الثلاثاء 14 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أدول.. مصرى معجون بطمى النوبة

حجاج أدول
حجاج أدول

«مصر» هى الدولة الوحيدة فى العالم التى لم تتغير حدودها أبدًا، ولن تتغير بإذن الله الذى حماها شمالًا بالبحر وشرقًا ببحر مثله ومن بعده جبال ورمال، وغربًا ببحر من الرمال عظيم وجنوبًا بالجنادل والشلالات. وفوق كل هذا يحفظها بعينه التى لا تنام، فلن تتغير ولن تتبدل أو تتفتت أبدًا.

رغم هذه اللُّحمة وهذا التماسك، فإن لمصر سحرًا فى تنوعها، وتباينًا يبث فى ربوعها الحياة والتجدد.

لكل إقليم على هذه الأرض المباركة «سحنة» جيولوجية خاصة، وطابع جغرافى يميزه، وبيئة ثقافية تظهره. تنوع يلملم ويتماسك لا يشتت ويبعثر، فسيفيساء عجيبة ومذهلة!

إن عظمة «مصر» فى تنوع ثقافات شعبها الواحد، ثقافة أهل النوبة غير ثقافة السيناوية، الثقافة السكندرية التى لا تزال تحمل بقايا «الكوزموبوليتانية» تختلف تمامًا عن الثقافة البدوية من مطروح إلى السلوم، والفلاحون فى الدلتا لهم موروثات ثقافية لا تشبه ما ورثه أبناء الصعيد! هكذا دمياط غير بورسعيد ومدن القناة. سفاجا أو القصير يختلفان ثقافيًا عن الأقصر أو أسوان وسيوة رغم قصر المسافات بينهم!

جميل هذا التنوع المذهل، الأجمل أن الجميع يتدثر بعباءة مصرية عظيمة، عريقة، خالدة. أما الأكثر إبهارًا فهو التناغم والتكامل، صورة بديعة لا يخفت نورها لكنه يتلألأ ويتجدد!

حجاج أدول أديب مصرى يحمل النوبة فى قلبه وعقله، فهو مصرى بنكهة نوبية فريدة، يزيد الثقافة المصرية العربية ثراءً وتنوعًا وتفردًا. فأرضنا الطيبة تنبت أنواعًا من الفاكهة، لكل ثمرة لونها ومذاق يميزها عن غيرها، رغم أن النيل العظيم ماؤه واحد، وسماؤنا واحدة ونسيمنا واحد!

إن أهمية النوبة المصرية ليس فى الإثنية أو العرقية وإنما تكمن فى ثقافتها الفريدة، وحجاج أدول أحد أعمدة هذه الثقافة العريقة، هو أحد أهم الأدباء المصريين «على ندرتهم» الذين حملوا على عاتقهم حفظ هذه الثقافة، وانتشارها بين عموم كل المصريين كى لا تندثر. فالثقافات البشرية حين تتقوقع وتنغلق على نفسها تذبل وتنتهى، ويكون الجمود معول هدم، والانزواء بالتجاهل أول خطوة لاختفائها، فلا يمر وقت طويل حتى تندثر وتتلاشى.

حجاج أدول مثال عبقرى لهذا التنوع المصرى الفذ، فهو عجينة بالغة التميز، مزيج يجمع بين قبضةٍ من ثرى النوبة الطيب وغَرفَة ماء من نيلنا الخالد، نُفِخَ فيه بروح مُشَبَعة بنسائم الإسكندرية الزكية بأمر الله!

«حجاج أدول» هذا المصرى العاشق للخيال لا يكفيه الخيال السابح نحو الغد ولا تشبع ذاته الحالمة، فيغوص إلى أعماق الأمس البعيد، يفكك التاريخ ويضع بين مفاصله وتروسه شخوصًا من خياله الخصب كطمى النيل يحمل بين ذراته ذهبًا ومعادن نفيسة! يتناول «أدول» عصورًا بعينها، يروى لنا من خلالها قصصًا، قد تكون فى ثياب مملوكية قشيبة، لكن أرواح شخوصه «أدولية» تحمل روحه ومذاقه الفريد، ويفوح منها عطر أدولى لا شبيه له!

سحر «حجاج أدول» يبدأ أثره وتميزه مع أغلفة كتبه، إلى حد يستطيع القارئ التعرف عليه دون الإشارة إلى اسمه! بينما فى المتن يتشعب السحر ويفوح أريجه، تحمله بساطة الأسلوب والخيال البكر وروعة الحكى. هدفه دائمًا هو الإنسان دون النظر إلى دينه أو عِرقه أو أفكاره وتوجهاته، والغاية السامية التى ينشدها ويلح فى طلبها هى تعميق روح الأخوة والمحبة والسلام بين البشر، والإيمان بقيم «الحق والخير والجمال» فى كل عمل يقدمه إلينا كرسالة إنسانية سامية بذل من أجلها جُل عمره المديد الذى تجاوز الثمانين، ولا يزال يمنحنا التفاؤل والأمل فى غد مشرق سعيد يغمر أرجاء المعمورة.

«حجاج أدول» الإنسان، سكندرى الهوى، نوبى الأصل والثقافة، مصرى الوطن والعقيدة، ينتمى إلى الأمة المصرية، أسهم بعد تخرجه فى بناء السد العالى، وقضى سبع سنوات من حياته جنديًا عظيمًا يودى واجبه الوطنى فى خدمة بلاده، حيث شارك فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة كغيره من أبناء مصر، وكلنا نعلم التضحية العظيمة التى قدمها أهل النوبة من أجل بناء السد العالى، والدور الجليل الذى لعبته اللغة النوبية فى حرب أكتوبر، حين استخدمها الرئيس السادات كشفرة فشل العدو الإسرائيلى فى فك رموزها.

فى مساء ٢٣ مايو ٢٠٢٤ دُعيت لحضور الاحتفال بالعيد الثمانين لميلاد الأديب الكبير «حجاج أدول» بالنادى السويسرى الذى قدمته المبادرة السويسرية. حضر الحفل الكثير من أحباب هذا الرجل العظيم، فكان احتفالًا بالغ الجمال، وأمسية مفعمة بالمحبة الخالصة لـ«حجاج أدول» الإنسان، تقديرًا له ولمسيرته الإبداعية. تعرفت خلالها على الثقافة والفن النوبى، وسعى «أدول» والسيدة هدى «أدُّولة» زوجته بين الحاضرين مرحبين شاكرين. زاد الحفل بهجة أن الجميع بلا استثناء خاض تجربة الرقص النوبى الجميل، وخضت معهم التجربة الرائعة النادرة فرحًا مسرورًا. كانت ليلة مبهجة، سر بهجتها يكمن فى صدق المشاعر، المحبة الحقيقية لهذا الأديب العظيم، وانبهارنا بعلاقة الحب الذى يربط بين «أدول وأدُّولة» شريكة حياته، علاقة حب نادرة زادها الزمان عمقًا ووهجًا.

بدأ «حجاج أدول» الكتابة فى سن الأربعين، قدم لنا خلالها عشرين عملًا روائيًا، أذكر منها: «غرام وانتقام بو سُوسُو»، «مَجِسَّى»، «جبل الصعاليك»، «زلنبح»، «الكُشَّر»، «هضبة المساخيط»، «بولاق الفرنساوى»، «ثلاث برتقالات مملوكية»، «كديسة»، «مأساة الملك علوى»، «رحلة السندباد الأخيرة»، «سيرة المملوك عنطزة»، «الأمير دهشان والجارية الطيبة». ومجموعات قصصية منها: «ليالى المسك العتيقة»، «شفرة دُنى فوَّا آن بيزو»، «الباقة المدهشة»، «غزلية القمر». كما كتب المسرحيات ومنها: «ناس النهر»، «أحضان القنافذ- فوفو وبسة»، وكتابات عن السينما التى عشقها منها: «بهجة السينما- كتاب فى حب السينما»، «موعود- نوستاليجا سنوات الحرب والغرام»، «يا سينما يا غرامى»، أنا أحب شارع الحب»، «فى محبة فيلم لعبة الست» وكتاب «خلى بالك من زوزو».

كما أن له كتابات فى الشأن النوبى، نذكر منها: «النوبة تتنفس تحت الماء»، تنويعات نوبية»، «كتابات منصفة عن النوبة والنوبيين»، كما قدم له الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى كتابه «أدباء نوبيون ونقاد عنصريون». يجدر الإشارة إلى أن «حجاج أدول» لم يفقد الأمل فى العودة إلى أرض النوبة التاريخية، ويؤمن بأن «حلم العودة» ليس حكرًا على النوبيين وحدهم، لكنه لكل المصريين، كى نعيد الحياة للثقافة النوبية فلا تنقرض أو تزول.

قدم «حجاج أدول» للثقافة المصرية أكثر من ستين كتابًا، خطها جميعًا بقلم مصرى أصيل، عربى بمداد نوبى، يندر شبيهه لروعته وتنوعه، كما أنه فريد فى طبيعته وثقافته النوبية المتفردة.

لست أدرى ماذا على هذا المصرى العظيم «حجاج أدول» أن يقدم لوطنه وبنى وطنه وللإبداع وللثقافة العربية والنوبية، التى هى جزء لا يتجزأ من ثقافة الأمة المصرية أكثر مما سبق كى تمنحه الدولة «جائزة النيل» أو «جائزة الدولة التقديرية» فى الآداب اعترافًا بدوره العظيم، فقد شارك فى بناء السد خمس سنوات، ثم سبع سنوات قضاهن محاربًا، قدم روحه فداء لوطنٍ عشقه، ومبدع بذل أكثر من نصف عمره خادمًا للثقافة والفكر والأدب ولا يزال يعطى كشاب فى قمة العطاء.

أخيرًا «حجاج أدول» إنسان عظيم، شهد له المثقفون والمحيطون به والقراء بدماثة خلقه وجميل طباعه ونبل مقاصده.. «حجاج أدول» ابن مصر البار «قدوة عظيمة» لنا وللأجيال القادمة.