أسماء من قتلوك قد نسيت.. ويظل يذكرك الملايين
قصيدة أمل دنقل الممنوعة من النشر فى رثاء يوسف السباعى

لا يختلف اثنان عاقلان على أن كثيرًا من وسائل وعمليات الاغتيال المختلفة فى ملابساتها، التى جرت على مدى التاريخ والأزمنة الفائتة، والتصفيات الجسدية للشخصيات العامة من ساسة وكتّاب وأدباء وفنانين وقضاة، لا تجلب إلا التعقيد والشيطنة للقضايا التى يرفع كل الإرهابيين- على اختلافهم- لافتاتها، ولا أريد أن أقول «العنف»، لأن العنف من الممكن أن يكون نوعًا من مقاومة عنف آخر، وهو بالطبع مشروع ومبرر ولا طريق سواه فى كثير من الثورات التى حدثت فى العالم، أو أشكال المقاومة التى نهضت فى بلاد، مثل إسبانيا فى مقاومة فرانكو، ومقاومة العدوان الأمريكى فى فيتنام، وغيرهما من بلاد تعرضت لاحتلال غاشم من دول أخرى، أو مقاومة النازى الألمانى، والفاشى الإيطالى وهكذا، ومن الطبيعى أن تكون هناك أشكال من التصفيات الجسدية الإجبارية، وذلك يحدث فى الحروب عادة، فهناك عدو يقف أمامك، إن لم تقتله قتلك، ولدينا الكثير من الشعر الحماسى الذى يشعل حماس المقاتلين فى وقت المعركة، والأمثلة كثيرة فى ذلك المجال، حتى الشاعر النبيل صلاح عبدالصبور، الذى كتب قصيدة على هذا الطريق، وذلك فى مواجهة ومقاومة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وله قصيدة شهيرة، وكان عنوانها: «إلى جندى غاضب.. سأقتلك»، يقول فى مطلعها:
(سأقتلك
من قبل أن تقتلنى سأقتلك
من قبل أن تغوص فى دمى
أغوص فى دمك
وليس بيننا سوى السلاح
وليحكم السلاح بيننا..)
القصيدة من أعظم قصائد صلاح عبدالصبور، لأنه لا يتوقف عند المعانى الأولى والبدائية للحرب، ولا الأفكار الأولية لأهمية السلاح، ولكنه- فى لغة شعرية راقية- يجعل من السلاح أداة للسلام فى أوقات المواجهة، وهى قصيدة ذات أبعاد فلسفية مركبة، وبناء فنى ليس سهلًا، واستخدم فيه كل طاقته الفنية واللغوية والفكرية، لكى يصل إلى المغزى الذى يستدعى استدعاء السلاح، وترويض الحرب اللعينة، ومن ثم فهو ينادى بأن استخدام السلاح، لا يصلح إلا فى ساحات الحروب، بدون مبرر، المبرر الأقوى، هو الحرب التى تدور فيها كل أنواع الخطط والمكائد والخبرات العديدة.

لا أريد أن أطيل فى تقديم مذكرة تفسيرية لتجريم الاغتيالات التى لا تفعل سوى شيطنة القضايا المطروحة، وفى إفساد كل الحلول الممكنة، وهذا ما حدث للكاتب والروائى يوسف السباعى، وذلك فى ١٨ فبراير ١٩٧٨، على أرض غير مصرية، وفى فندق قبرصى، وهذا عندما ذهب لكى يؤدى واجبه فى حضور اجتماعات «منظمة التضامن الأفرو آسيوى»، والتى كان يترأسها لعشرين سنة سبقت ذلك التاريخ، ورغم أن كثيرين حذروه من الذهاب إلى ذلك الاجتماع، لكنه اعتذر عن الاعتذار، وهو يعرف أنه على رأس قائمة المنذورين والمستهدفين للاغتيال، ولكنه لم يعتذر، ولم يبد أى تململ، وهو المرهق، الذى كان عائدًا لتوه من سفر آخر، وكان يعانى كثيرًا من المتاعب، ولكنه قرر أن يذهب إلى ذلك الاجتماع، وكانت هناك اقتراحات كثيرة لعقد الاجتماع فى عواصم آسيوية وإفريقية أخرى من العالم، لكن الوفد الروسى كان مصممًا على عقد الاجتماع فى قبرص، وقبل أن يسافر مباشرة دار حوار قصير بينه والكاتب الصحفى صلاح منتصر وعبدالعزيزصادق-صديق ورفيق عمره الأدبى والثقافى-، وكان اللقاء قى مبنى جريدة الأهرام، وفى الدور الرابع تحديدًا، حيث مكتبه فى المؤسسة، وكان ذلك ظهر الأربعاء ١٥ فبراير، حاول الكاتبان «منتصر وصادق) إثناء عزمه عن السفر، ولديه الكثير من المبررات، وكتب عبدالعزيز صادق فى مجلة أكتوبر ٢٦ فبراير نص الحوار بينهما:
«قلت: جئت لأقول لك، حمدالله على السلامة، ففوجئت بصلاح منتصر يقول لى إنك ستسافر غدًا..
أجاب يوسف السباعى:
ربما نسيت أن أقول لك، سأسافر اجتماع مجلس التضامن فى قبرص.
قلت: قبرص!
قال: أعرف ماذا تريد قوله، قبرص لا أمان فيها، لدرجة أن الضابط نجل رئيس الجمهورية قد خطف
قلت: إذن..
قال: أعرف ماذا تريد أن تقول، إنى فى مقدمة الكتّاب المحكوم عليهم بالإعدام، والمشوار طبعًا ليس مريحًا، ولكنى مضطر للسفر من أجل التضامن ومن أجل مصر حاولت تغيير المكان، واقترحت أن يكون الاجتماع فى القاهرة، أو فى بغداد، أو فى موسكو، أو أية عاصمة اشتراكية، ولكن راساخوف واللجنة السوفيتية تمسكوا بقبرص، لماذا؟، لست أدرى!».

ويدور الحوار حول إقناع السباعى بعدم السفر، ولكنه اعتذر لهم، وأنهى الحوار بأنه سيسافر فى يوم الخميس، وسيعود الأحد، وربنا يستر، رغم كل المحاذير التى تحيط كل تفاصيل وأحداث تلك السفرية المشئومة عندما أطلق عليه اثنان من الإرهابيين التابعين لمنظمة صبرى البنا «أبو النضال» الإرهابية، وكان ذلك انتقامًا سياسيًا منه بسبب مشاركته فى الذهاب مع الرئيس أنور السادات إلى إسرائيل.

بالطبع كانت هناك أشكال كثيرة من الغضب السياسى، والاحتجاج على تلك الخطوة، ذلك الاحتجاج الذى تترجمه الجماعات السياسية إلى بيانات، وتظاهرات، ووقفات احتجاجية، وذلك كان يحدث كثيرًا، وكان معرض الكتاب الدولى فى يناير ١٩٨١ نموذجًا لذلك، عندما تظاهر كثير من الطلبة والمواطنين أمام الجناح الإسرائيلى فى أرض المعارض، احتجاجًا على مشاركة الكيان الصهيونى فى معرض الكتاب، ورغم العنف الذى ووجه به المحتجون، فإن ذلك الاحتجاج جاء بنتيجة قاطعة، وهى «لا تطبيع ثقافيًا مع الكيان الصهيونى»، وبعد ذلك صارت تلك الجملة شبه شعار فى توصيات مؤتمر أدباء مصر الثانوى، ورغم احتجاج كل المواطنين على ذلك التطبيع، فإن جنازة يوسف السباعى العسكرية، شهدت حضورًا كبيرًا من هؤلاء المواطنين، الذين رفعوا شعارات مدوية، تطالب أنور السادات رئيس الجمهورية بالثأر من هؤلاء الإرهابيين، الذين كانوا للأسف من فلسطين.
نال يوسف السباعى بعد استشهاده تقديرًا لم ينل مثله فى حياته، وكان أكثر الناعين حزنًا الدكتور يوسف إدريس الذى كتب قائلًا:
«أمعقول أن أصدق أنى لن أرى بعد الآن يوسف السباعى مطلقًا، ولن يعانقنى ويقبلنى كما تعودنا أبدًا.. دقة خبر على التيكرز، طلقة فى منتصف الرأس، انتهاء؟! ربع قرن من الزمان ونحن على خلاف جذرى فى الرأى، والمذهل رغم هذا، حب جذرى إلى شامخ القمم».
.. وكتب نجيب محفوظ: ما أعجزنى عن التعبير، إنها مودة ثلاثين عامًا لن تبيد أبدًا، ولكن اعترضت مجراها العاطر رصاصة غادرة.
وكتب عبدالرحمن الشرقاوى، وفتحى رضوان، ومحمود البدوى، وأحمد حسين، وأليفة رفعت، وعباس خضر، ويوسف الشارونى، ومهدى علام، وخالد محيى الدين، ومصطفى أمين، ومصطفى بهجت بدوى، ومفيد فوزى، ونبيل زكى، ونعمات أحمد فؤاد، وغيرهم من كل ألوان الطيف السياسى، وكتب شعراء قصائد باكية فى تلك اللحظة الحزينة.
وكتب الشاعر الكبير أمل دنقل قصيدته «هذه الأرض وجهها عربى»، فى ذكرى مرور عام على استشهاده، التى قال فيها:
«لا أنادى بالثأر، أو أتحمس
إنما أطلب القصاص المقدس»

وهكذا كان أمل دنقل يرفض الإرهاب بكل عناصره المرعبة، لم يكن أمل دنقل شاعرًا يكتب إلا وفى رأسه ذلك الوعى السياسى الصحيح، وهو الرافض لكل أشكال التطبيع، وصاحب الكثير من شعر التمرد، لذلك أسموه «أمير شعراء الرفض»، ورغم ذلك وجدنا الأصدقاء الشعراء من جيلنا فى جماعة «أصوات»، يشنون عليه هجومًا ضاريًا عليه وعلى القصيدة، ونشر ذلك الهجوم فى ديوان «أعلن الفرح مولده» للشاعر محمد سليمان، الذى صدر فى شهر مارس ١٩٨٠، وجاء فى البيان المنشور فى آخر الديوان:
«.. والذى يعنينا هنا ذلك الدور الخطير الذى تلعبه وسائل الإعلام فى مجال الثقافة والإبداع، فعلى أرضية الشعر تحاول هذه الأجهزة- بمعاونة فرسان الأمس- دفع حركة الشعر العربى فى مصر إلى الردة والتخلى عن كل منجزات الثقافة العربية التقدمية، وذلك بتكريس جهدها لتثبيت مفهوم الشعر- التقليد.. الشعر- النظام، ليبدو بعدها الشاعر العربى وكأن كسب العيش هاجسه الرئيسى، مستلهمًا إرثه من النقاط المتخلفة فى التراث، حيث التكسب القائم على المعاداة- الضد «سميت فى تراثنا الشعرى، الهجاء»، أو المساندة- الـ مع «سميت المدح»، هذا التكسب أخذ يبدل ثوبه محتفظًا بجوهره، فالهجاء صار بمعاداة الفئة الحاكمة- لا الطبقة- والمدح صار بموالاتها، والشاعر العربى أصبح يتكسب بانحيازه، نورد كمثال- أمل دنقل- الذى اشترك بنونية عصماء فى مهرجان ذكرى يوسف السباعى متجاهلًا مغزاه:
«أسماء من قتلوك قد نسيت
ويظل يذكرك الملايين»
وما لبث أن انصرف بعض تابعيه إلى معارضته بعصماوات مماثلة، والمذكور هو نفسه الذى كتب من قبل قصيدة (لا تصالح)»..
لا أستدعى تلك الكتابة، أو المواقف، إلا للرصد فقط، للتأريخ فحسب، لا للإدانة، أو للتصفيق، فالخلاف بين أمل دنقل وشعراء السبعينيات كان له جذوره الفنية والفكرية، وربما السياسية أيضًا، سنفرد لها مساحة فى سياقات أخرى إن شاء الله.

هذه الأرض وجهها عربى.. قصيدة أمل دنقل
لست أنساك، واقفًا تتشمس
عند باب - من الغصون - مقوس
حيث المرة الأولى شاهدتك
تقبل الريح - كل يوم وتمضى الزهـ
وتميل الظلال، حتى كان الظل
وأرى فى نتيجة الحائط الأوراق
وبعينى أنت.. أنت بشوشًا
يعبر الآخرون حولى، وقلبى
سوف ألقاك فى مكانك مهما
سوف ألقاك واقفًا تتحدى
خلفك النيل صامتًا يتهاوى
وسأشكو إليك حزنى حتى
وأرى الصيف فى الشتاء، وأتلو
وأرى النور فى طريقى: أعمى
قولة الحق لم تدع لأديب
حلو الخطاب أنيق الملبس
ـــــور التى تجف وتيبس
طفل مكان ساقيك- ينعس
تهوى يومًا.. فيومًا.. وتكنس
ويكفى من سلامك ملمس
يبصر الوجه اليوسفى.. فيأنس
فصلت بيننا يد.. ومسدس
بابتسامتك الزمان- فيخرس
بينما أنت واقف تتشمس!
يزهر الحزن بى براعم نرجس
لغة الشمس كلما الليل عسعس
تائهًا- فى طريقه- يتحسس
شبر أرض فى الأرض كى يتنفس
لا أنادى بالثأر، أو أتحمس
إنما أطلب القصاص المقدس
لا تبصر الدماء ماء، ولكن
ليس من أطلق الرصاصة شعبًا
كنت تدعو للحب، وهو صبى
كنت تدعو للحب عبر زمان
ربما أصبحت هتافًا، ولكن
قد قرأت السلام، هل كنت فينا
أيعيث الغريب فينا فنغمض
وفلسطين نحن نحن بنوها
وفلسطين مثل مصر: عمودان
وفلسطين قبل مصر، إذا ما قالت
أعرف الآن أن قولى هذا
واشتروا زينة الحياة، وباعوا
ودعا الباطل القوى فأصغوا
غير أنى أدعو، كما كنت أدعو
مصر قلب العروبة المتحدى
رغم من يأكلون رغدًا، ومصر
مصر بوابة الجيوش، وشعب
هل ترى كل ما قرأنا عن الأسلاف
هل نسينا الكتاب حتى توارى
هل نسينا العهد الذى قطع
إن نسينا هذا: إذن سوف ننسى
عرب نحن مؤمنون.. ومهما
نحن إن نرفض الحروب فلسنا
هكذا كنت يا شهيد الليالى
تطلب الأرض عزة ورخا
هذه الأرض وجهها عربى
يا صديق السلام: هل كان قولى
قلت ما قلتك فاستثير عدو
وغريب أن يقتضيك الغريمان
قولة الحق لم تدع لأديب
نحن نحمى البرىء من أن يلمس
بل فتى بالحياة لم يتمرس
كانت الأرض بين عينيه تعبس
كلمة الحب لم تعد فيه تلبس
قيمة الحب أن يرق فيهمس
قارئًا آية السلام.. لنعكس؟
ويجىء الأخ الصغير فيرفس
لا يغار الثوار من كل أشوس
شقيقان فى البناء المؤسس
القول مصر فى كل مجلس
ليس يرضى الذين ملوا التحمس
زينة الموت عندما القلب أفلس
فانزوى الحق صامتًا يتوجس
وسأدعو على المدى لست أيأس
رغم ما كرسوه، أو يتكرس
تأكل الخبز بالدماء مغمس
ليس منه ذوو الفراء الأملس
كذبًا.. فى كل درس يدرس؟
أم قرأنا دون أن نتفرس
الخطاب، للناس.. عند بيت مقدس
يا فلسطين فيك: صلح المقوقس
زعق الزيف والسلاح المكدس
ننحنى للغزاة من عهد «أحمس»
تطلب الزهو للجبين المنكس
مثلما كنت قبل أن تتدنس
وبغير الهلال لن تتجنس
غير ما قلت؟ غير ما كنت تهجس؟
ظن معنى السلام أن يترأس!
قصاص الخيانة المتهوس
شبر أرض فى الأرض كى يتنفس
اصعد الآن للنجوم العوالى
أيها النجم ذو الشعاع المخمس
هم يقولون كيف لم يحرسوه؟
شرف الحرف وحده ديدبان
بعضنا قد يموت اغتيالًا
فاصعد الآن، إننا سوف نبقى
أى مجد لكاتب حين يحرس
شرف الحرف وحده يتقدس
بعضنا فيه قد يجوع، ويحبس
نحرس الحق أن يضيع ويطمس
إنها اليوم زهرة تتهاوى
وغدًا: ألف زهرة سوف تغرس!