الأربعاء 22 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«32 ديسمبر».. ننفرد بفصول من رواية إبراهيم عبدالمجيد الجديدة

حرف

- سائقو أوبر ليسوا سائقين عاديين بل هم أصحاب سيارات ضاقت عليهم المعيشة
- صارت حياته فى البيت انتفاضة لفتح الباب، وفى الشارع نظر لا ينتهى فى وجوه النساء

يشارك الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، فى الدورة المقبلة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، بأحدث رواياته الأدبية بعنوان «32 ديسمبر».
وتصدر الرواية عن دار «منشورات المتوسط»، لتنضم لقائمة أعمال كاتبنا الكبير التى تضم 25 رواية و6 مجموعات قصصية و15 كتابًا مختلفًا.


«أُضحكك يا دارين». هذا ما جرى لى مع السائق بعد أن ركبت سيارة أوبر إلى البيت. ليست هذه المرة الأولى طبعًا التى يتحدث فيها السائق معى. الآن كل من يركب تاكسى أو «أوبر» أو «كريم» أو غيرها من شركات النقل والتوصيل، يحكى على السوشيال ميديا ما قاله السائقون. حديث مكرر نعيشه كلنا ولا أحب أن أكتب فيه. ليس لقرارى الذى يشبه قرارك وقرار روان بالبعد عن السياسة التى صارت لا تأتى بفائدة، لكن لأن رأيى أن السوشيال ميديا يجب أن تبتعد عن الأشياء الصغيرة فى الحياة. يمكن أن أكتب عن سائق ابتعد بى بالسيارة وتركنى فى الصحراء، أو سائق حاول الاعتداء علىَّ وأطلب البحث عنه، لكن سائقًا يتحدث معك عن غلاء الأسعار كأنك لا تعرف، أمر لا يهم أحدًا. التفاهات تملأ فراغ السوشيال ميديا، وهناك من يتعمدون نشر التفاهات، وللأسف يجدون من يعلقون عليها ولو بالشتائم، فتكون «ترند» كما أراد أصحابها. أنتِ تعرفين هذا كله ولستِ فى حاجة لأن أقوله لكِ. لقد تحدثنا فيه كثيرًا من قبل. لكن هذا السائق تحدث معى فى أمور سياسية أكثر من غيره، وأنا صامتة لا أعلق خوفًا من أن يكون مخبرًا مدسوسًا بين السائقين. سألته وسط الحديث من أين لك بمعرفة هذا كله، ولماذا تتصور أن هذا الكلام يعجبنى؟ فقال لى إنه ليس شخصًا عاديًا، فسائقو أوبر ليسوا سائقين عاديين، بل هم أصحاب سيارات ضاقت عليهم المعيشة، وهو متعلم وسبق له أن شارك فى ثورة يناير، وكان من رواد ميدان التحرير فى كل وقت. توقعت أن يكون من بين من كانوا معنا حين أخذونا إلى المتحف المصرى، قبل أن يفصلونا عنهم ويأخذونا إلى معسكر الهايكستب. طبعًا لم أسأله ولم أخبره لأنى أبحث دائمًا عن النسيان. لكنه قال لى إنه لم يتعرض لأى أذى سياسى. فقط أصيب برصاصة من فوق مبنى مجلس الوزراء فى ساقه، وأنه بعد العلاج منها صار يعرج. نسى الرصاصة، لكن العرج يذكره بكل شىء. ظللت صامتة لا أعلق إلا بكلمات من نوع ربنا كريم.. الحمد لله.. لكننى لا أعرف لماذا، صرت مشتاقة لسماع كلامه أكثر، ربما لأمدك بمادة للرواية. فجأة هدأ من سرعة السيارة، ثم توقف قائلًا لى لا تقلقى سأعود. نزل من السيارة وصار يسرع وهو الأعرج أمامى فى الطريق، حتى وصل إلى سيدة فى حوالى الأربعين من العمر، وأمسك بذراعها. تصورت أنه يعرفها. وجدتها تصرخ فيه ولم أسمع كلامها، وتحاول أن تضربه على وجهه وهو يمد ذراعيه يعتذر لها كما بدا لى. تجمع حوله أكثر من شخص وامرأة، وراحت السيدة تكلمهم بسخط أراه على وجهها، وهو يمد ذراعيه ضامًا كفيه أمامها يعتذر عن شىء لا أعرفه، حتى أبعد الرجال المرأة التى بصقت على وجهه ومشت. عاد هو إلى السيارة ودخل وسحب منديلًا كلينيكس من علبة المناديل أمامه. راح يجفف دموعه. هل تريدين أن تعرفى الحكاية؟ هل أكمل؟ سأكمل. 
جفف دموعه وبدا لى يقاوم دموعًا أخرى، ثم قال: «آسف لن أستطيع الاستمرار معك. لن أتقاضى منك أى نقود. يمكن لكِ أن تبحثى عن تاكسى أو تطلبى من خدمة أوبر سيارة أخرى. آسف جدا يا سيدتى». حين قال سيدتى أدركت كم هو مهذب، فأنا أقل منه فى العمر ربما بخمس سنوات. لكننى قلت له: «أكمل بى فلن أركب مع غيرك، وسأستضيفك فى منزلى تقابل زوجى ربما تتصاحبان. المهم قل لى ماذا حدث بالضبط لتبكى هكذا. هل تعرف هذه المرأة؟». 


قال لى وهو يمسح دموعه إن زوجته للأسف توفيت منذ خمس سنوات بالمرض اللعين، السرطان الذى ظهر فجأة فى مرحلة متقدمة. تركت له فتاتين صغيرتين فانتقلت أمه الأرملة لتعيش معه وترعى الفتاتين، لكنه منذ عام يرى كل النساء يشبهن زوجته. لا يستطيع أن يتوقف عن النظر فى وجوه النساء ليرى زوجته. لقد أوقف نفسه أكثر من مرة عن الإمساك بالنساء التى يراهن فى الشوارع، لينظر فى وجوههن ويأخذهن فى أحضانه، لأنه يعرف أن هذا سينتهى بكارثة، فإن لم يضربه الناس سيأخذونه إلى قسم البوليس وستتم له قضية تحرش. هذه المرة خانته قدرته. المرأة التى ترك السيارة ليمسكها من ذراعها كانت هى زوجته، وهو يدرك ذلك. يسمع كثيرًا عن موتى لم تعد لهم مقابر، ورغم أن المقبرة التى بها زوجته لم يتم هدمها بعد، لكنه يتخيل أنهم سيهدمونها وستخرج منها تأتى إلى البيت. فى البيت كل دقائق ينهض يفتح باب الشقة لأنه يسمع دقات الجرس، فيتخيل أنها زوجته ولا يجد أحدًا. صارت أمه فى قلق كبير عليه. وصارت بنته التى فى السابعة من عمرها تسأله «هو ليه كل شوية تقوم يا بابا تفتح الباب مع أن مافيش حد بيدق الجرس!». صارت حياته فى البيت انتفاضة لفتح الباب، وفى الشارع نظر لا ينتهى فى وجوه النساء، والمرأة التى ترك السيارة ولحق بها كانت ترتدى الملابس نفسها التى كانت تحبها زوجته. قال لى وهو يمسح دموعه إنها تشبهها فى كل شىء، وحين أمسك بذراعها أحس له ملمس ذراع زوجته نفسه، وحين نظر فى عينيها وجدهما هما هما العينين الخضراوين اللتان تحيط خضرتهما دائرة عسلية، وأن لها نفس شفتى زوجته التى كان يقول لها إن شفتيها تشبهان شفتى الممثلة المصرية إلهام شاهين. لكنها حين تحدثت لم تكن هى. هنا يا دارين أحسست بالقلق. خشيت أن يتحدث معى عن علاقته الجنسية بزوجته. فكرت أن أتراجع عن دعوتى له ليدخل معى إلى البيت يتعرف على أحمد زوجى. وهى الفكرة التى راودتنى لأخبرك بما قد يفيدك فى كتابة الرواية. فكرت فى ترك السيارة فعلًا. كنا نقترب من التجمع الخامس بعد أن تركتك. فكرت لماذا حقًا لم يأخذ طريقًا بعيدًا عن وسط المدينة. لماذا لم يأخذ طريق الأوتوستراد ويعبر المعادى فى طريقه إلى التجمع الخامس. لماذا أخذ الطريق الدائرى إلى ميدان المهندسين، ثم دخل وسط البلد ليمر فى النفق الموجود بالعتبة يخرج منه إلى شارع صلاح سالم، ثم يأخذ طريقه إلى التجمع الخامس. هل لينظر فى وجوه النساء فى الطرق المزدحمة بوسط القاهرة بحثًا عن زوجته؟ ازداد خوفى وشعرت به سيتجاوز منطقة التجمع الخامس إلى صحراء بها معسكر للأمن المركزى يتركنى فيه. هذا ما استبد بروحى وشعرت بالخوف الشديد. هل سيذهب بى إلى منطقة العبور فى الطريق إلى الإسماعيلية حيث معسكر الهايكستب مرة أخرى؟ منك لله يا دارين ذكرتينا بما نسينا فصار يستبد بروحى. قلت له أنزلنى هنا هذا هو البيت. نظر إلىَّ مستغربًا فقلت له: «لا تقلق، اللوكيشن الذى أرسلته لكم عن البيت هو بيت خالتى، كنت أريد رؤيتها وغيرت رأيى». سألته عن تكلفة الرحلة فكانت مائة وثمانين جنيهًا. دفعت له مائتين قائلة له خلى الباقى علشانك وأسرعت مبتعدة. 
أفكر الآن وأنا أرسل إليكِ هذه الرسالة على الميل، هل ستصلح فى روايتك؟ أنتِ حرة . لكننى قررت أن أساعدك وأكتب إليك رسائل بما يحدث لى هذه الأيام، لا أيام الثورة. «المهم ألا يذكِّرنى شىء بما جرى لنا»..

حاولت دارين النوم لكن والدها جاء من الخارج. خرجت إليه تساعده فى أى شىء يريده. قال لها إنه سيدخل غرفته لينام. وقفت تفكر بأن حمدى فعل ذلك حين دخل بيته ثم طلب منها الزواج، فهل تكون هناك نية عند أبيها أن يتزوج امرأة تعينه فى هذه السن حتى يترك لها فرصة الحياة. من يمكن أن تتزوج أباها الذى يقترب من السبعين الآن؟ ليس أمامها إلا أن تعتبر هذا كله روافد للرواية وتجلس تكتبه. 
ما إن جلست أمام اللاب توب وفتحت الإيميل، حتى وجدت إيميلًا لها ولسلافة من روان:
To: Dareen [email protected]
[email protected]
from: [email protected]
«كما قلت لكما. أنا كل جديد سأقوله لكما حتى تنتهى الرواية. سوّاق الأوبر اليوم كان لطيفًا جدًا، لكن خوفنى شوية. قال لى إنه يحلم كثيرًا هذه الأيام أحلامًا غريبة. كلها عبارة عن أحد يوقظه من النوم، وحين ينهض لا يجد أحدًا فينام مرة ثانية، لكن بعد قليل ينهض من جوار زوجته ويجلس فى الصالة وحده. أحست زوجته مرة بأنه نهض من جوارها فخرجت لتجده فى الصالة. سألته «فيه حاجة؟ أنت قمت ليه؟» طبعًا قال لها لا شىء، وسأدخل أنام. دخل ونام لكن رجع من يوقظه من جديد. الآن مشكلته أنه بسبب قلة النوم، خائف يكبس عليه النوم وهو يقود السيارة. قلت يا ربى هل كشفوا على عذريته ولا إيه! وبعدها تذكرت أن من يزوره فى الحلم ويوقظه، لا ينزع عنه ملابسه. لكننى خفت فعلًا أن ينام ويتسبب فى حادثة، فقلت لنفسى أتحدث معاه كثيرًا حتى لا ينام. لحظات أفكر فيما أسأله. خفت أسأله فى السياسة والانتخابات يوقف السيارة ويُنزلنى. ممكن فعلًا مايكونش ليه فى السياسة. خفت أسأله فى الأسعار والأكل والشرب يسكت. بعد قليل وجدته يسألنى هل حضرتك ركبتِ معى من قبل؟ أعجبتنى كلمة حضرتك جدًا لأنه فى عمر بابا. يعنى فوق الخمسين. قلت له: «أنا مش فاكرة. أنا ركبت مع ناس كثير. لكن أنا لو ركبت معك ممكن أفتكر حضرتك». المهم وجدته يقول لى: «تصورى يا مدموازيل». ثم سكت وسألنى: «معلش مدموازيل ولا مدام؟» قلت له: «اللى يعجبك» وضحكت. قال لى: «خلاص مدموازيل حلوة». ابتسم وقال لى «تصورى أنا نفسى راحت لأكل الكوارع، سألنا الجزار بالتليفون، قال لى الكورع بمائتين وخمسين جنيه. الكوارع اللى هى أكلة الفقير بقت نار». سكتُ فاستمر يقول «دا لو الكورع بيمشى فى الشارع مش حيكون بالسعر دا». بصراحة أضحكنى. وتخيلت أن من يطلب كورعًا من جزار يمكن أن يرسله الجزار له ماشيًا بنفسه. الكورع يعنى. ثم ويا للعجب تخيلت أن الكوارع ملأت الشوارع مشيًا والناس جاءها رعب. قلت فى نفسى يا سلام لو الكورع وهو ماشى يطلع له كورع تانى يمشى جنبه، وبعدين يبقوا فخاذ، ويطلع لهم جسم من فوق يبقوا رجالة ونسوان. هههه، ضحكت وأسألكم ما الأفضل، الكوارع تصير «رجال ولا نسوان»؟ والآن أضحك وأسألكم هو أنا كدا أنفع أكتب رواية مثل دارين؟
يخرب بيت عقلى وخيالى. نسيت أكتب لكم حاجة من شعر عادل. ياله خليها المرة القادمة.