الجمعة 10 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الدم المباح.. قراءة فى رواية «يوم آخر للقتل»

حرف

ما بين الواقع والخرافة تطالعنا الكاتبة هناء متولى فى روايتها لتؤسس «يوم آخر للقتل» لنا واقعية السرد بين الجرح والتكوين، وبين الأنا والخطاب اللا منطوق.

سارة عبر قدومها إلى قرية كوم الدببة تثير لاهوتية الدنس الفكرى عن المسكوت عنه الذى يخص النساء فى هذه القرية التى لا تجيد النساء فيها إخفاء الفضائح.

من الهروب من المجتمع إلى ترعة الجن والعفاريت، فكانت هذه الترعة ضرورة سردية مثلت تعويذة الخطاب الساقط من المجتمع، هؤلاء النسوة جميعًا، سارة وأسما وإنجى وسمية، كل هؤلاء كُنّ أزمنة تقع داخل الحدث وتحرك عالم الرواية لتشكل بنية الواقع الاجتماعى.

كما أن ضمير الغائب والراوى العليم للشخصيات جعل كل امرأة من هؤلاء النسوة تتماثل مع منظور الحرية والتسامح مع التراتب التقليدى لتحريرهن من الموروث الثقافى.

وحاولت الكاتبة عبر المبنى التمثيلى لسارة، عمدة الحدث وأبنيته، من التسلط الأبوى والأخوى، وحرمانها من الميراث، وهروبها مع أشرف ليصبح هو الآخر فضاء متحولًا لمشهد الزوج الخائن الذى لا يمتثل للرجولة بحرف فيضعها وابنها لتواجه مصير السقوط بين أحضان ممثل ذى أخلاق سيئة، إلى اختطاف ابنها وموتها بالبطىء لتكمل حادثة السقوط بالعودة إلى ترعة كوم الدببة، وتصيبها اللعنة بالمرض، ثم إلى أيادى المسكوت عنهم فى الترعة فى غموض واستسلام.

أما عن أسما، زوجة سامح، فقد أصابت المتلقى بنوبات الاكتئاب عينها التى عايشتها بتحولاتها النفسية من زوج يحل مشاكله دائمًا بتركها والنزول لوالديه، إلى غابة التحرش الجنسى باسم الدين من محفظ القرآن، والتى تحملت من أجل رفضها هذا السفه صفعات الأب عندما رفضت أن تكمل الحفظ، والتى بدورها طبعت لديها سياق وعى حول بناتها والخوف عليهن، فقامت بقص شعورهن، وبنيت السردية هنا ببراعة بين الفلاش الباك للذاكرة والمنولوج النفسى.

والتقط السرد مع إنجى أحداثًا استهلالية بين تخليص الفكر من قبضة التقاليد، والسقوط فى هيمنة الآخر والانحلال الفكرى والأخلاقى.

وفى وسط سطوة الاتباع الجامد تخلقت نسوة الترعة، من الطفلة الصغيرة إلى السيدة الخمسينية عميلة الترحيلات، تعود بنا الذاكرة إلى رواية «الحرام» لنتذكر كيف مثّل يوسف إدريس المساحة الإبداعية فى تلازم مستعار بين الأخلاق والخرافة وبين المجتمع والمرأة على وجه الخصوص.

استطاعت الكاتبة استجلاء واقتحام المسعى الإبداعى فى تباين ملامح السرد هنا بين علاقة المرأة بالمجتمع، والمعانى الجمعية للحرية الذى لا نستوعبها جميعًا وتضع علاقة تعدد أصوات النسوة فى فك شفرتها.

هناء متولي

ويبدو أن الحصول على الجنس من منظور السرد لهؤلاء النسوة له مسعى وظيفى فقط وليس مسعى «إيروسى»، ليعيد تشكيل وعى المرأة بجسدها من ناحية، ووعى الواقع بها.

فكل امرأة من هؤلاء النسوة كانت ترى جسدها من زاوية مختلفة وعبر المشاهد الوصفية لغنج الأجساد وجمال العيون، والشعر المسدول، هناك أرواح فى انهيار نفسى واجتماعى، فيصبح الجسد الجلاد الذى يضرب هؤلاء النسوة ليكُنّ ضحيته.

أو لنقل كيف تتجمع خيوط الأزمة فى دعوة للخروج من الصمت والانتظار إلى الفعل؟

فالصبية التى تعرضت للبصق من محمود لمجرد أنها رفضت أن تجعل يده تتلمس مفاتيح جسدها، هى بصقة فى وجه المجتمع الذى جعل ردة الفعل تساؤلًا ثم يتحول إلى خوف وهلع ثم غضب وتمرد ثم لعنة للموت بساقين منفرجتين.

الكاتبة برعت فى وصف ملامح أخرى للموت عبر الحضور المكانى «للترعة»، تلك الترعة التى سطرت التطور النوعى لعصرنة القرية، فوجدنا فى القرى الريفية ملامح للعصر الحديث من ظهور شبكات التواصل، والبلوجرز، إلى طبيب يخبرها بضرورة الذهاب لطبيب نفسى.

استبصار مفارق لمفاصل كوم الدببة، هل هى تلك القرية الريفية أم مجتمع مصغر من المجتمع الأكبر الذى دائمًا ما يجعل المرأة تجربة من المقاربات لتقديم وعى حركاتها الباطنية مستمرة؟!.

نسج السرد تقاليد مغايرة عن المألوف، مثلًا طقس السحر الذى تفعله النسوة كل شهر ليتقين شرور الترعة وما فيها، لتحولات سمية التى ادعت أنها نزلت إلى باطن الأرض مع الجان وساعدتها دجالة القرية مسعودة على ذلك القول.

كيف جعلت الكاتبة الخرافة هى الحقيقة التى يتداولها السرد وتخليق منطقة داخلية له؟

كيف جعلت الأسطورية للنداهة ميراث وعى تختبئ حوله خوفًا من الكشف عن الملامح المسيطرة على نفسية وجسدانية هؤلاء النسوة، فبدل من أن يكُنّ حراكًا فكريًا وجدليًا أصبح المجتمع لا يستطيع التقرب منهن خوفًا من أن تصيبهم اللعنة، لأن طوبايات المخفى وغير المنظور تحميهن.

وهنا نرى علاقة النص الروائى وهو يبنى جذرًا واقعيًا فى فعالية متبادلة بين الفانتازيا وإضافات الأسطورية لتكشف عن هشاشة نطاق الواقع، لتظهر لنا «فاطمة القتالة»، السرد هنا عبّر بكثافة شديدة عن إجابات بلا أسئلة جعلت هذه الأصوات تضمر أمام مشهد جنسى أصبح عتبة لأسطورة توارثت عبر الأجيال والأحفاد حتى بعد معرفتهم الحقيقة. الصورة تتحول إلى حركة ثم إلى مشهد قتل فج بالحرق لفتاة صغيرة يحمل لغة عصية عن التفكك والتحول.

كما أن اللغة التى يحملها النص من تأنيب تارة وتحذير تارة كلغة «أم إنجى» وهى تحذرها من الترعة، وأن سوء الأخلاق والانحراف سيؤدى حتمًا إلى الموت والفضيحة، خيارات مفتوحة لإسقاطات الآخر.

وكأن المرأة هى دائمًا عتبة الوعى المدنس، والحقيقة أن الكاتبة تخلصت بهدوء من تلك الإشكالية عبر تفجيرها فى السرد، بالصمت الخفى الدائم، عن عدد النسوة والصبايا اللائى قُتلنّ فى هذه الترعة حتى يموت رجل واحد، فتنقلب البلد رأسًا على عقب لمعرفة من الجانى ويجدون الحقيقة.

هذا الخلاف والتغاير الثقافى المجتمعى للفكرة مثّل صدمة للسرد واختلالًا للتراضى والإجماع بكل تلك الانزياح الاجتماعى الغريب..

فتطل علينا أزمة سارة مع ابنها، ربما سارة لم تنزع ثديها فقط بل نزعت كذلك الارتياب النفسى لزياد الذى مثّل السؤال الثانى من السرد: ما قيمة الهوية الجندرية هنا إن لم تكن فى الأصل قيمة إنسانية؟.

ولكى تفك الكاتبة الالتباس الفكرى بحضور المشهد الذكورى فى هذه الرواية بكونهم كهنة المعبد الذين يمنحون الخلاص مقابل اختراق جسد أنثوى أو بحث عن سياقات أثرية، تبرز لنا محن الحاضر، وأنه ما زالت ثقافة البحث عن الآثار بازغة فى العقول.

وهنا حاولت الكاتبة صنع تلك التيمة لتخبرنا عن مسارات الخيبة والفشل الدائم بدماء طاهرة تقدم كقربان، ورصد لن يفتح إلا بوطء امرأة تستوعب ما عجز عن البحث عنه ولم يجده.

وكذلك فى زاوية مقاييس معاناة سارة مع أشرف الذى هربت معه وتركها فى مكان يقع على أطراف البلاد، لتتحمل مسئوليتها النفسية والجسدية، وتتحمل مسئولية طفلها الصغير، ولا تستطيع الإفصاح عن الطلاق فى عرف مجتمعى فاسد لكنه واقعى اسمه «ضل راجل ولا ضل حيطة».

ومن هنا مثلت أيديولوجيا الرواية وعيًا يلامس البنية التحتية للخرافة، فأصبحت الخرافة هى الواقع، وعلى مدار السرد أصبح الخوف ليس من الجن واللعنة، بل الخوف، كل الخوف، من المجتمع الذى يستوعب تلك الممكنات الفكرية ويحولها لأسطورة.

يبدو أن الزمن تعانق مع تعددية الصراخ الداخلى المتعدد للنساء فى هذه الرواية، وأصبح الزمن هو الشاهد على الأحداث، زمن الموت المتعدد، زمن الترعة والكائنات غير المنظورة، زمن الصفعات المتتالية على وجوه النسوة سواء من رجالهن بتعدد وظائفهم أو المجتمع.

ويتحقق الواقع الفعلى للنص فى كوم الدببة بين الزمن الغامض الذى يتبعه السرد، وبين مرجعية حكاية سارة؛ الواقع الاجتماعى الذى يناقش من خلاله زمن كل امرأة، فزمن كونها صبية ثم زوجة ثم أمًا ثم طريدة الحزن، ثم زمن لقطات الترعة الأخيرة.

وكل تلك الأزمنة تحيل إلى فضاءات السرد المتعددة فى الرواية لتخبرنا أن النساء لا يُجدن ستر الفضائح، لأن الفضائح تسعى إلى هتك سترهن بأسماء مستعارة، كما أن المتخيل الخطابى الفلكلورى سمح بأن ينفتح على قصدية العنوان بوصفه «ظلًا» يحدد النص ويعرفه.

كما أنه يؤطر السياق الثقافى لشخصية سارة محور السرد حتى يمارس المعطيات اللفظية، ويسعى لتجاوز التأويل العقلى الذى يبحث عن دلالات عامة تتجاوز المعنى الحرفى لدلالة العنوان إلى وعى يكشف عن سياق فاعل، وإعادة إنتاج دلالة وافدة وفرضها فى الواقع السردى، تسمح لنا بممارسة القتل المباح كاستجابة لا تنتهى فى يوم آخر للقتل.