الثلاثاء 14 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العالم العربى يكتب.. ومصر تنشر

حرف

قيل قديمًا «القاهرة تؤلف، بيروت تطبع، بغداد تقرأ». جملة تعود إلى ستينيات القرن الماضى وتعكس نظرية المركز والهامش فى الثقافة العربية، تلك النظرية التى تقادمت وتداعت ولم تعد صالحة للتطبيق على الواقع.

وعلى الرغم من تقادم تلك المقولة، فالكتّاب الجيدون متواجدون فى كل البلدان العربية، وبيروت ما زالت تطبع إلا أنها تئن تحت وطأة حرب وحشية شنتها إسرائيل على لبنان، وأما القراء، فقد بات بوسع الإنسان المصرى والعربى أن يقرأ أى كتاب طالما يمتلك جهازًا متصلًا بالإنترنت.

فى غمرة هذه التغيرات، ما زالت القاهرة مصرة على التشبث بموقعها كعاصمة أولى للثقافة العربية. يتضح ذلك، مع رصد إقبال الروائيين والكتّاب العرب، على نشر إبداعاتهم فى دور نشر مصرية، تشكّل عنصر جذب لكل المؤلفين باللغة العربية.

كتّاب من الجزائر، اليمن، الكويت، السودان، سوريا.. وغيرها من البلدان العربية، اختاروا القاهرة، ودور النشر المصرية، لتكون الشرفة التى سيطلّون منها بأعمالهم الجديدة، سواء كانت فى مجال الرواية أو القصة القصيرة.

ملحق «حرف» يستطلع فى هذه المساحة، أفكار نخبة من الكتّاب العرب، حول اختيارهم القاهرة ودور النشر المصرية لنشر مؤلفاتهم.

هوشنك أوسي

السورى هوشنك أوسى:العاصمة الدائمة للثقافة العربيّة

«يمكن لأى عاصمة فى العالم العربى أن تكون عاصمة للثقافة العربيّة لعام واحد، لكن القاهرة تبقى العاصمة شبه الدائمة لهذه الثقافة. هذا السّلوك الأصيل فى مصر، ربّما تعود بداياته لفترات الخلاف بين مصر المحكومة من أسرة محمد على باشا والسلطنة العثمانيّة. ذلك أنّ لجوء المفكّر السورى عبدالرحمن الكواكبى إلى مصر لم يكن له أن يتمّ لولا هامش الحريّة الموجود وقتذاك فى القاهرة. وكذا حال الكرد المقموعين والمضطهدين والملاحقين من نظام السلطان عبدالحميد، ولجوء مقداد مدحت بدرخان باشا إلى القاهرة وأطلق من هناك جريدة «كردستان» فى شهر أبريل ١٨٩٨. وقد يقول قائل: إنّ الأمر يعود إلى أبعد من ذلك، وتحديدًا عقب انتقال مركز العلوم والترجمة والنهضة من بغداد (بيت الحكمة) إلى القاهرة (دار الحكمة) إبان الغزو المغولى وتدمير بيت الحكمة، وتأسيس الفاطميين لدار الحكمة».

المقصد: الطبقات التاريخيّة، الحضاريّة والثقافيّة، التى تعاقبت على حكم مصر؛ الفراعنة، البطالمة، العرب (الخلافة الراشدة، الأمويّة، العبّاسيّة، والفاطميّة...)، الكرد (الأيوبيون)، المماليك، فالترك العثمانيون، ثمّ أسرة محمد على باشا، معطوفًا على ما سبق، دَور ووزن وأهميّة وتأثير جناحى مصر، وأعنى الديانتين المسيحيَّة والإسلام، ومرجعيتهما؛ الأزهر والكنيسة الأرثوذكسيّة القبطيَّة.

كلّ ذلك أكسب مصر زخمًا حضاريًا وثقافيًا مهولًا لا ينضب. وعليه، مصر الموسيقى، المسرح، الرواية، السينما، الدراما التليفزيونيّة...، الصحافة والنشر، كانت حلمًا لكلّ فنان أو كاتب يودُّ التحققَ والانتشار. ناهيكم عن أسباب أخرى، تجعل الكاتب يضع القاهرة ودُور نشرها نصب عينيه، إذا أراد لنصوصه الشيوع فى العالم العربى، منها: معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى يعتبر ثانى أكبر معرض فى العالم بعد معرض فرانكفورت فى ألمانيا. وأيضًا الموقع الجغرافى الذى يجعل من القاهرة قلب العالم العربى، وبالتالى سهولة مشاركة دُور النشر المصريّة فى معارض دول الخليج والدول المغاربيّة. يُضاف إلى ذلك انخفاض تكاليف النشر فى مصر، قياسًا بلبنان ومنطقة الخليج. حتّى أنّ دور النشر العربيّة، ذات الترخيص الأوروبى، تطبع كتبها فى القاهرة.

شخصيًا تعاملت مع دارى نشر مصريتين هما: «مؤسسة بتّانة» ودار «إضاءات» وأنا راضٍ تمامًا عن تعاملهما، وتجمعنا الثقة المتبادلة والودّ والاحترام المتبادل. ممّا لا شكَّ فيه، لا يخلو الأمر من بعض الهفوات التقنيّة التى تظهر أحيانًا حتّى فى عمل أعرق دور النشر العالميّة، أثناء زحمة العمل. كما أحرصُ على حضور معرض الكتاب فى القاهرة، سواء أكنتُ مدعوًا بشكلٍ رسمى أو لم أكن. وأن يصدر لى كتاب فى القاهرة كل عام. ومن المفترض أن يصدر لى ديوان شعر عن سلسلة «إبداعات عربيّة» التابعة للهيئة المصريّة للكتاب، هذه السلسلة التى يشرف عليها حاليًا الشّاعر والرّوائى المصرى على عطا.

مصر مُلهمة، يجرى فيها نيلان: نيلُ الثقافة، الأدب، الفن، السينما، النقد، الفكر، الشعر والترجمة... بالتوازى مع نيل مصر العظيم. وهذا يكفى ويزيد لأنّ تكون دور النشر المصريّة محطّ أنظار واهتمام وأحلام أى كاتبٍ طموح، بل أى كاتب مُحققٍ ومشهورٍ أيضًا.

سفراءُ مصر إلى العالم العربى كُثر، فى طليعتهم دورُ النَّشر المصريّة. وهذه مسئوليّة جسيمة ملقاة على عاتق وكاهل هذه المؤسسات، تملى عليها المزيد من العمل لمضاعفة الثقة بها، لما فى ذلك من زيادة من مخزون المحبّة التى تتمتّع بها مصر والمصريون.

أحمد طيباوي

الجزائرى أحمد طيباوى: التعميد فى القاهرة

«إذا تجردنا من الشوفينية، فيمكننى القول إن القاهرة عاصمة ثقافية للعرب، وأنا أتحدث هنا مقارنة بعدد الفعاليات الثقافية وتناوبها، وبالتالى يظل إقبال الكتاب العرب على النشر فى القاهرة مبررًا ومعقولًا، وما من مثقف عربى تقريبًا إلا وتم تعميده فى القاهرة».

«فى مصر صناعة نشر كبيرة وراسخة ومستقرة، تتيح للكتّاب التوزيع وإيصال كتبهم إلى أماكن بعيدة، وهذا بلا شك أمر يدفع الكتّاب العرب للتعاقد مع دور نشر مصرية، تتمتع بحرفية عالية. كما توجد شبكة مكتبات ومراكز ثقافية كثيرة فى القاهرة». «كانت لى تجارب نشر سابقة، لكن فى حالتى فقد حدث التحول بعدما فزت بجائزة نجيب محفوظ الممنوحة من الجامعة الأمريكية فى القاهرة عن رواية (اختفاء السيد لا أحد)، رغبة فى أن تكونى نصوص القادمة صادرة من مصر، حيث أتعاون حاليًا مع دار الشروق، والآن كل شىء يسير على ما يرام فكتبى باتت متوفرة فى مصر وفى باقى بلداننا العربية». 

عبدالوهاب الحمادي

الكويتى عبدالوهاب الحمادى: استمرارية مهما كانت الظروف

منذ البداية عندما بدأت فى الكتابة كانت فكرة النشر خارج نطاق الخليج أساسية لضمان وصول ما أنشره لأرجاء العالم العربى والوصول لأرفف مكتباتها. ولأن سوق النشر حافلة بالتغيرات جاءت لحظة فكرت فيها بالتعاون مع دار نشر مصرية عريقة هى دار الشروق. لأسباب عدة منها؛ خبرة الدار المعروفة الممتدة عبر عقود، وسمعتها فى توزيع المنشورات على مكتبات العالم العربى من شرقه إلى غربه، والحضور الأساسى فى معارض الكتاب من المحيط إلى الخليج، والاسم الذى يعتبره كثير من القراء علامة جودة. والأهم أنها فى مدينة القاهرة؛ المركز الثقافى الأكبر وكثافة القراء الأعلى، هل ننسى توافد الأدباء على القاهرة منذ مطلع القرن العشرين؟ لقد عرفت هذه المدينة استمرارية ثقافية مهما كانت الظروف، وحتى اليوم تتوهج الأمسيات القاهرية الثقافية المكثفة والمتزايدة، إذ يكون فى اليوم الواحد عدد كثيف من الفعاليات من مناقشات لكتب وحفلات موسيقية وعروض فنية والمعارض التشكيلية حتى يحتار المرء أيها يحضر! وكل ذلك ينتج عنه تواجد شبه دائم للمثقفين والكتاب العرب. وأثر ذلك كبير على قراءة الأعمال وتناولها النقدى فى الدوريات المصرية والعربية المعنية فى الأدب وانتشارها. كل تلك أمور تجعل من القاهرة عنصر جذب للكاتب العربى، الذى يبحث ببساطة عن التوزيع الجيد والقارئ المثقف.

عرفات مصلح

اليمنى عرفات مصلح: الاختيار المثالى

«بالنسبة لى، ككاتب يمنى، اخترت النشر فى القاهرة لعدة اعتبارات: أولًا، أرى أن القاهرة لا تزال واحدة من أكثر العواصم العربية جذبًا للكُتّاب، حيث توفر مساحة واسعة للتواصل مع القراء والتفاعل مع المثقفين. على سبيل المثال، يُعد معرض القاهرة الدولى للكتاب حدثًا محوريًا يجمع جمهورًا كبيرًا ومتنوعًا من القراء. كما أن دور النشر المصرية تمتلك حضورًا قويًا يتجاوز حدود مصر، إذ تُشارك بفعالية فى معارض الكتب العربية، ما يُتيح للكتاب فرصة الوصول إلى جمهور واسع فى الخليج، المغرب العربى، وبلاد الشام. هذه الديناميكية تمنح الكاتب مساحة للتواصل مع شريحة أوسع من القراء العرب».

«ثانيًا، الوضع الثقافى فى اليمن منذ اندلاع الحرب عام ٢٠١٥ لعب دورًا كبيرًا فى تحديد خيارات الكُتّاب اليمنيين. فقد أدى النزاع إلى تجميد النشاط الثقافى ومحاصرته إلى حد كبير، ما دفع أغلب دور النشر اليمنية إلى الانتقال للعمل خارج اليمن. ورغم تنوع الخيارات وصعود دور نشر فى الخليج أو بلدان أخرى، تبقى مصر الأكثر جذبًا. لهذا السبب، أصبحت القاهرة مركزًا للندوات والإصدارات الثقافية اليمنية، بديلًا عن صنعاء التى نأمل فى أن تستعيد حيويتها الثقافية فى المستقبل عندما يعود الاستقرار إلى اليمن. ورغم وجود دور نشر يمنية نشطة، إلا أن عدم الاستقرار السياسى يجعل مشاركتها فى الساحة الثقافية العربية محفوفة بالتحديات، وأحيانًا تُمنع من المشاركة فى معارض معينة بسبب الجنسية، للأسف». أخيرًا، هناك بُعد شخصى لا يمكن إغفاله. لدىّ شبكة واسعة من الأصدقاء والمثقفين المصريين الذين أسهموا فى توجيهى نحو دور نشر معينة، بل إن بعضهم تواصل معى لترشيح دور نشر بعينها بعد الاطلاع على مسودات كتاباتى. هذه العلاقات الشخصية لعبت دورًا مهمًا فى تسهيل عملية النشر فى القاهرة وتعزيز تجربتى الثقافية فيها. باختصار، القاهرة بالنسبة لى ليست مجرد عاصمة للنشر، بل هى مساحة ثقافية غنية تجمع بين الإرث الثقافى، الحضور العربى، والدعم الشخصى، ما يجعلها خيارًا مثاليًا لكل كاتب يسعى للوصول إلى جمهور عربى واسع.

عبدالرحمن عباس

السودانى عبدالرحمن عباس: المركز الثقافى للعالم العربى

فى الواقع، ورغم أنّ صناعة النشر فى العالم العربى تنحسر، يمكننا أن نقول إن مصر ما زالت بخير، لدرجةٍ ما؛ ما زالت مطابع الكتب تعمل رافدةً مكتبات العالم العربى، وما زالت المكتبات فى وسط البلد ملأى بالكتب. ثقافيًا، ورغم كلّ ما يحدث، فإنّ مصر هى الأقدم والأكبر. بالنسبة لى، ككاتبٍ حديث التجربة، سأُفضِّل طبعًا أن تنشر كتبى فى القاهرة. القاهرة هى المركز الثقافى للعالم العربى لسنواتٍ وسنوات، ولا مثيل لها فى المنطقة، والتنوّع الكبير فى دور النشر والمكتبات يشهد على ذلك، كما أنّها جمعت الكثير من كبار الكُتّاب فى أزمانٍ مختلفة.

أما بالنسبة لسؤال «هل القاهرة ما زالت مغرية للكاتب لينشر فيها؟»، أعتقد أنّها ما زالت، وبكل تأكيد. تبقى القاهرة بمثابة العاصمة الأدبية للمنطقة، توجد العديد من دور النشر الكبيرة والمشهورة التى تنشر لأفضل كتّاب العالم العربى. كما أنّ شريحة القُرّاء أكبر فيها من غيرها، ورغم انحسار فعل القراءة فى العالم العربى، إلّا أنّنا نجد أنّ فى القاهرة جمهورًا كبيرًا مهتمًا بالثقافة والأدب. كما أنّ وسائل الإعلام المحليّة «المقروءة منها والمرئية» تهتمّ- إلى حدٍّ ما- بكلّ جديدٍ فى عالم النشر والكتابة. إذًا، هى بيئةٌ خصبة للمواهب الجديدة. فى حالتى، اخترتُ دار روافد للنشر والتوزيع، استنادًا على تجربة أحد الأصدقاء، وبعد اطلاعى على تنوّع إصداراتها.

أمّا عن دور النشر فى لبنان، فهى دورٌ كبيرة ومهمّة بالطبع، وتجذب الكثير من الكُتّاب، ولها تاريخها فى عالم النشر. وكذلك الأمر بالنسبة لدور النشر العربية فى أوروبا. لكنّ اختيارى للقاهرة لاعتقادى أنّ النشر بها أسهل، والجمهور المستهدف أكبر، وشبكة التوزيع بها أكبر، الأمر الذى يعزّز وصول الكتاب إلى العديد من القُرّاء، وهو ما أرجوه طبعًا. لكن هذا لا يعنى أنّ الدور المذكورة فى لبنان وأوروبا مغفول عنها، فهى دور كبيرة ولها إسهاماتها المتميّزة، ربما يكون ثمّة تعاونٌ فى المستقبل. وأودّ التأكيد على أنّ اختيارى للقاهرة مصدره احترامى العميق لتاريخها وأثرها الأدبى الكبير، ودورها الجوهرى فى الحراك الثقافى العربى، ويسعدنى أن أكون جزءًا من هذه البيئة الأدبية الزاخرة.