تكفير الأزهرى.. مَنْ عبث بالسوفت وير الأصلى للمصريين؟

- أئمة مساجد رسمية وعلماء كبار تورطوا فى التخديم على الأفكار التكفيرية
تكفير وزير الأوقاف على الصفحة الرسمية للوزارة! هذه ليست مزحة سمجة، بل حقيقة حدثت منذ ما يقرب من أسبوعين، رصدت ذلك خلال متابعتى صفحة وزارة الأوقاف، التى تخصص معظم أخبارها لمتابعة أنشطة الوزارة، وعلى رأسها متابعة ما يقوم به وزير الأوقاف د. أسامة الأزهرى.
أتابع تعليقات المصريين على الأحداث بصفة عامة؛ لأننى أعتبرها إحدى قنوات متابعة الرأى العام المصرى فى شتى قضايا الشأن العام، ومن ذلك كانت متابعتى ما يدلى به المصريون على صفحة وزارة الأوقاف، وهذا لا علاقة له برؤيتى الشخصية لمواقف الوزارة أو توجهاتها، خاصة منذ تولى د. أسامة منصبه.

كان الخبر المنشور يوم ١١ فبراير عن افتتاح الوزير مؤسسة «التوفيق» للأعمال الخيرية تكريمًا لاسم محمد توفيق عويضة، الذى ساهمت ابنته المهندسة فى تكوين المؤسسة، خبر عادى غير مهم لغير أصحابه. لكن مجموعة الصور التذكارية التى تم نشرها مع الخبر فجرت على صفحة الوزارة عشرات التعليقات، التى وصل بعضها إلى التكفير الصريح لوزير الأوقاف المصرى!
كانت مجموعة من الصور العادية التقليدية التى يتم التقاطها فى مثل هذه المناسبات ويصطف بها الحضور وقوفًا أو جلوسًا حول المسئول الرسمى الأهم فى المناسبة، وهو هنا وزير الأوقاف. كان بين من اصطفوا سيدات مصريات من أعمار مختلفة، ويبدو أن بعضهن كن ضمن طاقم العمل فى المؤسسة الخيرية التى تم تدشينها رسميًا للتو.
بين الحاضرات فتيات مصريات بلا غطاء شعر، وبينهن السيدة الفاضلة صاحبة الدعوة بغطاء شعر تقليدى لمصريات كثيرات فى مثل عمرها وفى نفس طبقتها الاجتماعية.
انهالت التعليقات السفيهة الساخرة منهن وعليهن وعلى شخص الوزير، حتى كانت ذروتها عبارات تكفيرية صريحة!
كثيرٌ من التعليقات الغاضبة أتت من مصريات، بينما كان التكفير ذكوريًا، وبينما أخرى أكثر عجبًا تقول بأن الصفحة يبدو وكأنها لا تحظى باهتمامٍ مناسب من جانب مسئولى الوزارة. حيث لم يرد أحدٌ على هذا السقوط الدينى والأخلاقى الصادم، حتى من قبيل أن يحفظوا لتلك المؤسسة الرسمية وقارها.
هذا العبث الكبير بجزءٍ غير قليل من إعدادات المصريين أو السوفت وير الأصلى الخاص بهم لا بد وأن خلفه من يتحمل مسئوليته.
فمن هؤلاء الذين أوصلوا بعض المصريين العاديين إلى الاعتقاد بأن عدم ارتداء المرأة غطاء الرأس مثلًا، أو الاختلاط فى صورة جماعية رسمية يخرجهن ويخرج من كان حاضرًا فى المشهد عن الملة؟!
هل نحن مستعدون لتقبل الإجابة الحقيقية؟ منذ أشهر قليلة كتب د. محمد الباز مقالًا هامًا بعنوان «تبديد الخطاب الدينى». ومنذ عدة سنوات قمتُ بشكل شخصى بخوض معركة شرسة فى نفس السياق. وفى كلا الحالتين لم يكن الطرف الآخر عضوًا بجماعة دينية متطرفة!
منذ سنوات أطلقت القيادة السياسية دعوة لتصويب الخطاب الدينى. بعد مرور هذه السنوات ما هى المحصلة الحقيقية على الأرض؟
لقد صُدمنا كمصريين، منذ عدة أسابيع، بعدة مشاهد متتالية كان أبطالها قادة هيئات دينية رسمية. وكانت هذه المشاهد- التى كتبت عنها مقالًا سابقًا- هى دعوة للارتداد العلمى الأكاديمى فى جامعة ذات صبغة دينية، ومبادرة عودة الكتاتيب الغامضة التى امتنع القائمون عليها عن إجابة تساؤلات بعضنا، والتى شرفت بصياغتها فى نفس المقال، ثم منح المبادرة جزءًا من أموال بعض المصريين الذين تبرعوا بها لمؤسسات خيرية، فهل تكون هذه المشاهد هى النتيجة والمحصلة الحقيقية لدعوة تصويب الخطاب الدينى؟

فى الواقع نحن فى هذه السنوات نحصد صبارًا مرًا لما غرسه كثيرون- أشخاص ومؤسسات وجماعات- فى التربة المصرية فى العقود الأربعة السابقة للخريف العربى، ومن قبيل التبسيط المخل والهروب من الحقيقة أن نقول إن هؤلاء الغارسين كانوا فقط قادة وأئمة الجماعات التكفيرية؛ لأن الغرس الأكثر تأثيرًا كان ما يتم بثه فى القنوات الرسمية والمنابر الشرعية فى عموم مصر.
أئمة مساجد رسمية وعلماء كبار تورطوا فى التخديم على الأفكار التكفيرية عبر تبنى خطاب دينى زاعق، لا يستند لا إلى حقيقة علمية أكاديمية ولا تاريخية ولا يخدم قضايا وطنية، الذين رحبوا بتكفير مفكرين أو أدباء أو حكام أو رجال دولة من رجال دين رسميين أو على أقل تقدير لم يقفوا ضد هذه الجريمة قد يصبحون هم أو خَلفُهم فى مرمى نفس النيران!
فربما الذين كفروا وزير الأوقاف اليوم، هم أنفسهم من هللوا منذ سنوات لنفس العالم الأزهرى حين وضع نفسه فى مقابلة من كانوا ينادون بتجديد التراث الدينى! فهل تغير هذه الواقعة من فكر بعض رجال الدين الرسميين وتجعلهم يعيدون النظر فى مجمل مواقفهم من دعوات تجديد التراث أو على الأقل الدفاع عن حق المفكرين فى الخوض فى هذه المساحة دون أن يتزعم هؤلاء الرسميون دعوات صاخبة تطعن هؤلاء المفكرين فى دينهم؟!

فى مكانٍ آخر من مصر أو تحديدًا فى صعيدها، كانت هناك قصة عبثية أخرى، وحين تكون القصة عنوانها الشيطانى هو «المجرم البطل» فأسألوا أهل الصعيد الذين استطاعوا تحرير عقولهم من هذا الإفك. أهل الصعيد خاصة الذين نجوا بعقولهم يعلمون القصة الحقيقية، وأهل الفن وأهل الدين ونشطاء السبوبة يدركون ماذا قدموا لتدشين هذا الخبث بدلًا من محاربته.
لنبدأ من أسرار القصة- ولا أقصد قصة المجرم الأخير- وإنما قصة النبتة الشيطانية ومن غرسها ومن رواها حتى ترعرعت ولاقت طريقها لعقول البعض فى صعيدنا.
كانت البداية التاريخية الأقرب لما نحن بصدده منذ قرون، وتحديدًا فى العهد المملوكى، حين كانت السلطة غير المصرية تعربد فى قرى ونجوع مصر جنوبًا وشمالًا، وتجد فى المناطق النائية متسعًا لممارسة الحد الأقصى من ظلم المصريين.
استمر هذا المشهد حتى سنوات الحكم الملكى، أعلم أن دراويشه من عشاق دستة صور العاصمة فى الأربعينيات لن يعجبهم هذا القول، لكنها شهادة سمعتها بأذنى منذ سنوات طويلة من أفواه رجالٍ هم الآن فى دار الحق، لقد كره الصعايدة الحكم الملكى؛ لما تعرضوا له من إهانات على أيدى رجاله.
ولم يحبوا ناصر؛ لأنه صعيدى مثلهم، لكنهم أحبوه لأنه لم يهنهم. منحهم الكرامة المفقودة. شخصيًا أرى أن حكمه تسبب فى كوارث لمصر، لكنها شهادةٌ لا يجوز لى إخفاؤها. صالح عبدالناصر الصعايدة على فكرة السلطة الوطنية، وامتد هذا التصالح المنطقى لنصف سنوات حكم مبارك.
حين تغيرت الصورة وعادت الفكرة الخبيثة تطل بوجهها القبيح مرة أخرى فى سنوات نصف حكمه الأخير، كان التجاهل هو كلمة السر، تُرك الصعيد لمفردات خطيرة، مثل الحصول على السلاح مقابل أن تسلم كل عائلة قطعة أو أكثر لتستيف الأوراق، وكانت هناك أوكار معروفة لمجرمين ولصوص تُركوا لممارسة إجرامهم على القرى. لم تكن هناك إرادة حقيقية للمواجهة. أصبحت سير هؤلاء المجرمين تُروى كسير أبطال القصص الشعبية!
واسألوا اللواء صفوت شاكر، الذى تولى مسئولية محافظة قنا لأربع سنوات، وخاض معركة شريفة لتصويب علاقة الصعايدة بسلطتها الوطنية، عنده كثيرٌ من الأسرار، حقق ما لم يحققه غيره، وخاض معارك العقول وربحها، لكنه خسر منصبه وتم التعتيم عمدًا على ما قام به.

ثم نصل لما نسميه فترة الانفلات الأمنى، حين أصبحت بيوت الصعايدة فى القرى تعج بالسلاح للردع! نعم لردع اللصوص، فى عزاء والدى- رحمه الله- الذى صادف هذه الفترة، وكان مدفنه بمسقط رأسه بإحدى قرى الصعيد، كنا نسمع طلقات الرصاص منذ غروب الشمس لشروقها فى اليوم التالى، قالوا إن كل منزل عليه أن يعلن عن امتلاكه السلاح للردع! كانت هذه من ملامح شبه الدولة التى تحدث عنها الرئيس السيسى.
حين بدأت الدولة فى التعافى وعن طريق مشاهداتى الواقعية، يمكن القول إنه ليس هناك قرية فى صعيد مصر لم تصلها خطط الدولة فى التعمير والبناء والتنمية والاستظلال بمظلة الحماية الاجتماعية، إلى هنا كان من المنطقى أن تختفى فكرة المجرم البطل، لكن ذلك- وكما تابعت فى الواقعة الاخيرة- لم يحدث!
وهنا يجب أن أتحدث عن الأسرار والأسباب الحقيقية لذلك، هناك أسباب تتعلق بتركيبة أهل الصعيد، السرقة عارٌ يمكنه أن يقود لتبرؤ العائلة من مقترفه، أما حمل السلاح وحتى التجارة به فليس عارًا! بل يعتبر أحيانًا من سمات الرجولة والبطولة! العصبية القبلية الطاغية إحدى سمات الصعيد. هذه الأفكار هى من تمام ما كان يجب أن يعمل مختلف المؤسسات على ترويضه فى العقود السابقة.
لكن ما حدث أن هناك متهمين بالعمل على عكس ذلك، ممن تلاقت مصالحهم المباشرة فى ترويج الفكرة.
أول المتهمين هم رجال دولة مبارك، الذين تركوا قرى الصعيد يهيمن عليها رجال دين متطرفون. فى تلك السنوات كان يمكن لأى أحد أن يشيد زاوية طينية فى أى قرية ويمنح لمن يريد منبرها لكى يملأ العقول بما يريد. وقد ملأوه بخطابٍ معادٍ للدولة أو السلطة. ما لا يعلمه مصريون كثيرون أن قرى الصعيد كانت تحت سيطرة شباب ربع متعلم منطو تحت راية جماعات دينية مختلفة، ولم ينج من تلك الفخاخ سوى من كان متصوفًا يدافع عن أضرحة الأولياء وتتم محاربته بأنه مشرك!
جمعيات ظاهرها خيرى كانت أذرعًا مباشرة لجماعة الإخوان، كانت زوايا الصعيد خارج سيطرة الدولة. وربت أجيالًا تعادى الدولة، وتعتبر أن من يواجهها بطلًا؛ لأن الدولة لا بد وأن تكون حسب هذا الخطاب فاسدة.

كان من المفترض أن يقوم الفن بدورٍ مضاد لهذا العبث. لكن هذا لم يحدث، مسلسلات قديمة صعيدية تقدم المجرم على أنه بطل أو «راجل»، وتماهت مع ذلك أفلام الثمانينيات والتسعينيات التى دشنت لنفس الفكرة. دائمًا هناك رجل دولة فاسد، ودائمًا المجرم مظلوم، ربما لا يتسع المقام لسرد أسماء هذه الأعمال، لكنها دشنت للفكرة الخبيثة وساندتها بقوة، مسلسل مارد الجبل.. بعض أفلام عادل إمام وأحمد زكى على سبيل المثال، فيلم الهروب مثال قوى، صورة ضابط الشرطة الذى جسده الفنان محمد وفيق هى الصورة النموذجية فى خيال البعض لمنح الفكرة شرعية أخلاقية.
لم تغب الصحافة عن المشهد، الصحافة المستقلة والحزبية، فى نطاق مصارعتها نظام مبارك، كانت تلقى بأطواق النجاة للمجرمين، سواء من الجماعات الإرهابية أو المجرمين الجنائيين. الشرطة كانت دائمًا فى موضع اتهام، من قال إنه لم يكن بينهم فاسدون؟! هم جزءٌ من المجتمع المصرى كان بينهم الفاسد وأكثرهم شرفاء يؤدون واجبهم، وأجبرتهم سياسة مبارك على حمل عبء فشل سياساته فى مختلف المجالات، تم وضع الشرطة فى مواجهة الشعب فى مفردات اجتماعية واقتصادية، تقوم جماعة دينية بمحاولة اعتداء طائفية فتتصدى لها الشرطة؛ فتصبح خصمًا لمجرد قيامها بواجبها.
نشطاء السبوبة وجدوا فى هذه القصة موردًا مهمًا للكسب الحرام، ما زلت أذكر التقارير الحقوقية مدفوعة الأجر، التى كان يتم تبنيها من قبل مؤسسات أجنبية للضغط على الدولة المصرية وابتزازها بادعاء تعرض مجرمين للقتل خارج نطاق القانون، وكأن المطلوب من رجال الشرطة وهم يواجهون مسلحًا جنائيًا- تاجر مخدرات أو سلاح أو جماعات دينية مسلحة- أن يُقتلوا دون الدفاع عن أنفسهم حتى يكونوا رجال شرطة أسوياء! كيف ستقبض الشرطة على مجرم مسلح اتخذ قرارًا بالمواجهة المسلحة؟!
جماعة الإخوان تحديدًا- عبر قياداتها الصريحة أو من يتخفون تحت راية النشطاء الحقوقيين- عملت على ملف الصعيد كثيرًا وما زالت تحاول تجديد استخدامها له.
لعبت الجماعة على تأليب الصعيد على الدولة أيام مبارك تحت زعم تهميش الصعيد. ثم صمتت فى السنوات السابقة حتى نشطت مؤخرًا لاستغلال ملابسات الحادث الأخير، استمعت لبرامج تبث من خارج مصر وتكرر نفس الحديث الخبيث الذى طالما سمعته فى الثمانينيات والتسعينيات، أن ما حدث هو قتل خارج القانون! مجموعة مسلحة زعيمها مسلح مدان فى أحكام قضائية وجرائم! لو حدث هذا فى أى دولة غربية مثلًا لتم دكه بالطائرات.
يرددون أكذوبة أن بيننا وبينهم الجنازات! عفوًا الجنازات لا تدين أو تبرئ أحدًا، إنما تظهر كم وعدد محبى المتوفى، وفى الصعيد الجنازات لها حساباتٌ أخرى تتعلق بالعصبية.
فكرة المجرم البطل هى فكرة فاسدة لكن للأسف لها رواج- لما سبق وأوضحته من أسباب- فى الصعيد، ولو أردنا معالجتها بشكل موضوعى علمى، فعلينا أولًا دراسة ما تم غرسه فى العقود السابقة فى صعيد مصر من أفكار، أو ما تم من تشجيع لبعض الأفكار الموروثة بالفعل.
مطلوب ثورة تصحيح عقلية فى صعيد مصر، مطلوب نزع السلاح بشكل مطلق وكامل وصارم. مطلوب نشر منابر الثقافة والتوعية الوطنية الحقيقية. مطلوب إخضاع كل مساجد القرى النائية لإشراف حقيقى فعال مستمر، مطلوب الحديث مع رجال يعرفون أسرار الصعيد الحقيقية، مثل صفوت شاكر وهو لا يزال حيا يرزق!.