «القاهرة الجديدة» والتى كتبها عام «١٩٤٥»، ثم «خان الخليلى» عام «١٩٤٦»، و«زقاق المدق» عام «١٩٤٧»، وهو ما لفت إليه نظر القراء والنقاد على حد سواء، نظرًا لحسن تصويره لحياة الناس فى هذه المنطقة من القاهرة على حد تعبير د. فاطمة موسى فى كتابها «نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية»، حيث استطاع أن ينقل إلى القارئ صورة حية لجو حى خان الخليلى، أضحت خالدة فى ذاكرة قراء العربية.

ولا جدال فى أن اسم زقاق المدق هو أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذا الموضوع، إلا أن لخان الخليلى مكانة خاصة فى هذا الصدد، فهى أول ثمرة لانفعال الكاتب فنيًا بالحى الذى ارتاده سنوات بحكم عمله كموظف فى وزارة الأوقاف، كانت «خان الخليلى» بمثابة استكشاف للإمكانيات الفنية للحى القديم، وتلتها رحلة أخرى فى الزقاق».

ونتيجة للشهرة التى حصلت عليها هذه الأعمال انجذب عدد من الشباب الذين كانوا يحاولون الكتابة فى ذلك الوقت منتصف الأربعينيات إلى جلسته بكازينو أوبرا الذى كان يطل وقتها على ميدان إبراهيم باشا بالعتبة، ومن هؤلاء القاص يوسف الشارونى الذى يحكى عن بداية تعرفه بنجيب محفوظ وبندوته الأسبوعية قائلًا: «فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى، وعقب تخرجى فى قسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة، تعرف جيلى من طلبة الكلية وطلبة كلية الحقوق المجاورة: بدر الديب، محمود العالم، توفيق حنا، عباس أحمد، أحمد بهاء الدين، فتحى غانم، مصطفى سويف، فاطمة موسى، لطيفة الزيات، أنجيل بطرس، محمد عودة، حسن فتح الباب على نجيب محفوظ من رواياته التى كانت تنشرها تباعًا مكتبة مصر: الروايات التاريخية الثلاث ثم القاهرة الجديدة وخان الخليلى وزقاق المدق والسراب وبداية ونهاية.

فانبهرنا بهذا الكاتب الذى يقدم لنا مصر المعاصرة بإيجابياتها وسلبياتها بهذا الأسلوب المتميز.

ونما إلى علم البعض منا أنه يلتقى أصدقاءه صباح كل جمعة بمكان يعرف بكازينو أوبرا. فسعينا إلى لقائه واستمتعنا بصحبته التى كانت تتميز بضحكته المجلجلة وسط أصدقائه المبدعين أذكر منهم: عبدالحميد جودة السحار «الأديب وأحد الممولين للجنة النشر للجامعيين مع شقيقه سعيد السحار»، والكاتب الفكاهى محمد عفيفى، وأنور المعداوى، ويوسف السباعى الذى كان يحضر بزيه العسكرى وينتحى جانبًا بنجيب محفوظ أو عبدالحميد جودة السحار يتناقشان فيما لا نعرفه ثم ينصرف.

أما أصغر الحضور فكان شابًا، ربما لم يتجاوز سن المراهقة، طالبًا فى المرحلة الثانوية، ولم تكن المرحلة الإعدادية، وكان يحضر مستمعًا بشغف لما يدور من مناقشات، ويلقى من نكات يقهقه لها نجيب محفوظ قهقته العالية المرحة، هذا الشاب كان ماهر شفيق فريد الذى أصبح فيما بعد أحد نقادنا ومبدعينا الكبار، كل ما كنا نعرفه عنه وقتئذ أن أباه ناظر إحدى المدارس الثانوية، ومثقف أسهم فى الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية، وهذا ما حدث أيضًا مع الأجيال التالية مثل جيل الستينيات، ومنهم الناقد د. صبرى حافظ الذى يشير فى كتابه «سرادقات من ورق»، وفى معرض حديثه عن الكاتب الراحل صالح مرسى إلى أن بداية تعرفه عليه كانت فى ندوة محفوظ التى كان تعقد فى كازينو أوبرا، حيث قال: «بدأت معرفتى بصالح مرسى فى أواخر الخمسينيات فى ندوة نجيب محفوظ فى كازينو أوبرا الذى كان وقتها فى ذروة عطائه الأدبى، وقد فرغ من نشر إنتاجه الصرحى العظيم «الثلاثية» وتربع معها بحق على عرش الرواية العربية. وكانت ندوته بؤرة الاستقطاب الرئيسية لكل المتطلعين إلى أدب جديد، ولكل الذين يدركون قيمة الكتابة الجادة والأدب الجيد الأصيل، لم يكن نجيب محفوظ من نجوم الحياة الثقافية وقتها. فقد احتكر يوسف السباعى وأمثاله كل الأضواء، ولكن ألق الأضواء لم يعش يومًا رؤية الحياة الثقافية الجادة، ولم يشتت بوصلتها. وكنت وقتها وفدت إلى القاهرة لدخول الجامعة، وبعد سنوات طويلة من إدمان القراءة فى الريف تدرجت فيها من إدمان قراءة رواية أرسين لوبين، وشرلوك هولمز، ومغامرات الأومباشى عكاشة والشاويش درويش، إلى قراءة مترجمات عبدالعزيز أمين من الروايات العالمية، وصولًا إلى قراءة الأدب العربى الحديث، والتعرف على نماذجه الجيدة التى كان ينشرها الكتاب الذهبى فى الخمسينيات، وكنت قد اكتشفت أعمال نجيب محفوظ، وفتنت بها فى آخر دراستى الثانوية، فلما قدمت إلى القاهرة بعد انتهاء دراستى الثانوية عام «١٩٥٧» كان أول ما فعلته قبل التردد على قاعات المحاضرات بالجامعة هو التردد على استحياء على ندوة نجيب محفوظ فى كازينو أوبرا التى سرعان ما سحرنى مناخها الودى الأليف».

كانت هذه الندوة مدرسة كاملة بأى معيار من المعايير، وحينما استرجع دورها فى تكوينى الثقافى الآن، أشعر بأنها قامت بالنسبة لى وقطاع كبير من شباب المثقفين فى هذا الوقت، بدور الجامعة حينما كانت الجامعة قد بدأت فى التخلى عن دورها كمؤسسة لتعليم الطلاب أسس التفكير الحر، والحوار الموضوعى، واستقلال الرأى ومقارعة الحجة بالحجة فبينما كانت الجامعة تنحو صوب الاعتماد على التلقين، وتميل نحو الرأى الواحد أو انعدام الرأى وتعادى أصحاب الرأى المخالف، كانت ندوة نجيب محفوظ ومعها ندوات أخرى وبؤر كثيرة للثقافة فى هذا الوقت، ساحة للحوار الجاد والرأى الحر».

هذه شهادة د. صبرى حافظ وأظن أنها تعبر عن رأى جيل بأكمله، حيث لم تكن الندوة مجرد مكان للتعارف بقدر ما كانت مجالًا لتلاقح الأفكار والرؤى فى السياسة والأدب والفن والحياة، فانفتحت آفاق أخرى للكتابة، واتسعت أحداق المغتربين القادمين من القرى والدساكر لتواجه اتساع المدينة وشهوتها فى احتواء العابرين.

أما المفكر سلامة موسى «١٨٨٧ ١٩٥٨» وهو أول ناشر لنجيب محفوظ، فقد نشر له رواية «عبث الأقدار»: فى دار «المجلة الجديدة» التى كان يملكها سلامة موسى، وأعطاه أجره عن تأليفها كما ذكر محفوظ فى أكثر من موضع خمسمائة نسخة.

ومع صدور رواية «بين القصرين- ١٩٥٧» فوجئ محفوظ بمقال منشور فى يوميات الأخبار لسلامة موسى يشيد بالرواية، وفى تلك الأثناء قام المفكر الكبير بزيارة لشلة «أوبرا» وجلس معهم وقتًا طويلًا تناقشوا فيه أفكاره التقدمية وإبداعهم الجديد. وقد حضر «موسى» ليهنئ تلميذه القديم الذى كان هو أول من اكتشف موهبته الروائية.

مواقف طريفة

ومن الأشياء الطريفة التى رواها «محفوظ» فى أحاديثه مع رجاء النقاش فى كتابه «نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» أنه أثناء نشره رواية «أولاد حارتنا» مسلسلة فى «الأهرام»، وكان فى تلك الفترة من رواد كازينو أوبرا، وفى الندوة الأسبوعية لاحظ وجود فتاة جديدة، وعرف أنها ابنة أخت الدكتور حسن الخولى، الممثل الشخصى للرئيس عبدالناصر، وبعد إحدى الندوات التى حضرتها همست فى أذنه بأن سيارة محملة بمجموعة من العسكر ومنهم ضابط برتبة كبيرة ذهبت إلى بيته لاعتقاله، وقبل أن تصل إلى منزله جاءها الأمر بالعودة وعدم إكمال المهمة، ولم تذكر له الفتاة تفاصيل أخرى، ولا يعرف مدى صدق هذه الواقعة، ولم يحاول التأكد من صحتها، ولكن أثناء نشر الرواية كانت زوجته تشكو له من وجود مراقبة مستمرة لها، وأن أشخاصًا لا تعرفهم يتتبعون حركتها، وحتى أثناء تجولها فى السوق لشراء احتياجات البيت. ويضيف محفوظ: «وربما لو كنت أنتبه أثناء سيرى فى الطريق لاكتشف أننى مراقب، ولكن الأفكار التى كانت تدور فى ذهنى وأنا أمشى كانت تشغلنى عن مثل هذه الأمور».

وعلى مقهى «أوبرا» أيضًا كان اللقاء الأول الذى التقى فيه محفوظ ناقده الأول سيد قطب، الذى كان يواظب على حضور الندوة الأسبوعية فى الأربعينيات. فمع صدور رواية «كفاح طيبة» عام «١٩٤٤» كتب قطب أول مقالة نقدية عن محفوظ، وكان من الممكن أن يستمر تجاهل الحياة الثقافية ببعدها النقدى لأعماله، لولا هذا المقالة التى كتبها قطب، والذى كان يعده البعض فى ذلك الوقت التلميذ الأنجب فى مدرسة العقاد الأدبية، فقد أعلن فيها عن ميلاد روائى يملك ناصية الكتابة وتحريك الحدث الروائى باقتدار، وهذا ما أعلنه قطب فى الثناء على القصة، حيث قال عنها: «تغلبنى حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها، هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، وأستعين على رد هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه»!

ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها: فاليوم ألتفت فأجد بين يدىّ القصة والملحمة، فى عمل فنى واحد فى «كفاح طيبة»، فهى قصة بنسقها وحوادثها، وهى ملحمة وإن لم تكن شعرًا ولا أسطورة بما تفضيه فى الشعر إلى ملحمة».

وأضاف قطب فى مقاله: «ولو كان لى من الأمر شىء لجعلت هذه القصة فى يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها الذى لا أعرفه حفلة من حفلات التكريم، التى لا عداد لها فى مصر، للمستحقين وغير المستحقين».

وقد كتب قطب بعد ذلك عن رواية «القاهرة الجديدة» فور صدورها عام «١٩٤٥»، مؤكدًا أن الرواية بمثابة العتبة الأولى للرواية الواقعية التى صار محفوظ عميدًا لها.

هكذا كانت العلاقة بين نجيب محفوظ وسيد قطب، فى بداية الأمر علاقة أدبية تقوم على فهم الأفكار وسبر أغوارها، وتفحص دلالتها ومعانيها، لكن بعد تحولات قطب الفكرية، وتزعمه حركة الإخوان المسلمين باعتباره أحد مراجعها الكبرى- انقطعت علاقة محفوظ به، ولم يزره إلا مرة واحدة بعد عودة قطب من رحلته إلى أمريكا التى تغيرت فيها أفكاره مائة وثمانين درجة.

شخصيات واقعية

ارتبط «نجيب محفوظ» فى بداية شبابه بمقهى «عرابى» بالعباسية، حيث كان قريبًا من بيت الأسرة التى انتقلت إليه من حى الجمالية الذى ولد ونشأ فيه، وقضى فيه أيام طفولته وصباه.

وترجع تسمية المقهى إلى «كامل عرابى»، فتوة الحسينية الذى قضى فى السجن «٢٠» عامًا بعد أن كسّر وحطم وأطاح بعين أحد الأشخاص، وكانت هذه الحادثة سببًا فى إلغاء نظام «الفتونة» فى الثلاثينيات من القرن الماضى.

وقد تحدث «محفوظ عن علاقته بهذا المقهى فى الكتاب الذى أعده الناقد رجاء النقاش عن أحاديث مطولة معه عن حياته وذكرياته، وحمل عنوان «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، فيقول «محفوظ» عن بداية تعارفه بالمكان:

«تعرفت على عرابى بعد خروجه من السجن، وكنا أنا وأصدقائى نذهب للجلوس فى مقهاه، وكان أحيانًا يتشاجر معنا، لأنه كان محبًا للهدوء والنظام، ويكره أن يصفق أحد بيديه لاستدعاء الجرسون، وكان صوتنا يعلو كثيرًا، وندخل فى فاصل من المشاغبة البريئة. فلما يضيق بنا يتجه نحونا ويقول فى غضب: هذا مقهى أم مدرسة أيها الأفندية؟ من الغد لا تدخلوا المقهى.. فننتقل إلى مقهى الفقى، وهو مقهى صغير فى آخر العباسية، وبعد عدة أيام يمر علينا فى بيوتنا، يصالحنا ويعلن انتهاء فترة الطرد، ونعود إليه من جديد».

ويضيف محفوظ: «فى أيام الانتخابات كان مقهى عرابى يتحول إلى معسكر لأنصار الوفد، لأن عرابى كان وفديًا، وكان كبار السياسيين من أهل الحسينية مثل: الشواربى باشا وأحمد ماهر باشا يخطبون ود عرابى حتى يساعدهم فى كسب أصوات الناس بما يتمتع به من تأثير جماهيرى رهيب، ورغم السنوات العشرين التى قضاها فى السجن فإنها لم تؤثر على شخصيته، وكان شكله وتركيبته يوحيان بالزعامة، وفيه هيبة سعد زغلول، وكان فى صوته شموخ، لأنه تعود أن يأمر فيطاع».

إذن كان عرابى هذا كما يصوره محفوظ شخصية ذات تأثير قوى فى محيطها الاجتماعى، وبمنطق ذلك الزمان الذى كانت فيه الفتوة إحدى تجليات القوة فى ذلك العصر، وكان الفتوات بإمكانهم فرض الأتاوات على التجار فى الأسواق والمحلات، وكانت الحكومة فى كثير من الأحيان تساعدهم على فرض هيمنتهم على الحوارى الشعبية، فكان لكل حى فتوة خاص به.

وكانت شلة العباسية التى كانت نواة لما عرف بعد ذلك بـ«الحرافيش» تضم فى بداية تكوينها كلًا من مصطفى كاظم شقيق السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس عبدالناصر، وأحمد الحفناوى وهو غير الموسيقار المعروف وحسن عاكف والألفى مأمون، والمعلم كرشو، ونجيب الشويخى الذى وصفه محفوظ بأنه شرير الشلة، فقد اعتدى بالضرب على معظم أعضائها، ومهددًا أى عضو من الشلة يختلف معه بعدم الخروج من بيته حتى لا يتعرض للضرب، وكان من بين أعضاء الشلة أدهم رجب، وهو طبيب هاجر منذ أكثر من ستين عامًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما زال مقيمًا فيها حتى الآن وقد تجاوز المائة عام.

ثم بعد ذلك تكونت الحرافيش من خلال مجموعة من الأدباء الذين فازوا بالجائزة التى أقامتها وزارة المعارف فى بداية الأربعينيات فى القصة، وهم على أحمد باكثير ويوسف جوهر وعادل كامل ومحمد عفيفى ونجيب محفوظ.

وانضم إليهم بعد ذلك الفنان أحمد مظهر والمخرج توفيق صالح.

وقد كان محفوظ ورفاقه يلتقون فى مساء كل يوم خميس من كل أسبوع، أما باقى الأيام فكان المقهى يمتلئ بالزبائن من كل طوائف المجتمع، ويذكر محفوظ فى حديثه مع رجاء النقاش أن مقهى «عرابى» كان أكثر المقاهى التى كان يجلس عليها الضباط الأحرار قبل الثورة، ومنهم عبدالحكيم عامر وعبداللطيف البغدادى وجمال سالم.

يقول محفوظ:

«كل هؤلاء الضباط.. يتحدثون معنا فى كل شئون الحياة، ونعرف أسرار حياتهم الشخصية، ولكننا لم نعرف أبدًا السر الخطير الذى يدبرونه فى الخفاء».