المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

يسارى وإسلامى.. رسائل بهجت النادى عن علاقته الخاصة بـ «خالد محمد خالد»

الثنائي محمود حسين
الثنائي محمود حسين

من بين الأوراق التى يكشفها سمير غريب فى كتابه «محمود حسين كما عرفته» تلك الرسائل التى استقبلها من بهجت النادى عبر بريده الإلكترونى والتى يحكى فيها بهجت عن علاقته التى بدأت مع الكاتب الكبير خالد محمد خالد بصدقة واستمرت بينهما بقدر. 

الأوراق التى أقصدها عبارة عن ثلاث رسائل ترسم ملامح علاقة جمعت بين كاتب إسلامى وطالب شيوعى، ولم يمنعهما ذلك من أن يستكملا مشوارًا طويلًا اختلفا فيه كثيرًا، لكنهما لم يفترقا أبدًا. 

الرسالة الأولى كانت فى ٢٩ ديسمبر ٢٠١٩، ويقول فيها بهجت: 

العزيز سمير.. بعد التحية والأشواق والذى منه، أثار الحديث معك عن خالد محمد خالد، الغائب الحاضر الذى أهدينا له كتاب «نزول القرآن»، ذكريات لم تمحها السنون الطويلة التى مرت عليها والتى تزيد على ستين عامًا، وهآنذا أستجيب لرغبتك وأروى لك بعضها. 

رفعت يدى اليمنى إلى السماء وأنا أسرع الخطى «أواخر ١٩٥٢ أو أوائل ١٩٥٣»، كنت قد تلقيت بعض الرذاذ على وجهى فأردت أن أتأكد من أن السماء تنوى العكننة، وأن تلك القطرات ليست إلا بداية قد يتلوها ما لا يقل عنها شدة. 

كنت ساعتها أعبر كوبرى قصر النيل عائدًا من جريدة «الجمهور المصرى» فى ميدان التحرير إلى منزلنا فى الدقى، كان الكوبرى يكاد يكون خاليًا من المارة إذ كنا فى نهاية المساء وفى يوم من أيام الشتاء، وكنت غارقًا فى أفكارى سعيدًا بما حققته فى يومى، إذ كنت قد ترجمت قصة سوفيتية قصيرة وأرسلتها إلى جريدة «الجمهور المصرى» فخصصت لها صفحة كاملة، وكتبت اسمى بحروف لا تقل أهمية عن تلك التى خصت بها اسم المؤلف، إلا أنه خيل إلىَّ أننى سمعت صوتًا يقول: يبدو أنها ستمطر.

التفت أنظر إلى مصدر الصوت، رأيت رجلًا لا تقل سنه عن ضعف سنى، توحى هيئته بأنه من موظفى الدولة، إذ كان يرتدى بدلة تزينها كرافتة، وبدا أنه مثلى يسرع الخطى.

أشار الرجل إلى الجريدة المطوية فى يدى وقال: لماذا لا تحتمى بهذه الجريدة؟ 

كدت أضحك إذ بدا الاقتراح غريبًا.. أن أدفع بالجريدة وباسمى إلى عرين المطر!

هززت رأسى قائلًا: لا أستطيع. 

رد: ولم؟ ألم تقرأها بعد؟ 

أجبت: أرغب فى الاحتفاظ بها ففيها اسمى.

شرحت له الأمر بشىء من الفخر وبكثير من الحرج، إذ لم يكن من عادتى أن أفخر وبخاصة مع شخص ألقاه لأول مرة، إن كان من الممكن أن نسمى ما يحدث لقاء... قال:

- جميل، أصحفى أنت؟

- لا، أنا طالب فى التوجيهية.

رأيت الدهشة على وجهه كما لم أرها من قبل. وسألنى:

- وتقرأ الإنجليزية؟ وتترجم؟

- نعم.

- عجيب.

- أتقرأ كتبًا غير كتب الدراسة؟

الكثير.

كم كتابًا قرأت؟

لم أحصهم.

بالتقريب.

أعملت ذهنى وقلت: لنقل ألفًا.

ألا تبالغ؟

قلت: ألفان مثل أمثالى من الطلبة.

ضحك الرجل: كان الرذاذ لا يزال مستمرًا، وكنا قد اقتربنا من محطة الأتوبيس، رأيت الرجل يلتفت إلى الخلف فأدرت رأسى بدورى، كان الأتوبيس يقترب منا، قال الرجل:

- ها هو الأتوبيس.

- إذن سلام.

- ألا تركب؟

- أفضل المشى.

لم أرد أن أعترف له بأن السبب الحقيقى هو الفَلَس.

بدا التردد فى نظرة الرجل ثم تلاه الجسم، هجر الأتوبيس وتابع سيره معى، ساءنى ذلك بعض الشىء، كنت أبحث عن الوحدة، لأجتر صور الأصدقاء وأتخيلهم وهم يقرأون اسمى مطبوعًا بالخط العريض على صفحة كاملة من جريدة تجارية.

واصل الرجل استجوابه.

- قلت إن زملاءك يقرأون مثلك؟

- نعم.

ابتسم الرجل.

- حسنًا. أسأل بعضهم غدًا.

ضحك الرجل وقال: أرى أن الإجابة ستدهشك.

وعدت الرجل أن أسأل بعض زملائى عن عدد ما قرأوه من كتب، على الرغم من أننى لم أكن أرى طائلًا وراء هذا السؤال، بينما واصل الرجل استجوابه الرقيق:

- أقرأت من بين ما قرأت «من هنا نبدأ»؟

التفت إليه مجيبًا: نعم.

- أأعجبك؟

حررنى صمت الرجل كأنه يدعونى إلى مواصلة الحديث.

قلت: جاء فى وقته.

شرحت له ما أعنيه، كنت مضطرب الفكر أيامها، أريد أن أنطلق كأوليس فى الأوديسة، لكنى مقيد بالعقيدة الدينية التى لا أرغب فى هجرها، فجاء «من هنا نبدأ» ليحررنى من هذا القيد، وليساعدنى على اكتشاف آفاق كنت على وشك فقدانها.

- هو أنت؟

ضحك خالد.

- أسألك كيف عرفت.

أعطانى خالد رقم هاتفه، وعدته أن أسأل بعض زملائى فى الغداة عما قرأوه إن كانوا قد قرأوا شيئًا، وأن أوافيه بالنتيجة. 

سألنى خالد قبل أن نفترق: لماذا اخترت قصة سوفيتية؟

قلت بفخر ساذج: أنا شيوعى.

تأملنى خالد برهة فى صمت وعلى وجهه ابتسامة يمتزج فيها الفهم بالأسى.

وقال لى: دعنا نتحدث عن ذلك فى لقائنا المقبل إن شاء الله.

الرسالة الثانية كانت فى ٧ يناير ٢٠٢٠، ويقول فيها بهجت النادى عن علاقته بخالد محمد خالد: 

لم أنم، كعادتى، فى وقت مبكر وإن كنت لم أتوصل إلى إجابة حاسمة على سؤالى عن السبب، أكان ذلك لأننى رأيت اسمى مطبوعًا فى جريدة لأول مرة أم أن سبب هذا الأرق هو لقائى بخالد، أم كان بسبب ما سمعته من إطراء يكاد يكون صريحًا لتميزى عن الآخرين، أم أن سبب هذا الأرق تولد من هذه العوامل الثلاثة مجتمعة، أم أنه جاء من رغبتى فى اختصار الليل والذهاب إلى المدرسة وسؤال زملائى عما قرأوه من كتب؟

لم أكد أصل إلى المدرسة وإلى الفصل حتى انقضضت على أول زميل وجدته على طريقى لأوجه له السؤال: كم كتابًا قرأت؟ نظر زميلى إلىَّ فى دهشة وبقى صامتًا لا يجيب، أعدت عليه السؤال فقال: سمعتك أول مرة ولكنى لم أفهمك.

- أصعب سؤالى؟

- نعم، إذن ماذا تقصد بكتاب؟ كتب المدرسة، أم غيرها؟

- غيرها.

- لم أقرأ غير كتب المدرسة.

لم أصدقه.. ظننته لم يفهم سؤالى.

- لم تقرأ كتابًا واحدًا؟

هز زميلى كتفيه.

- ما جدوى ذلك؟

تأملته وأنا أبحث عن إجابة على سؤاله، ما جدوى قراءة الكتب؟ لماذا أحب الكتب وخاصة الروايات؟ لماذا ألتهم روايات جورجى زيدان عن تاريخ الإسلام، وأستمتع بروايات موريس لوبلان عن أرسين لوبين؟ لماذا أقرؤها هى وغيرها من الكتب؟

تركت زميلى وبحثت عن آخر لأواجهه، نفس النظرة المستنكرة والإجابة الحاسمة، لم أرغب فى أن أعترف بأن الحق كان مع خالد، وإن أرضانى أن أكون استثناءً وسط هذا القطيع، إذ وجهت السؤال إلى أكثر من عشرة من زملائى وتلقيت نفس الإجابة، كنت قد وعدت خالد أن أتصل به لأعلمه بما حصلت عليه من معلومات، إلا أننى لم أتعجل فى الاتصال لأسباب عديدة منها أننى لم أصدقه حين قال إن لقائى سره، وإنه يرغب فى المزيد، ومنها أننى أحسست لديه بشىء من التردد حين قلت له إننى شيوعى، ومنها أن الاتصال التليفونى يستدعى إنفاق بعض الملاليم، وقد لا أجدها فى أول مرة، تركت نفسى فريسة للكسل والإفلاس، إلا أن الأقدار أبت أن تستسلم بدورها لكسلى ولإفلاسى.

كنت عائدًا فى يوم من الأيام من المدرسة إلى المنزل فى حالة نفسية سيئة، إذ كان امتحان التوجيهية يقترب، وكنت مقتنعًا بأننى لن أتمكن من الحصول على الدرجات الملائمة لدخول كلية الطب، بل قد أرسب فى الامتحان، إذ قضيت وقتى فى التشدق بالأفكار الثورية بدلًا من أن أخصص وقتًا كافيًا للدراسة. 

كنت عائدًا إلى المنزل وفى نيتى أن أبكى على أحوالى بعض الوقت، وأن أقضى بعض الوقت إن أمكن ذلك فى الدراسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كنت مستغرقًا فى هواجسى وأنا على الطريق، إلا أن ذلك لم يمنعنى من أن أرى أن أتوبيسًا يمر فى الاتجاه المعاكس، وأن هذا الأتوبيس لم يكد يتجاوزنى حتى أبطأ وكأنه يتهيأ للوقوف على غير العادة، إذ لم يكن له موقف فى هذا المكان، استدرت لأتبين ما يدور، رأيت العربة وقد وقفت، ورأيت رجلًا يغادرها ويتجه نحوى وهو ينادى باسمى.. احتجت للحظات حتى أتبين خالد.

- ألم ترنى وأنا أناديك من شباك الأتوبيس؟

- كلا.

- كنت غارقًا فى أفكارك.

شعرت بأن وجهى قد احمر خجلًا رغم أننى لم أره، بحثت عن مبرر فلم أجد، تلعثمت.

-الامتحان؟ قال خالد.

أسرعت بالكلام: سألت زملائى، الحق معك، لم يقرأ أحدهم كتابًا واحدًا.

- أعرف.

مد يده إلىَّ بورقة، هذا عنوان المنزل.. يوم الجمعة العاشرة.. أخذت الورقة: إن شاء الله.

اتجهت إلى العنوان الذى أعطاه لى خالد فى الموعد الذى حدده، توقعت أن أجد فيلا أنيقة أو عمارة كبيرة، فخالد كاتب معروف ذو سمعة طيبة تتخاطفه الصحف والإذاعات بعد أن استولى الضباط الأحرار على الحكم.

خاب ظنى حين وجدت نفسى أمام عمارة صغيرة متواضعة، وعلمت من البواب أن الأستاذ خالد يسكن شقة من بين الشقق، ولا يحتل العمارة بكاملها هو وعائلته، دققت الجرس رغم ما أصابنى من خيبة أمل، لم يطل انتظارى، فتح الباب لأجدنى أواجه طفلًا فى السادسة أو السابعة من عمره، فتضاعف شعورى بخيبة الأمل، كنت ولا شك أحلم بخادمة شابة جميلة كما أرى فى الأفلام، إذ ما جدوى أن تكون كاتبًا معروفًا تتخاطفك الصحف والإذاعات إذا لم تفتح لك أبواب الجمال؟

استقبلنى خالد فى غرفة متواضعة الحجم والأثاث، وكذلك كانت فناجين الشاى التى جاءنا بها ابنه أسامة، إلا أن المناقشة التى تبعت ذلك أدخلت السرور فى قلبى وأنعشتنى أيما إنعاش.

خالد محمد خالد

كان خالد قد نشر كتابه الثانى «مواطنون لا رعايا» قبل أن يسقط فاروق وعائلته، ويتولى الضباط الأحرار السلطة، كنت أنا حديث عهد بالماركسية، أتشدق بكلمات منها لا أفقه معناها بكامله، كديكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقى، ولا أرى فيها مجالًا للدفاع عن الفرد، فالفرد ظاهرة رأسمالية ستمحوها الشيوعية العلمية فى مجتمع تسوده الطبقة العاملة.

كنت جديدًا فى الكار أتشدق بكلمات كبيرة لا أرى ما وراه كالبروليتاريا والشيوعية العلمية والاستغلال الطبقى، وإن كنت أجد لها رنينًا يملأ أذنى، إلا أننى تنبهت بعد سنين من هذا اللقاء، وبعد أن التقيت بكتاب آخرين أقل شأنًا من خالد، أنه استمع إلىَّ وناقشنى كالند للند، ولم يتعامل معى كأستاذ صبور ينتظر أن يعود تلميذه إلى طريق الصواب.

طال النقاش وبلغنا نداء المؤذن إلى صلاة الجمعة.. سألنى خالد ألا تصلى؟ أدهشنى سؤاله. بعد كل هذا الحديث؟ فتح ابنه باب الغرفة وقال لأبيه: الشيخ سيد ينتظرك، غادرنا المنزل معًا، ورأينا رجلًا بعمامة وجبة ينتظر على مبعدة من المنزل.. عرفته.

- الشيخ سيد سابق؟ 

- أتعرفه؟

- أليس هو الذى أفتى بقتل..؟

ضحك خالد:

- أتصدق هذا الكلام؟

افترقنا على وعد بأن نعاود اللقاء، وبقيت ساعات أو أيامًا وأنا سعيد بهذا اللقاء، ثم بدأ الشك يطرق الباب، ويدفعنى لأن أتساءل عما إذا كان حديثى قد ساءه.

الرسالة الثالثة أرسل بها بهجت فى ١٧ يناير ٢٠٢٠، ويقول فيها: 

كنت حديث عهد بالماركسية حين التقيت بخالد محمد خالد، ولذلك كنت شديد التعصب لها ككل من يعتنقون دينًا جديدًا أو يكتشفون نظرية حديثة، ولكن خالد كان رجلًا عاش حياة غنية كما نتبين اليوم من كتابه «قصتى مع الحياة».

كنت قد التقيت أيامها أو قبلها بمحمد مستجير، إذ جاءت عائلته المتعددة الأفراد لتسكن الشقة المجاورة لشقتنا فى عمارة فى حى الروضة، كان له تسعة إخوة، منهم أخوه مصطفى الذى كان معى فى المدرسة السعيدية، كان محمد مستجير طالبًا فى كلية الحقوق وكان شيوعيًا، وجهنى لقراءة كتب يسارية بعد أن كنت أقرأ روايات الجيب ومجلتى الرسالة والثقافة. 

أحضر لى وأنا طالب فى ثانوى كتابًا عن حرية الفكر لا أتذكر اسمه، دخل محمد السجن بتهمة محاولة قلب نظام الحكم بالقوة، وحكم عليه بخمس سنوات، خرج لمدة سنة، ثم تم القبض عليه معنا وسجن لمدة ٥ سنوات أخرى، لم ألتقِ به بعد ذلك إلا فى باريس، فقد ترك مصر بعد الإفراج عنه وعمل فى براغ وكان يزورنا فى باريس. 

عرفنى محمد مستجير على إبراهيم فتحى، وكان مثقفًا خرج على الحزب الشيوعى المصرى مع محمد مستجير وشكلا تنظيمًا أسمياه «وحدة الشيوعيين»، ودخلت معهما هذا التنظيم الذى تركته وأنا فى السجن.

بقيت أنا وإبراهيم فتحى وخالد مثلثًا لا تلتقى أضلاعه، إذ كنت ألتقى بإبراهيم، وألتقى بخالد، كانا يتحاوران من خلالى.

كان خالد محمد خالد ليبراليًا يتمنى أن يستقر نظام ديمقراطى برلمانى فى مصر، بينما كنا نسعى أنا وإبراهيم إلى إقامة ديكتاتورية البروليتاريا وإلغاء الطبقات المستغلة، وكان الفرد فى هذا الصراع أداة لإرادة التاريخ، كما علمتنا المادية التاريخية، فلم تكن مواهب نابليون العسكرية هى التى سمحت له كما يظن البعض بغزو أوروبا، وإنما جاء ذلك لأنه كان من الضرورى أن تنتصر الثورة البورجوازية حتى يكتمل المسار التاريخى، ولذلك فإن رجلًا آخر كان سيأخذ مكان نابليون إن لم يكن نابليون قد ولد.

تعصبى للماركسية كان يمنعنا من أن نرى ما قد يكون لدى الآخر من حق

أما خالد فقد كان يعتقد أن لكل منا دورًا فى حياة المجتمع، وأنه إن لم يكن نابليون قد وجد لما أخذ تاريخ أوروبا المسار الذى أخذه، الواقع أننا لم نكن بعيدين عن بعضنا البعض، إلا أن تعصبى للماركسية كان يمنعنا من أن نرى ما قد يكون لدى الآخر من حق، كانت فترة غنية بالمناقشات الخصبة بالأفكار وفاجأنى خالد فيها بسلسلة من الأحاديث الإذاعية عن دورنا فى الحياة.

كانت الإذاعة قد فتحت أبوابها بعد وصول الضباط الأحرار للسلطة لرجال وكتاب لم تكن تتقبلهم من قبل، وكان خالد من أولئك الذين يحظون بتقدير جمال عبدالناصر، حتى بعد أن كتب ونشر «الديمقراطية أبدًا»، وهو كتاب كان يهدف إلى مواجهة زحف الضباط الأحرار نحو الديكتاتورية. 

لم يكن لدينا أيامها جهاز راديو يمكننى من الاستماع لأحاديث خالد التى خصصها لدورنا فى الحياة، ولم يكن لدىَّ ما يكفى من القروش لأخصصها لشرب كوب من الشاى فى مقهى من المقاهى الذى يمتلك جهاز راديو لا يتوقف عن إذاعة الأخبار والأغانى وغيرها من البرامج، سواء كان لها مستمعون أو لم يكن، ولم أملك إلا أن أعترف لخالد بأننى لم أستمع لأحاديثه، ولم يسألنى خالد عن السبب فكفانى عناء كذبة جديدة، وأوضح لى فى الوقت نفسه أنه ربما كان قد خمن السبب، خاصة أنه أتبع ذلك بنسخة من الأحاديث التى كانت قد أذيعت ووعدنى بموالاته بالبقية.

من الضرورى أن تكون مستعدًا لقبول فكرة جديدة حتى تترك هذه الفكرة بصماتها

كان الموضوع غريبًا، وأكاد أقول منفرًا فى ذلك الوقت، إذ كنت أعتقد أن لكل فرد منا حين يولد إمكانات مماثلة لدى الآخرين، وأن الظروف التى يولد فيها ويقضى فيها طفولته هى التى تحدد مساره فى الحياة، بينما أراد خالد أن يقول أو كاد أن يقول إن كلًا منا يولد ولديه إمكانات ستشكل الدور الذى سيلعبه فى المستقبل إن شاءت الظروف وبقى على قيد الحياة، وأنه ليس عيبًا أن تكون فراشًا فى مكتب وألا تكون صحفيًا مرموقًا فى جريدة.

لم أدرك يومها أن كلًا منا كان على حق، كما لم أدرك أن خالد لا يسعى بحديثه إلى أن يرفع من كرامة الفراش فى مواجهة عنجهية كبار الموظفين على الرغم من أنه قالها وأعادها.

كانت تلك المناقشات غنية بالدروس التى طرقت باب الذاكرة فيما بعد، وعلمتنى دروسًا أخرى كثيرة، أولها أنه من الضرورى أن تكون مستعدًا لقبول فكرة جديدة حتى تترك هذه الفكرة بصماتها. 

لم تكن العلاقة من طرف واحد، ولم يكن الاهتمام بها من ناحية بهجت النادى فقط، كان خالد محمد خالد مهتمًا، وهو ما دفع سمير غريب إلى أن ينشر فى كتابه ما قاله خالد عن بهجت فى سيرته الذاتية، قصتى مع الحياة. 

يقول خالد عن هذه القصة: 

أما بهجت النادى فقد بدأ تعارفنا بلفتة إنسانية معه، كنت أعبر كوبرى قصر النيل فى طريقى إلى منزل الدكتور «محمد التنير» عندما فاجأتنا السماء بأمطار غزيرة، وأسرعت الخطى اتقاء للمطر، وفجأة يقترب منى شاب باسطًا يديه بصحيفته وقائلًا: تفضل اتقِ بها المطر، وإن كانت عزيزة علىّ لأن بها مقالًا لى.

سألته: إذن.. فأنت كاتب؟

قال: أحاول أن أكون كاتبًا. 

سألته: من أكثر كتابنا حظًا من إعجابك؟

أجاب من فوره: خالد محمد خالد. 

عقبت قائلًا: الجدع ده اللى له كتاب اسمه إيه؟ اسمه إيه؟ آه.. اسمه «من هنا نبدأ».

قال وهو يضحك: أيوه. هذا كتابه.. لكن مش اسمه الجدع ده!! اسمه الأستاذ خالد محمد خالد.

وانتهى الحديث بيننا إلى الكشف عن شخصيتى فكاد قلبه يطير من الفرح، وقال لى: تعرف؟ أنا لن أنام الليلة، سأطوف على زملائى فى بيوتهم واحدًا بعد واحد وأخبرهم بأننى لقيتك، ثم صمت طويلًا، وكنا قد بلغنا نقطة افتراقنا، وإذ به يقول: أنا مش مصدق إنك الأستاذ خالد، قلت له: الأمر يسير.. إليك عنوانى وزرنى غدًا. 

وفى غد زارنى، وابتدأ تعارفنا، وصار بهجت أول قارئ لكتبى، أهديه إياها فور صدورها، وكان حاد الذكاء، قادرًا على مناقشتى، فتارة يرضى، وتارة يهز رأسه بحركة يعلن بها عن عدم موافقته، وهو الآن «الدكتور بهجت النادى»، ويشغل منصبًا كبيرًا فى اليونسكو بباريس، وقد أَلَّف مع صديق عمره «الأستاذ عادل» كثيرًا من الكتب، ولا يزالان يؤلفان.