«التنظيم السري».. نجيب محفوظ «فى أثَر السيدة الجميلة»

- استسلم قلبى بلا قيد أو شرط كأنها غاية الدنيا وثمرتها النهائية
- المسألة بكل بساطة أننى عاجز عن الانفصال عنها مهما تكن العواقب

ذات صباح مبكِّر دافئ صادفتها عند منعطف البرج، وليس فى الطريق غيرنا سوى الكنَّاس. كنت قادمًا من المنعطف من ناحية، وهى قادمة من الناحية المقابلة وبيننا أشعة الشمس المشرقة تحبو فوق الأرض الخضراء.
ألقيت نظرة عابرة فشُدَّت بقوة باهرة؛ لتستقر فوق صفحة وجه ذات مواصفات خاصة لا جدوى من وصفها. الجميلات كثيرات، ولكنَّ إحداهن تُخصُّ بميزة سرِّية يتسلَّل منها إلى قلب ما نداءٌ مبهم لا يقاوَم. قوته الحقيقية فى الأمر الصادر منه، وقوته الحقيقية أيضًا فى الاستجابة الحارَّة إليه التى لا تفسير لها. من أجل ذلك وقعتُ أسيرًا بلا معركة، أو من خلال معركة لم أشعر بها قط. انشرح صدرى بقوة عجيبة، واستسلم قلبى بلا قيد أو شرط، كأنها غاية الدنيا وثمرتها النهائية، هى ما أريد، وما تعلو على جميع ما تَعِدُ به الدنيا من جاهٍ ومال وسعادة. ونسيت شواغلى جملة، وهموم اليوم والغد، وما كنت ماضيًا لأؤديه مما يمتُّ بصلة لأسرتى أو عملى. تلاشى كل شىء، ولم يبقَ إلا هذه الصورة العذبة المتوَّجة لجسم رشيق يمضى بها فى مشية معتدلة هادفة على مبعدة أمتار، وأنا فى أثرها مركِّز الوعى فى حركتها اللدنة المتتابعة. وهالنى وأثقل مهمتى هالة الجدِّيَّة التى تكسوها، ورصانة الخطو التى تحملها بعيدًا عن ألفة المرح وأمل القرب. تُرى ماذا أبغى؟
ولكننى أبغى شيئًا محددًا ولا أملك خطة واضحة. المسألة بكل بساطة أننى عاجز عن الانفصال عنها مهما تكن العواقب.
إنه أمر خطير فى الواقع. ليس لهوًا ولا عبثًا، ولكنه فقدان كامل للذات، واندفاع أهوَجُ فى سبيل جديد لم يلِجْ من قبل فى جدول أعمالى. ضعت بالطول والعرض، وأصبح الماضى كله فى خبر كان. وبعد مسيرة دقائق مالت الفتاة - أو المرأة - إلى المستشفى، ودخلت فواصلت سيرى أمتارًا ثم توقفت تحت شجرة. أتعمل فى المستشفى أم تعود مريضًا؟
لم أفكر فى الذهاب على أى حال، ولا فى التخلى عن أن أكون ظِلًّا لها.
وتذكرت فى فترة الانتظار حريتى، وبأنه لا يمكن إرجاع الزمن خطوة والإفاقة من هذه السَّكرة الغامرة؟!
ومن شدة شعورى بالأَسْر دعوت إرادتى أن تمدنى بالرعاية الواجبة، ووردت على ذاكرتى تجربة سابقة متشابهة، ولكنها بعيدة عن التطابق.

ثمة سحر كان، نفثته نظرة ساجية تحت ظلال حاجبين مقرونين وفترة جنون طال وفعل بى ما لا يُقال، ولكن التجربة الجديدة، رغم ذلك، جديدة تمامًا وغير مسبوقة بنوعها، ولا تبدو القديمة بالقياس إليها إلا «بروفة» باهتة. ومر وقت ثقيل قبل أن تُغادر المستشفى مقبلة نحو موقفى ماضية فى طريقها. ولدى مرورها بى تلقيت نظرة عابرة، فلم أدرِ إن كانت تذكَّرَتنى أم لا، وذهبتْ مجلَّلة بجدِّيَّتها ومناعتها وفِتنتها الغامضة، ساحبةً إياى وراءها.
وانقضَت حوالى نصف ساعة قبل أن يتراءى لنا ميدان التحرير. وصاحبنى تساؤل دائم عن جدوى إصرارى أو معناه أو الهدف منه، ولكنه لم يقلل من حدة نشاطى المندفع. وساورتنى احتمالات ممكنة كأن تستقل سيارة فتغيب عن أفقى، ولكننى لم أنثنِ عن السير. وأظنها على علم ما بمتابعتها، ولكنها لم تُبدِ عن أى ردة فعل، فضلًا عن أنها لا يعتريها تعب أو ضجر. وقلت لنفسى: إن محاولة التعارف خطوة لا بأس بها، وربما تمخَّضت عن جديد، وهى على أى حال خيرٌ من السير الأخرس. وأسرعت لألحق بها، وهمَمْت بالكلام عندما أقبل نحوها رجلٌ قوى البنيان فخم المنظر، وهو يهتف متهللًا: أشرقت الأنوار.
تصافحا بحرارة، فواصلتُ السير حتى وجدت مأوًى قريبًا وراء حجرة تفتيش كهربائية. وراقبت انهماكهما فى حديث غير مسموع. وأشار الرجل إلى محل «باباز»، فمضت برفقته إليه ثم اختفيا داخله.
أنْتظِرُ أم أدخُل؟
لبثت فترة تمزُّق وحيرة، ثم اقتحمتُ المحل كأنما أبحث عن شخص ما. وجعلت أجول فى الأركان ببصرى، فرأيتهما جالسَين حول مائدة، أمامها زجاجة بيبسى، وأمامه فنجان قهوة وهو باسط أمامه صفحة يتلوها بعناية، وتبادلا حديثًا حول التلاوة، فى الغالب. فدوَّن الرجل بعض الملاحظات، ثم صفق داعيًا الجرسون فأسرعتُ إلى الانتظار فى الخارج وخرجا فى أعقابى، فتصافحا أمام المحل، أما الرجل فرجع إلى الداخل، وأما المرأة فسارت نحو شارع خيرى، وفى الحال تحركتُ فى خَطِّى المرسوم.
وبعد مسيرة دقائق انحرفتْ نحو دكان ساعاتى، فوقفتُ تحت شجرة مستقبلًا حرارة متصاعدة وأصواتًا متضاربة، وزحمة تنقضُّ ما بين مركبات وآدميين، وكأنما الدنيا تقذف بأناسها وآلامها من جميع الأنواع والأشكال.
وغادرَتِ المحل بعد ربع ساعة، فتواصلت المطاردة المحمومة الخفيَّة.
كيف يتأتى لى أن أهمس فى أذنها بما أريد وسط هذا الانفجار الآدمى الآلى الذى يتعاظم بين دقيقة وأخرى تلهبه أشعة الشمس والأنفاس الحارة؟ رأيتها تتَّجه نحو «البنك الأهلى» وتغوص داخله، فتوقفت فى ضيق شديد، ثم دخلتُ وراءها متعللًا بفكِّ ورقة مالية. لمحتها تقف أمام شباك لعله لصرف الشيكات، ثم تقف جنب أريكة مكتظَّة تنتظر. ولبثت واقفًا، ولكننى خفت أن أثير ريبة فذهبت خارجًا، وانتظرت أمام بيَّاع جرائد ومطبوعات، رحت أتفحصها وأراقب باب البنك فى الوقت ذاته. حتى متى أستطيع اتقاء الشعور بالتعب؟
ها هو الوقت يمضى فى توتُّر أعصاب وتصلب عضلات. ثم تلوح فى باب البنك بشموخها الفطرى، فيخفق فؤادى بارتياح عابر عميق. أتبعها متجدِّد النشاط متحيِّن الفرصة للالتحام بها، ومهما كلفنى ذلك من مخاطرة. ولكنها مالت إلى السنترال. هذا مكان لا يثير الوجود فيه تساؤلًا أو ريبة. دخلتُ بجرأة، وانتظرت قريبًا من المدخل أتابع سعيها لطلب رَقْم ما. وسمعت العاملة وهى تقول لها «رقم ١١»، رأيتها وهى تدخل المقصورة وتسحب الباب خلفها. تُرى ألم يُفتن بها سواى؟ أى قضاء قُضِى به علىَّ هذا الصباح؟ ثمة تعب خفيف بدأ دبيبه فى ساقيَّ، وهناك شبح الإحباط أيضًا. وظل الشك المؤرق. ويوجد أيضًا شعور قائم بتفاهة كلِّ شىء خارج نطاق المغامرة المجنونة. ها هى خارجة من المقصورة بوجه مورَّد بالرضا. تحرَّكْ .. تحرَّكْ .. لا يجوز التراجع بعد ما كان.
لعلها نسِيَتنى تمامًا ولكن لا محيد عن السير، بلغ رِكابنا شارع طلعت حرب، فبلغ الزحام والحر أشده. ولا فرصة البتة للمناورة. أسبقها مرَّة وأتأخر عنها أكثر الوقت؛ لعلها تتذكر رجل البرج. لم أتمكن من قراءة أصابعها أهى متزوِّجة؟ مخطوبة؟ حرة؟ وصادفتها امرأة من معارفها فانتحيتا جانبًا، وتوقفتُ مائلًا نحو باب عمارة. ما أجمل ابتسامتها وأرشق إشارتها! وانتهى اللقاء فواصلتْ سيرها مارةً أمامى، لمحتنى ما فى ذلك شك. وكردٍّ على ذلك زادت من سرعتها ومن جدِّيَّتها. وأعود للتساؤل عن معنى ذلك. ولكن لا حيلة للعقل فى الموضوع كله. أو لعله يقرُّنى على سلوكى طالما أجد فيه أملًا أو سعادة. يقول لى: استمر إذا شئت، ولكن لا تتورط فى خطأ. وأصبح الشعور بالتعب واضحًا. وعرَّجتْ إلى شارع البورصة المكتظ بالسيارات الواقفة على جانبيه. ويقل الزحام هنا لدرجة تُغرى بالجرأة. ودون تردد أحث الخطى حتى أحاذيها فوق الطوار.
أنظر نحوها، فتتلقَّى نظرتى بعين متحفزة. أقول: هل …
ولكنها تقاطعنى بصرامة: احترمْ نفسك.
–أود أن أتشرَّف.
ولكنها لم تسمعنى غالبًا؛ لاندفاعها إلى الأمام. إنه رفضٌ صادق. تكاثف الإحباط والشعور بالتعب.
يجب أن أعدل عن مطاردة عقيمة، لكننى لم أستطع. إنه حكم مؤبد فيما بدا. ورأيتها تدخل مكتبة الفجر الجديد. دخلتُ وراءها مطمئنًّا كما دخلت السنترال، ورحت أُقلِّب عينى فى الكتب وأسترق النظر.
امتدت يدها البضة القمحية إلى كتاب «القوى الخفية». ابتسمتُ رغم القهر، وتناولتُ نسخة تحية لها. ثم تبعتها إلى الخارج كالمنوَّم. ودخلنا أيضًا صيدلية، واضطررت إلى ابتياع حُق أسبرين. بدأت قدماى تشكوان. توسطت الشمسُ السماء. عجبت لطول ما انقضى من النهار. ولم أجد أمامى إلا الحظ فلَعَنْته وتساءلت: على وجه مَن أصبحت اليوم؟ وعبرتنى عتمة الهواجس، فلم أدرِ كيف وصلنا إلى شارع التحرير. ورأيتها ماضية نحو مطعم «الشامى»، فسرعان ما نهشنى الجوع. وبجرأة اخترت مائدة مقابلة لها. ودون مبالاة غادرتْ مائدتها إلى أخرى فى أعماق المحل. صفعة متوقعة على أى حال. وأمرتْ بطبق شاورمة مع السلطة الخضراء، وختمتْ بفنجان قهوة. وأنا أرقب مدخل المحل بعناية وغمرتنى رغبة فى الاستلقاء، وعلى عكس ما قدَّرت استفحل إحساسى بالتعب. ولما رأيتها تتهادى خارجة قمت من فورى فتبعتها. وتريَّثتْ أمام محل أثاث لترى فى مرآةٍ معروضةٍ الطريقَ وراءها. ورأتنى بلا شك، وواصلت سيرها فى هالة تنطق بالغضب والاحتجاج. وصدَرت إليها إشارات من سيارات عابرة تدعوها للركوب، فتجاهلَتْها ومضتْ فى شموخ مَنيع. المصيبة أنها لا تكل ولا تمل ولا توحى بقصد هدف محدد. على الأقل هى تعلم، أما أنا فلا أعلم، وحتى اليأس القاطع تمنَّيته. وعثرت بشىء فوق الطوار فكدت أفقد توازنى، وارتطمت برَجُل قذفنى بجملة كالطعنة: «فتَّحْ عينك» وانضاف إلى الإرهاق العام إحساس بالظمأ ورغبة فى إفراغ المثانة، وبألم نصفى فى الرأس. وثمة تساؤل مقلق: هَبْها استجابت، فماذا عندى لأقدِّمه؟ لماذا يتمادى فىَّ الجنون بلا طائل؟ ورأيتها تتجه نحو حديقة «لبتون»، فتجدد أمل مُبهم. ووجدتها تمضى إلى مائدة عامرة بالرجال والنساء، وتُستقبل بمناورة بالغة. آثرت فى الحال أن أنتظر فى الخارج لشدة الزحام، ولكن حتى متى أنتظر؟ ما بى قوة، والصبر يتلاشى بسرعة. وتذكرت العمل الذى كان علىَّ أداؤه والمواعيد التى أخلفتها، والرسائل التى كان علىَّ تحريرها. ولكن ما جدوى الندم؟ واشتد ضغط المثانة، جُلْت بنظرة زائغة، اقتربت من سيارة واقفة. انهارت قوى المقاومة. استسلمت وأنا أتلفَّت. وعندما أخذت أُزرِّر البنطلون غمَرَنى ظل رجل طويل، مكفهر الوجه، صاح: على السيارة يا وقح!.

رمقته بعين خجول معتذرة، ولكنه دفعنى بغضب فترنحت فاقدًا صوابى، وبغير تقدير للأمر لطمته، فما كان منه إلا أن انهال علىَّ ضربًا، حتى تركنى على أسوأ حال. جعلت أمسح وجهى بمنديل وأُجفف به دمًا سال من أنفى، ثم أُسوى رباط الرقبة والسترة. أصبح منظرى زريًّا، وتضاعف تعبى وضعفى. علىَّ الآن أن أذهب بلا تردُّد، غير أننى لم أتحرك. حملت تعاستى ووقفت على ساقين تئنَّان من التوجع. ما زلت أنتظر وأُناجى جنونى البيِّن. وتهادت إلى سمعى أغنية «الزهر فى الروض ابتسم»، فتابعتها بأسًى لا يناسب معانيها بحال. وخطر ببالى بيت أبى العلاء:
فسلم إلى الله ربك فكل ما جاءك من عنده
غير أننى فكَّرت فى اغتيال الرجل الذى انهال علىَّ ضربًا، ولعلها أنسب نهاية لرحلة سخيفة عقيمة لا معنى لها. وانتبهت منزعجًا إلى ما حولى، وأنا أرى نُذُر المغيب تحدث بالوجود وتطوق جسدى الذى أنهكه السير وهاضَتْه اللكمات. ولأول مرة أفكر جادًّا فى الإقلاع عن جنونى والرجوع من خيبتى القوية.
وهممت بالتحرك عندما رأيتها تغادر مدخل الحديقة وحدها، وتتجه بخطوات ثابتة نحو شارع الشيخ ريحان. توهَّج الأمل من جديد فى قلبى الذابل، وتناسيت هواجسى وتبعتها وأنا أجُر نفسى جرًّا، وأُحِدُّ من بصرى المنجذب إلى ظهرها لتكاثف العتمة. وقُبيل نهاية الشارع بقليل فقدت ذاتى بغتة. لم أُدرك قبل مرور ثوانٍ أننى سقطت فى حفرة. زُلزلت مفاصلى، وفغمت خياشيمى رائحةٌ ترابية عميقة لم أعهدها من قبل. ولم يبقَ منى على السطح إلا عنقى ورأسى. حاولت الخروج ولكن خذلتنى قواى الخائرة.
وأرسل عينىَّ صوب المرأة بآخر ما أملك من طاقة على اللهفة، فلا أعثر لها على أثر. أفلتت إرادتى وأشواقى، وهيهات أن ألحق بها! الأمر يقتضى معجزة إن يكُن ثمة مجال للمعجزات.
وانتظرت أن يقترب منى عابر سبيل لأستنجد به. وبلغ منى الإعياء غايته، فأسندت رأسى إلى حافَة الحفرة مستسلمًا إلى قدرى.