الأربعاء 25 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الدخان والرماد.. كتاب يغطى قرونًا من علاقة الإنسان مع الأفيون

الأفيون
الأفيون

- كيف ساعدت تجارة الأفيون فى خلق النظام العالمى غير المتكافئ كما نعرفه اليوم؟

- عدسة تاريخية لتجارة ولدت وحش مخدرات عالميًا أرباحه تتعدى الـ68 مليار دولار

- كيف قامت بريطانيا بأكبر عمليات تهريب للمخدرات فى التاريخ عبر الهند إلى الصين؟

- الشاى والأفيون سلسلة تجارية تاريخية ربطت أجزاء كبيرة من العالم

زهرة رقيقة ذات ساق رفيعة، نبات صغير بتلاته ناعمة، لكنه فى الوقت ذاته خصم هائل، بعد أن تحول إلى سلعة ثمينة تنقل بكميات هائلة عبر تيارات المحيط الهندى، من قبل الإمبراطورية البريطانية إلى الصين، لمعالجة الخلل التجارى الكبير بينهما، وكانت عائداتها ضرورية لبقاء الإمبراطورية ماليًا. 

لكن بعد تحقيق مزيد من الأرباح، أصبحت هذه السلعة محورًا لأصول بعض أكبر الشركات فى العالم، وأقوى العائلات والمؤسسات المرموقة فى أمريكا «من آل أستور وكوليدج إلى رابطة آيفى ليج».

الأفيون هو السلعة التى أدت تجارتها إلى تأثير ضخم على بريطانيا والهند والصين حتى الآن، وساعدت فى خلق النظام العالمى غير المتكافئ كما نعرفه اليوم، وهو ما يتتبع تاريخه الاقتصادى والثقافى، الروائى الهندى «أميتاف جوش» فى كتابه: «الدخان والرماد: رحلة كاتب عبر تاريخ الأفيون المخفى».

وتستخرج هذه المادة من ثمرة نبات الخشخاش المنوم، الذى يستخدم فى التخدير، حيث يتكون ما يقرب من 12% منها من المورفين المسكن، والذى تتم معالجته كيميائيًا لإنتاج الهيروين والمواد الأفيونية الأخرى للاستخدام الطبى، وفى تجارة المخدرات غير المشروعة، التى وصلت أرباحها إلى أكثر من 68 مليار دولار.

الكتاب الذى يأتى فى 400 صفحة، صدر فى منتصف عام 2023، عن دار نشر «هاربر كولنز» الأمريكية، وهو يعتبر استكمالًا للثلاثية الروائية للكاتب، والتى تتكون من روايات «بحر الخشخاش» و«نهر الدخان» و«فيضان النار»، ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة الأكاديمية البريطانية للكتاب لعام 2024.

قوة وذكاء

ويكشف جوش، فى كتابه، تأثير تجارة الأفيون فى التاريخ العالمى، بعد أن ذهل خلال بحثه عن سلسلته الروائية منذ حوالى عشرين عامًا، عندما علم كيف أن حياة البحارة والجنود فى القرن التاسع عشر التى كتب عنهم، لم تمليها تيارات المحيط الهندى فقط، بل أيضًا سلعة الأفيون.

وكان الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو اكتشاف أن هويته وتاريخ عائلته لهما علاقة بهذه القصة، فأصبح الكتاب هو فى الوقت نفسه رحلة ومذكرات شخصية وتاريخية، معتمدة على عقود من البحث الأرشيفى.

تحرك الروائى فيه ببراعة بين تاريخ زراعة نبات الخشخاش وأساطير الرأسمالية، والتداعيات الاجتماعية والثقافية للاستعمار، ونجح فى الكشف عن الدور الذى لعبه نبات واحد صغير فى صنع عالمنا الحالى.

وتعتمد الفكرة الأساسية للكتاب على رواية قصة علاقة الإنسان بنبات الخشخاش الذى تستخرج منه مادة الأفيون، والتى يعتبر فيها النبات هو البطل الأقوى والأذكى، حيث يعتمد على خلق دورات من التكرار، والتى تتجلى فى ظواهر مماثلة مع مرور الوقت، أو بمعنى أصح فإن الأفيون يمنح دروسًا عبر التاريخ للبشر من الماضى إلى الحاضر.

وهو الأمر الذى يتطلب الاعتراف به، حسب المؤلف، حتى يتم صنع السلام معه، فالأفيون ليس عشوائيًا؛ وتثبت الأيام أن زراعته من المستحيل القضاء عليها، حيث إنها تتقاطع مع نقطة الضعف البشرى الأهم، وهى الجشع.

ويدلل الكاتب على هذه الفكرة بالمكسيك، التى على الرغم من جهود الاستئصال المكثفة لذلك النبات بها، إلا أن المساحة المزروعة بالخشخاش تستمر فى التزايد، ويتم إنتاج الأفيون فى العالم اليوم، أكثر من أى وقت مضى.

ويصف جوش فى كتابه هذه القصة بالمظلمة للغاية عن الإنسانية، وهو بالضبط سبب حاجتنا إلى قراءتها، فبالرغم من أن الاتجار بالأفيون كان السبب فى بقاء وتوسع الإمبراطوريات الأوروبية، وأرسى جزئيًا أسس الاقتصاد العالمى والرأسمالية الحديثة، إلا أن التنازل عن الأخلاق والمسئولية الاجتماعية كانت فى النهاية له عواقب سلبية، تؤثر علينا جميعًا.

الذنب البريطانى

يتكون الكتاب من ١٨ فصلًا، ويمتد خلال فترة بحث مدتها ١٠ سنوات بين عامى ٢٠٠٥ و٢٠١٥، وهو تجميع للعديد من السفن المعقدة التى كانت تنقل تجارة الأفيون لمدة ثلاثة قرون فى المحيطات.

وهى تجارة تعتبر ظاهرة امتدت لعدة قارات، تربط بين النبضات العالمية للتجارة والاقتصاد والهجرة وإعادة التوطين والحيازة والقوة، اعتمد الكاتب فيها على التنقيب فى أعمال كبار الخبراء فى مجالات الدراسات الصينية وبعض الأرشيفات الغربية، والرأسمالية ولوحات الشركات، بالإضافة إلى رسائل تجار الأفيون وبيانات عن عمليات التهريب، والمذكرات الاستعمارية وقصص الرحلات.

ومن خلال هذا البحث، قام جوش فى كتابه بجذب الانتباه من خلال سرد القصص، ثم خلق روح لافتة للذاكرة المادية، وأخيرًا شارك القارئ فى تاريخ متعدد الأبعاد، تقاطع فيه التاريخ الشخصى مع التاريخ الوطنى والعالمى. 

لا تبدأ قصة المؤلف عن خشخاش الأفيون بالنبات نفسه، بل بالتأمل فى الصين، التى يعلو حضورها فى كل مكان، على الرغم من التناقض، فى عالمه المادى اليومى، بدءًا من كوب الشاى الصباحى.

ويذكر الكاتب فى الفصل الأول أنه لم يفكر فى زيارة الصين لأول مرة حتى عام ٢٠٠٤، رغم فضوله بشأن «كانتون»، الميناء الذى كانت ترسو فيه عديد من سفن تجارة الأفيون. 

ثم زار الصين للمرة الأولى عام ٢٠٠٥، وكانت زيارته الأولى إلى «قوانجتشو» فى جنوب الصين، حيث يقول إنه قضى معظم وقته فيها، ليقدم قصة الحرب الأنجلو- صينية التى دارت رحاها فى الفترة من عام ١٨٤٠ إلى عام ١٨٤٢ أو ما تسمى «حروب الأفيون».

وذلك من جانب المنتصرين البريطانيين الذين هزموا إمبراطورية «تشينج» الصينية، وهى آخر ممالك الصين التى حكمت من عام ١٦٤٤ وحتى عام ١٩١٢، مع محاولة استعادة فاشلة وقصيرة للحكم عام ١٩١٧.

وأخذ جوش المواد المتعلقة بالحرب بشكل حصرى من السجلات البريطانية الأصلية، وكانت البداية حسب ما يروى المؤلف بحظر «تشينج» للأفيون فى وقت مبكر من عام ١٧٢٩، بناء على تقارير عن مدى إدمان التجار الصينيين هذا الدواء فى جزر الهند الشرقية الهولندية.

ولهذا السبب لم تتمكن شركة الهند الشرقية من الاعتراف رسميًا أو صراحة بأن الأفيون الذى تنتجه كان مخصصًا للسوق الصينية، لكن الأمر لم يستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يبتكر الرأسماليون البريطانيون حلًا بديلًا: فبدلًا من بيع الدواء فى الصين مباشرة، قاموا ببيعه بالمزاد العلنى إلى «تجار القطاع الخاص»، الذين شرعوا فى تهريبه إلى داخل البلاد.

وبحلول القرن التاسع عشر، مع اختراق مهربى الأفيون السوق الصينية، أصبح الإدمان على المخدرات قضية مجتمعية ضخمة، وعندما حاولت الصين اتخاذ إجراءات صارمة فى أواخر ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن التاسع عشر، اختلقت بريطانيا ذريعة للهجوم.

واستمرت حرب الأفيون الأولى أربع سنوات، وعندما انتهت، استمرت تجارة الأفيون على قدم وساق، وبحلول عام ١٨٥٨، أجبر البريطانيون الصينيين على تشريع الأفيون فى أعقاب حرب الأفيون الأولى والثانية «١٨٥٦ – ١٨٦٠»، وأيضًا على فتح موانئها أمام تجارة هذه السلعة.

وببساطة اندلعت هذه الحروب بسبب جشع الإمبراطورية البريطانية وتصميمها على بيع المزيد والمزيد من الأفيون إلى الصين، ويؤكد المؤلف أن الحضور المادى مع غياب الفكر الصينى، يكمن فى الخطابات العنصرية التى نشرها «الغرب» للإشارة إلى ضعف الصين الأخلاقى وقابليتها لتعاطى الأفيون. 

وكان تصوير الصين باعتبارها متعاونًا راغبًا وليس ضحية فى تجارة الأفيون بمثابة خدعة، غذت مشروعًا غربيًا أكبر، سعى إلى احتواء ومحو المساهمات التاريخية التى قدمتها بكين فى صنع عالمنا الحديث.

أميتاف جوش

سلسلة تجارية

ويعود بنا الكاتب إلى قصة حروب الأفيون الاستعمارية من أساسها، ليدلل لنا لماذا كانت الصين هى الضحية الأكبر فى التجارة العالمية متعددة الجوانب للأفيون والشاى؟!

حيث تبدأ القصة فى الأصل مع البرتغاليين والهولنديين، بعد أن استخدم كلا البلدين دواء الأفيون كعملة لتسهيل التدفقات التجارية، فى محاولة للحصول على احتكار التوابل الآسيوية مثل جوزة الطيب، والصولجان، والقرنفل، والفلفل.

لكن البريطانيين هم الذين، بعد قرن من الزمان، صادفوا الأفيون كوسيلة لتمويل وارداتهم المتزايدة من الشاى الصينى، حيث كان الشاى نباتًا صينيًا حصريًا، وأصبح عالميًا خلال القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وكان البريطانيون يتاجرون بالشاى الصينى، لكنهم استاءوا بشكل عام من اضطرارهم إلى الدفع للصينيين بالفضة.

وذلك بعد أن بدأت احتياطاتهم من الفضة فى النضوب تدريجيًا، وهو ما أدى إلى خلق أزمة، تم حلها من خلال الاعتماد على نبات آخر، وهو الخشخاش، الذى يستخرج منه الأفيون. 

فى ذلك الوقت، وجد البريطانيون حلفاء فى قبيلتى البارسيين والمارواريين فى الهند، وولدت هناك أكبر عمليات تهريب المخدرات فى التاريخ- تمت زراعتها فى «بيهار» و«أوتار براديش»، وتمت معالجتها فى «جازيبور» و«باتنا»، وتشق طريقها إلى قوانجتشو «كانتون سابقًا» عبر كولكاتا «كالكوتا سابقًا».

وبدأت زراعة الخشخاش فى الهند بشكل كبير فى منطقتين هما كلكتا وبومباى «مومباى»، حتى يمكن ضخ الأفيون لتصديره إلى الصين، وهو ما كان يتعارض كثيرًا مع رغبات حكام الصين.

وكان الصينيون يبيعون الشاى للعالم وفى المقابل يشترون به الأفيون، وجلب بيع الأفيون للصين بعض الثروة للهند، والتى استخدمت لدفع ثمن المنسوجات البريطانية، التى دخلت الهند بشكل كبير فى القرن التاسع عشر.

وهكذا، أنشأ الشاى والأفيون سلسلة تجارية تربط أجزاء كبيرة من العالم، ولكن كان الأوروبيون أكبر المستفيدين منها، وبعد أن أصبح الأمريكيون مستقلين عن السيطرة البريطانية فى عام ١٧٧٦، بدأوا فى تجارة الشاى بشكل مستقل مع الصين، مقابل الأفيون المنتج فى تركيا. 

وبالتالى ارتبطت أجزاء كبيرة من العالم غير الأوروبى بالتجارة العالمية المتعددة الجوانب، لكن لم تستفد منه جميع الدول، وكانت إنجلترا وأمريكا الرابحين الكبيرين، فيما كانت الصين الضحية الأكبر، حيث قدمت الشاى وحصلت على الأفيون فى المقابل.

صناعة الثروات

ويذكر جوش أن الولايات المتحدة هى الدولة التى استفادت أكثر من غيرها من تجارة الأفيون مع الصين، مع تجنب التجار الأمريكيون احتكار الأفيون البريطانى، من خلال الحصول على مصادر من تركيا و«مالوا» فى غرب الهند. 

وبحلول عام ١٨١٨، مع توسع التجارة العالمية كان التجار الأمريكيون يهرّبون حوالى ثلث إجمالى الأفيون المستهلك فى الصين، بعد أن سافروا إلى قوانجتشو، مركز تجارة الأفيون فى الصين. 

وبالتالى تضاعفت ثرواتهم عدة مرات خلال سنوات، ثم عادوا بعد ذلك إلى أمريكا ليعيشوا حياة رغيدة لا يمكن تصديقها، ومن خلال ذلك يدين العديد من العائلات والمؤسسات الأمريكية الشهيرة بثروتها لتجارة الأفيون والمخدرات مثل عائلات «أستور» و«كوليدج» و«فوربس» وإيرفينج» و«روزفلت» و«كابوت» و«بيركينز» و«ديلانو».

لكن هذا الجانب من حياتهم قد تم حذفه إلى حد كبير من التاريخ، وتم استثمار أموال الأفيون فى إنشاء البنوك والخدمات المصرفية الاستثمارية، وبناء السكك الحديدية، والتصنيع، والفنادق، وجوانب أخرى من البنية التحتية فى المجتمع الأمريكى.

حيث يشير المؤلف إلى أنه لا يزال ولعهم بالهندسة المعمارية الصينية والهندسة المعمارية المستوحاة من الصين، موجوًدا فى المشهد البصرى الأمريكى. 

ويقول الكاتب: «كان الأفيون فى الواقع وسيلة تمكنت بها أمريكا من نقل القوة الاقتصادية للصين إلى الثورة الصناعية الأمريكية من خلال الثروة التى ولدها مزارعو الخشخاش الهنود الذين أجبروا على النمو، ومستخدمو الأفيون الصينيون الذين أجبروا على الاستهلاك».

مؤسسات مالية

ولم تكن بريطانيا وأمريكا فقط هما الرابحين، فيوضح جوش أن سنغافورة وهونج كونج واقتصاد هذه المنطقة من العالم يعتمد على غنائم الأفيون، ويقول: «كان الأفيون حاسمًا فى صنع الاقتصاد الحديث فى جنوب شرق آسيا، حيث لم يوفر فقط سبل العيش لما يمكن القول إنها أهم مدينة فى المنطقة، سنغافورة، ولكن أيضًا رأس المال الأساسى لرواد الأعمال والصناعيين».

وبالاعتماد على أبحاث هائلة، يوضح المؤلف كيف وضعت تجارة الأفيون أسس الاقتصاد العالمى الحديث فى مدن مثل مومباى وشانجهاى، وكيف صنع تجار الأفيون الهنود ثرواتهم، فى حين كانوا لا يبالون بأن أعمالهم تعتمد على بيع مادة غير قانونية، الأمر الذى جلب البؤس لملايين الصينيين.

ويقول الكاتب: «من الأفضل للهنود أن يتذكروا هذه الكلمات فى كل مرة يهاجمهم فيها شعور بالظلم فيما يتعلق بالصين»، مضيفًا: «كان من بين الأعضاء المؤسسين الذين أسسوا مؤسسة هونج كونج وشانجهاى المصرفية فى عام ١٨٦٥ ثلاثة بارسيين، وحققوا أموالهم فى جزء كبير منها بسبب تمويلهم لتجارة الأفيون». 

ويكتب قائلًا: «إن حقيقة أن هذه الشركة، المعروفة باسم HSBC، هى اليوم واحدة من أكبر البنوك فى العالم، هى مؤشر على مدى تأسيس مؤسسات الرأسمالية العالمية الحديثة على الأفيون».

ويؤكد جوش أن الأفيون هو السر الخفى وراء ولادة الحداثة الرأسمالية الغربية، لكن تحيط به حالة من الإخفاء المتعمد والصمت المدوى، لأن الثروة الخاصة المتراكمة من تجارة الأفيون، غالبًا ما يتم توجيهها إلى أعمال مذهلة من الأعمال الخيرية الحديثة فى العالم. 

كما أن ما يظهر من تجارة الأفيون فى بريطانيا وأمريكا والهند هو أعمال البنية التحتية العملاقة والتى لا تعد ولا تحصى، والمؤسسات الثقافية والتعليمية، لكن ما يبقى مخفيًا هو قصة المعاناة والدمار التى خلفتها للعالم كله.

تناقض اقتصادى

ويوضح المؤلف أن نمط إنتاج الأفيون فى الهند ألقى بظلاله على وقتنا الحالى، حيث كان يتم الإنتاج فى قلب نهر «الجانج» مع مصانع الأفيون فى مدينة «باتنا» و«جازيبور» تحت احتكار شركة الهند الشرقية البريطانية، وحدثت هذه التجارة دون أى سيطرة من الدولة الهندية.

وأسس التجار الإنجليز، بقيادة الشركة، فى الفترة من ١٧٧٢ إلى ١٨٥٠، سلاسل واسعة النطاق لتوريد الأفيون، مما أدى إلى إنشاء أول كارتل «تحالف» مخدرات فى العالم.

وكانت اللحظة المحورية الأولى فى قصة الأفيون هى استيلاء الشركة على صناعة الأفيون فى ولاية «بيهار» فى عام ١٧٧٢، وحدثت الخطوة الكبيرة الثانية فى عام ١٧٩٩، عندما قررت قيادة الشركة إنشاء «قسم الأفيون»، وهى إدارة بيروقراطية كانت مكرسة بالكامل لخدمة الأفيون.

وأشرف هذا القسم على كل جانب من جوانب إنتاج وبيع الدواء، بدءًا من زراعة الخشخاش وحتى بيع المنتج بالمزاد العلنى فى «كلكتا»، وحددت الإدارة المزارعين الذين يمكنهم زراعة الخشخاش، وكم يمكنهم زراعته، وما سيحصلون عليه مقابل محصولهم.

ودفعت الشركة أسعارًا منخفضة، لكن المزارعين لم يكن لديهم بديل آخر، واضطروا إلى بيع إنتاجهم بالكامل حصريًا إلى إدارة الأفيون، وتطلبت زراعة الخشخاش عمل حوالى ٥ إلى ٧ ملايين شخص إجمالًا. 

وكانت للإدارة وكالتان جغرافيتان، هما وكالة «بيناريس» فى الغرب، ووكالة «باتنا» فى الشرق، وكان يرأس كل وكالة مسئول بريطانى يعرف باسم «وكيل الأفيون»، وهو أحد المناصب الأعلى أجرًا والأكثر رواجًا داخل النظام الاستعمارى.

وأجبرت الشركة المزارعين على زراعة الأفيون فى الأراضى التى كان يزرع فيها الأرز سابقًا، وقد نصت إدارة الأفيون على عدم جواز زراعة أى شىء آخر على الأراضى المخصصة لهذا الغرض.

ومارس موظفو الإدارة ما وصفه الكاتب بـ«السلطات السيادية فى القرى التى تم نشرهم فيها: كان بإمكانهم كسر الأبواب ومداهمة المنازل واعتقال المزارعين حسب الرغبة تقريبًا».

وبهدف ردع المهربين، استأجرت شركة الهند الشرقية أعدادًا كبيرة من الجواسيس والمخبرين، وعرضت عليهم مكافآت مقابل التشهير بجيرانهم.

ولم يكن المجتمع الأوروبى غريبًا على هذا الاستغلال المنهجى للعمالة: فقد ولد «جورج أورويل» فى مزرعة للخشخاش فى الهند، حيث كان والده وكيلًا فرعيًا لوكيل الأفيون.

كان هذا التحويل واسع النطاق لحقول الأرز لزراعة الخشخاش، أحد المساهمين الرئيسيين فى المجاعة التى حدثت فى البنغال عام ١٧٧٠، والتى تسببت فى وفاة عشرة ملايين شخص.

وكانت لهذه التجارة آثار طويلة الأجل على سكان الهند، حيث عانت مناطق زراعة الخشخاش بشكل عام، ويؤكد جوش أن زراعة الأفيون أدت إلى إفقار المنطقة التى كانت قوة اقتصادية قبل وصول البريطانيين بشكل دائم، وانخفضت المعرفة بالقراءة والكتابة فى هذه المجتمعات، مقارنة بجيرانها.

وهو ما دفع منطقة ولاية «بيهار» الهندية، لأن تكون المقر الرئيسى لثورة الهند عام ١٨٥٧، والتى تعتبر من كبرى الثورات الهندية ضد حكم الشركة البريطانية التى كانت بمثابة سلطة ذات سيادة، نيابة عن التاج البريطانى.

حيث قام البريطانيون بنقل التجنيد للجيش والمشاريع التنموية الأخرى من هذه المنطقة إلى ولاية «البنجاب» الهندية، الأمر الذى أدى إلى تناقض حالى فى الوضع الاقتصادى بين شرق وغرب الهند واضح للغاية، ولا يمكن اعتباره عرضيًا.

أداة خبيثة

وحسب رؤية المؤلف، فإن الأفيون تحول إلى أداة رأسمالية خبيثة لتوليد الثروة للإمبراطورية البريطانية والقوى الغربية الأخرى، على حساب نشر وباء الإدمان فى الصين وإفقار الملايين من البشر، ومنهم المزارعون فى الهند. 

ولذا فإن إرث هذا «المشروع الإجرامى»، كما يقول الكاتب، ترك تأثيرات دائمة يتردد صداها عبر الثقافات والمجتمعات حتى اليوم، رغم أن الأفيون كان يستخدم دائمًا لأغراض ترفيهية عبر الثقافات، وفى عدة أجزاء مختلفة من العالم لعدة قرون.

ربما بدأت أولًا فى الأناضول، وانتشرت فى نهاية الألفية الأولى فى بلاد فارس وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، حيث كان يؤخذ على شكل معجون، ويخلط فى الحبوب أو الجرعات، ويستهلكه الحكام والنبلاء والأغنياء، لكن لم يتطور «الأفيون المدخن» المعالج «والأكثر فاعلية» إلا فى أوائل القرن الثامن عشر.

ولم ينتشر الاستخدام الترفيهى على نطاق واسع حتى القرن التاسع عشر، عندما تم تبسيط عملية زراعة الخشخاش والصقل الشاقة وتصنيعها، حيث يتطلب النبات كمية هائلة من الماء والعناية، وحتى عندما يتم حث الزهور الدقيقة على التفتح، فليس من السهل تحويلها إلى مادة قابلة للتدخين.

ويوضح جوش: فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان الأمر يستغرق ما يقرب من عام كامل، حتى يتم تحويل عصارة الخشخاش إلى أفيون صالح للاستخدام.

لكن القوى الغربية مثل البريطانيين والبرتغاليين والإسبان والهولنديين هم الذين اكتشفوا إمكاناته الكبيرة كوسيلة تجارية، وكان الحكام الاستعماريون خاصة البريطانيين، غالبًا ما يبررون أفعالهم بالقول إن السكان الآسيويين لديهم استعداد طبيعى لتعاطى المخدرات. 

والبداية كانت عندما أنشأ التجار والمستعمرون الهولنديون تجارة الأفيون فى جنوب شرق آسيا، حتى إن التاج الهولندى انضم إلى الأعمال غير القانونية فى عام ١٨١٥، وأسس العاهل الهولندى المتوج حديثًا، الأمير السابق «ويليم فريدريك»، مؤسسة تسمى «الشركة الملكية الهولندية للتجارة».

وباستخدام الرعاية الملكية، أصبحت هذه الشركة قوية بما يكفى لتتولى احتكار الأفيون، وكانت التجارة مربحة باستمرار وحققت مبالغ طائلة للعائلة المالكة.

يقول المؤلف: «لقد كان الهولنديون هم الذين قادوا الطريق فى ربط الأفيون بالاستعمار، وفى إنشاء أول دولة مخدرات إمبراطورية، تعتمد بشكل كبير على عائدات المخدرات». ويضيف: «لكن فى الهند تم تحسين نموذج دولة المخدرات الاستعمارية على يد البريطانيين».

ويشير الكاتب إلى أن ذلك ليس تاريخًا قديمًا، حيث لا يزال مصنع «جازيبور» فى الهند، الذى أسسه البريطانيون فى القرن الثامن عشر، ينتج العديد من المواد الأفيونية القانونية فى العالم اليوم، فهو «أكبر وأقدم مصنع للأفيون فى العالم»، كما يفتخر موقعه على الإنترنت.

وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، كانت تجارة الأفيون تدر حوالى خمسة ملايين جنيه إسترلينى سنويًا لبريطانيا، وفى الوقت نفسه، أصبح ما يصل إلى ٤٠ مليون صينى مدمنين على الأفيون. 

قواعد الإنكار

ويعتقد جوش أن الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى التى رعت صناعة الأفيون هى التى اخترعت فى الواقع قواعد اللعب لما نسميه الآن «الإنكار» أو «إلقاء اللوم على المستخدم، وإلقاء اللوم على الطلب». 

حيث برر التجار الغربيون سلوكهم باللجوء إلى أيديولوجية السوق الحرة التى حظيت بشعبية كبيرة، وأصروا على أن العرض يطارد الطلب دائمًا؛ وإذا كانوا يصنعون ويبيعون كميات هائلة من الأفيون، فذلك فقط لأن الصينيين كان لديهم ضعف موجود تجاهه، وهى تهمة ذات طابع عنصرى بالطبع.

ويضيف: لقد اخترعوا كل هذه القواعد التى تبنتها شركات صناعة التبغ والطاقة فيما بعد، فهناك خط واضح ومباشر، وهو سلوك مفترس تكرر من قبل الشركات الحديثة الأخرى، مثل «بوردو فارما» الأمريكية، المسئولة عن إدمان «الأوكسيكونتين» المشتق من الأفيون.

حيث لعبت دورًا فى إضعاف المؤسسات الطبية الأمريكية، وتجنيد الأطباء فى حملات التوزيع الخاصة بهم؛ ونجحت فى اختيار المشرعين على مستوى الولاية والمستوى الوطنى؛ ثم تمكنت الإدارة العليا للشركة من الإفلات من الأحكام المخففة، وهو ما يشير إلى وجود فساد على نطاق واسع.

ويعلق: إن ما حدث للصين فى القرن التاسع عشر، يصيب الآن العالم الغربى، خاصة الولايات المتحدة التى يجتاحها وباء المواد الأفيونية، حيث يقال إن فى عام ٢٠١٩، هناك حوالى ٣٠ مليون أمريكى مدمنون على تلك المواد.

ويصل حجم الخسائر الاقتصادية لأزمة الإدمان على المواد الأفيونية فى أمريكا إلى ما يقرب من ١.٥ تريليون دولار فى عام ٢٠٢٠، وتوفى ١٠٧ آلاف شخص بسبب جرعات زائدة من المخدرات فى عام ٢٠٢١، حوالى ٧٥٪ منها ذات صلة بالمواد الأفيونية.

كما أن العصابات العسكرية التى احتكرت شمال المكسيك- وحتى العنف المدنى الحالى فى ولاية «مانيبور» الهندية، جميعها لها جذور يمكن إرجاعها إلى تجارة الأفيون فى القرن التاسع عشر.

ويشير المؤلف إلى أن من خلال قراءة التاريخ، يتضح لنا كيف أننا نتجاهل بشكل متكرر وقاتل عجزنا فى مواجهة منتجات الخشخاش، حيث أصبح الاعتماد على المورفين يعرف باسم «المورفينية».

وسرعان ما توصلت شركة الأدوية الألمانية «باير» إلى علاج تم وصفه على أنه غير مسبب للإدمان، على الرغم من أنه كان أيضًا من المواد الأفيونية، ولم يكن هذا سوى «هيروين»، الذى اشتق اسمه من الكلمة الألمانية التى تعنى «بطولى».

قدرة فريدة

ويرجع الكاتب قوة الأفيون إلى أنه يتمتع بقدرة فريدة على تخفيف الألم، وعلاقته المطلقة مع الناس، وهى الطريقة التى يدخل بها نفسه فى المجتمعات، ولذا فالمواد الأفيونية «المخدرات» ستتغلب علينا دائمًا، لأنها جيدة للغاية فى التلاعب بنقاط الضعف البشرى الأكثر وضوحًا، وهما الجشع والإدمان.

ويصف جوش الأفيون بأنه «قوة تاريخية جبارة فى حد ذاته»، حيث تطور ليجعل الإنسان يستسلم، ويجعل الإمبراطوريات تكدح لتحريكه حول العالم، ليكتب فى جملة موجزة فى نهاية الكتاب: «إن نبات الخشخاش، بعد أن كان قوة رئيسية فى صنع الحداثة، سيكون أيضًا فعالًا فى تفكيكها، وهو الدور الذى سيتقاسمه مع الوقود الأحفورى».

ويرى المؤلف أن البريطانيين والأمريكيين أطلقوا شرًا لم يتمكنوا من كبح جماحه، بعد أن اعتقدوا أنهم قادرون على إبقاء الأفيون خارج بلادهم، ولكن لم يفهموا أنهم كانوا يتعاونون ليس فقط مع المجرمين من البشر، ولكن أيضًا مع كيانات غير بشرية، تعمل على نطاق زمنى مختلف تمامًا.

ومع ذلك، يحرص الكاتب على التأكيد أن رؤيته للمستقبل ليست كلها كئيبة، فهو يذكرنا بأنه على مر التاريخ، حتى فى أحلك الأوقات، اتحدت البشرية معًا لإحداث تغيير مذهل نحو الأفضل. 

ويقول: «فى أواخر القرن التاسع عشر، اجتمعت حركة ضخمة مناهضة للأفيون على المستوى الدولى، وتمكنت من فرض قيود معينة على هذه الإمبراطوريات الأوروبية الضخمة، والتى كانت فى الواقع أقوى من شركات الطاقة اليوم». 

ويضيف: «أعتقد أنه يمكننا الحصول على بعض الأمل من ذلك. هذا هو فى النهاية ما يعنيه كونك إنسانًا، وهو أن تدرك أن عليك واجب الاستمرار فى المحاولة».