تحقيق فى وثيقة عمرها 65 عامًا
مصنع الكاريكاتير..على أمين يكتب تاريخ «رخا» على مقاس أخبار اليوم

- صدقى باشا صب غضبه على الصحافة فكان يغلق عشرات الصحف بجرة قلم
- رخا أصدر مجلة «اشمعنى» دون ترخيص ورسمها وطبعها بنفسه لكن البوليس صادر النسخ
- رخا: فى السجن بدأت أبحث عن الله وأستنجد به وأعطانى الله صبرًا وأعطى أمى وزوجتى ما يكفى لشراء بضعة أرغفة من الخبز
- يقول عن تجربته بعد الحبس: فتحوا لى باب السجن الصغير وخرجت منه لأدخل السجن الكبير
- يُحسب لرخا فضل أنه من قام بتمصير فن الكاريكاتير المصرى
فى العام 1933 وقف رسام الكاريكاتير الشهير محمد عبدالمنعم رخا، المعروف فى أوساطنا الصحفية باسم «رخا» أمام القاضى متهمًا بالعيب فى الذات الملكية.
وقتها كان رخا يرسم فى أكثر من جريدة ومجلة، لكن الكاريكاتير الذى كان سببًا فى اتهامه بالعيب فى الذات الملكية نشرته جريدة اسمها «المشهور».
كانت إحدى شركات النقل الأجنبية المحتكرة لنقل الركاب بين أحياء القاهرة قد قامت بإهانة العمال المصريين وأساءت معاملتهم، فنظموا إضرابًا فى مواجهة إدارتها، أمر رئيس الوزراء إسماعيل صدقى بالقبض على العمال وإيداعهم السجن.
رسم رخا كاريكاتيرًا يقف فيه عامل وفى ظهره خنجر وقطرات الدم منثورة على ملابسه، وفى مواجهته يقف رئيس الشركة الأجنبية وإسماعيل صدقى فى زى رجل بوليس يصرخ فى وجهه: اوعى كده وسخت بدلة الخواجة بدمك الزفر.
نشر رئيس تحرير جريدة «المشهور» الكاريكاتير على الغلاف، وبعد أيام وبشكوى من رئيس الوزراء ورئيس الشركة، أمرت النيابة بالقبض على رخا، لكن النيابة عادت وأفرجت عنه لأن ما رسمه كان من باب النقد المباح.
قبل أن يتم الإفراج عن رخا نشرت جريدة «المشهور» رسمًا كاريكاتيريًا جديدًا له، لكن قبل أن يهنأ بحريته، عاد مرة أخرى إلى المحاكمة، فقد وجدوا مكتوبًا على حقيبة بطل الرسم كلامًا بخط صغير نصه «يسقط الملك فؤاد السكرى الحشاش».
تم الحكم على رخا بأربع سنوات، لكنه لم يستكمل مدته، حيث خرج من سجنه بعد وفاة الملك فؤاد فى أبريل 1936.
وأنا أقلب فى أوراق الأرشيف الصحفى المصرى الذى أحتفظ به، عثرت على ما يمكننى اعتباره وثيقة مهمة.
فقد نشر عبدالمنعم رخا جزءًا مهمًا من مذكراته فى مجلة الهلال عدد مارس 1962، وكان يرأس تحريرها وقتها الكاتب الصحفى على أمين، وشهدت المجلة على يديه نقلة نوعية فى عالم الصحافة الثقافية.

كان على أمين فى مجلة الهلال هو المحرك الأساسى لها، استطاع أن يقنع رؤساء تحرير الصحف جميعهم بأن يتحولوا إلى كتّاب دائمين فى مجلته، وهو ما لم يتكرر بعد ذلك أبدًا فى أى مطبوعة مصرية.
ورغم المحطات الكثيرة المهمة فى حياة رخا، فإنه بدأ مذكراته بهذه الواقعة، وصاغها بعذوبة شديدة، فلحظة السجن فى حياة الصحفى لحظة فارقة لا يكون بعدها كما كان قبلها أبدًا.
فى افتتاحية العدد الذى نشر فيه رخا مقاله المطول الذى نعتبره جزءًا مهمًا من مذكراته، كتب على أمين تحت عنوان «إلى عزيزى القارى» ما يمكننا اعتباره خريطة للعمل فى الهلال فى ذلك الوقت، فهو يطارد طوال الوقت العقاد وطه حسين وكامل الشناوى وإحسان عبدالقدوس وأنيس منصور ومحمد حسنين هيكل وسعيد عبده وناصر الدين النشاشيبى وأحمد بهاء الدين والرسام رخا، حتى يرسلوا بأعمالهم إليه.
لم يكن رخا من بين كتّاب الهلال، كان رسامها الأهم، ولذلك كان مقاله المطول غريبًا بعض الشىء، وعندما تأملت الأسلوب الذى كتب به قصته، وجدتنى على يقين أن على أمين هو من كتب المقال، ووقعه باسم رخا.
لكن ما رأيكم أن نقرأ بعض ما جاء فى هذه المذكرات قبل أن أقول لكم من أين جاءنى هذا اليقين؟
فى بداية مذكراته يقول رخا:
قال رئيس محكمة الجنايات: حكمت المحكمة بسجن محمد عبدالمنعم رخا أربع سنوات، ولم أصدق أذنى، تصورت أننى أحلم، فإننى أؤمن بالله، ولم أتصور أن تسمح السماء بسجن شاب برىء أربع سنوات فى جريمة لم يرتكبها، ولكن العناية كانت مشغولة عنى فى تلك اللحظة، فقد وضع السجان القيد الحديدى فى يدى وقادنى إلى سجن قرة ميدان، وألبسونى ملابس السجن، وأغلقوا باب زنزانتى، ورأيت طاقة فى سقف الزنزانة، فرحت أتطلع إليها، وأتعجل السماء، ولكن السماء اختفت وراء السحب، وتركت لى الظلام، ورقدت على الأسفلت، ورحت أستعرض شريط حياتى، وأبحث فى صفحات حياتى عن صفحة واحدة تبرر تخلى العدالة عنى.
يكشف رخا عما جرى، يقول: لقد حكموا علىّ بالسجن أربع سنوات لأننى رسمت صورة كاريكاتيرية كتبت عليها بخط صغير جدًا، لا تكاد تراه العين المجردة «يسقط الملك فؤاد»- لم يذكر رخا بقية الجملة التى كانت مكتوبة- وكلام غير مؤدب عن صاحبة العصمة والدة رئيس الوزراء، ولقد رسمت الصورة فعلًا، ولكننى لم أكتب هذا الكلام، ولكن خبير الخطوط الذى انتدبته المحكمة قدم تقريرًا يؤكد فيه أن الخط خطى، ولما سمع أصدقائى المحامون بتقرير الخبير، هربوا منى.. صدقوا الخبير ولم يصدقونى، ولم أفزع من هرب المحامين، فقد كنت واثقًا من عدالة القضاء، ولكن العدالة هربت من المحامين، وانتدبت محكمة الجنايات محاميًا يدافع عنى.

وقف المحامى فى المحكمة يطلب الرأفة، قال إن رخا شاب صغير السن- من مواليد ١٩١١ كان عمره وقتها ٢٢ عامًا- وأنه كتب هذه الكلمات النابية فى ساعة طيش، لم يعجب رخا ما قاله المحامى، فقرر أن يتصرف.
يقول رخا: قفزت من مقعدى وقلت للقضاة: إننى أرفض هذا الدفاع، إننى أرفض الرأفة وأطلب الحكم علىّ بأقصى العقوبة إذا كنت كاتب هذه الكلمات النابية، إننى أطعن فى تقرير هذا الخبير، بل أطعن فى كفايته، وأقدم لكم ثلاثة أحكام من محكمة النقض تقرر أن هذا الخبير بالذات قدم تقارير ثبت خطؤها فى ثلاث قضايا كبرى، إننى أطلب من المحكمة ندب خبراء آخرين لفحص هذه الخطوط.
رفض رئيس المحكمة طلب رخا، فطلب منه أن يعقد امتحانًا فى الجلسة للخبير، طلب من المحكمة أن تستكتبه فورًا وتستكتب الحاضرين فى الجلسة، وتعرض الخطوط على الخبير وتطلب منه أن يختار من بين الخطوط الخط الذى كتب الكلمات النابية على الرسم الكاريكاتيرى، ومرة ثانية رفض رئيس المحكمة طلبه.
يستكمل رخا حكايته مع المحكمة.
يقول: من الصدف العجيبة أن الشخص الذى اكتشفت بعد سنوات أنه هو الذى دس العبارات النابية فى رسمى الكاريكاتيرى كان يجلس فى قاعة المحكمة، لما طلبت من القضاة استكتاب كل الحاضرين وتقديم خطوطهم للخبير، ولو أن آلهة العدالة كانت تتبع ما يدور فى محكمة الجنايات فى تلك اللحظة، لألهمت القضاة بإجابة طلبى، ولتم القبض على الكاتب الحقيقى للعبارات النابية، ولأصدرت المحكمة حكمها بالإفراج عنى على الفور، ولو أن العدالة اهتمت بى، لما اختارت رئيس المحكمة لمحاكمتى، فلقد شاءت الأقدار أن يعيّن القاضى الذى ظلمنى ناظرًا لخاصة جلالة الملك بعد سجنى بأيام، وقد شاءت العدالة أن يحاكمنى القاضى المرشح للمنصب الكبير فى القصر الملكى بدلًا من ياسين أحمد باشا رئيس المحكمة الذى كان قد بدأ فعلًا فى نظر قضيتى، ولكن رئيس النيابة مرض فجأة وأجلت القضية، ثم سحبت قضيتى من أمام ياسين أحمد باشا وأحيلت إلى القاضى المرشح لمنصب ناظر الخاصة الملكية، وشفى رئيس النيابة على الفور.
الأسلوب المندفع بالجمل القصيرة هو من فعل على أمين، الذى مال إلى صناعة مظلمة لرخا، فهو دخل السجن مظلومًا، لم يتبرأ من الكاريكاتير، لكنه تبرأ من الجمل منزوعة الأدب، وادعى أن هناك من كتبها بدلًا منه، ليلفقوا له القضية.
لدينا هنا شاهد يؤكد أن رخا هو مَن كتب الألفاظ النابية.
تعالوا نذهب معًا إلى كامل الشناوى، ونفتح كتابه «زعماء وفنانون وأدباء»، حيث كتب تحت عنوان «الكاريكاتير علمنى»: فى عام ١٩٣٣ كنا جماعة من الشبان، نكره صدقى باشا ونتحمس للوفد، بكل ما فينا من تعصب واندفاع، وكان صدقى باشا رئيسًا للوزارة، وقد استعمل فى حكمه كل أساليب الضغط والتنكيل، وصب غضبه على الصحافة، فكان يغلق عشرات الصحف بجرة قلم، ويسوق أصحابها ومحرريها إلى السجون بتهمة العيب فى الذات الملكية، وكان مجرد توجيه هذه التهمة إلى شخص، كفيلًا بسجنه على الأقل رهن التحقيق.
وأصدر أحد الشبان الوفديين مجلة تنطق بلسان الشباب الوفدى، وكانت المجلة تحاول تقليد روزاليوسف فى أسلوبها الساخر، وكان ينقصها أن تقلد صاروخان.

وفى أحد الأيام جاء صاحب امتياز المجلة إلى النادى السعدى، وهو يتهلل فرحًا ومعه بضع رسومات، وعرضها على الموجودين، فأعجبوا بها وأجمعوا على أنها مثل صور صاروخان، وقال صاحب الامتياز إن هذه الصور لشاب يقلد صاروخان أحسن تقليد، وعرفنا أن اسمه المختصر «رخا»، واسمه الكامل محمد عبدالمنعم رخا، وقال إن رخا شخص موهوب، لم يضع وقته فى تكملة الدراسة، واشتغل بالرسم الكاريكاتيرى، وظهرت صور رخا، وأعجب بها القراء، وكان هدف رخا محاكاة صاروخان، فهو ينقل الملامح كما يرسمها صاروخان، ويترسم حركة يده فى الرسم والتعبير.
ورسم رخا صورة لصدقى باشا، وكتب فيها بحروف دقيقة عبارات تناولت الملك فؤاد، وثار الملك فؤاد، وقدم رخا إلى المحاكمة ودخل السجن، وأمضى فيه أربع سنوات، وكنا مشفقين عليه من أن ينسيه السجن موهبته فى الرسم.
وخرج رخا من السجن، وإذا به ينسى فعلًا موهبته فى تقليد صاروخان، وإذا السجن الذى أنساه تقليد غيره يذكره بنفسه، فيهديه إلى موهبته الأصيلة الكامنة فيه، موهبة الفنان الخالق المبتكر، وخرج إلى الشارع فلقى ابن البلد وبنت البلد وعاش فيهما وعاشا فيه، فصور بنت البلد بالبرقع والملاية اللف، والجمال الذى يريد أن يقول نعم، ولا يستطيع أن يقول غير «لا»، وصور ابن البلد بجلبابه البسيط النظيف وذكائه الفطرى، وكفاحه، ونبضات قلبه، وخلجات نفسه، بل استطاع أن يصور نبرة صوته، هذا الصوت المبحوح من طول ما صاح وشكا وهتف.
فى عمر الثانية عشرة بدأ رخا يعرف أن الرسم سيكون قدره
انتهت شهادة كامل الشناوى الذى أقر بأن رخا كان هو من كتب الكلمات التى عوقب بسببها، لكن يبدو أن على أمين كاتب المذكرات، أو على الأقل محررها، أراد أن يبرىء رخا من الكتابة المعيبة، ويحتفظ له بصورته البراقة اللامعة، وفى اعتقادى لو أن رخا هو من كتب مذكراته لاعترف بما فعله.
حتى هذه اللحظة كان رخا قد قطع شوطًا لا بأس فيه فى عالم الصحافة، واستحق بما بدأ يقدمه أن يكون هو مَن مصّر الكاريكاتير المصرى، فقد كان هو رائده الأول، بعد عقود من سيطرة الأجانب عليه.

سبق رخا فى عالم الكاريكاتير ثلاثة من الرسامين الأجانب الذين يعتبرون رواد الكاريكاتير فى مصر، وهم: سانتيس الإسبانى وكان يرسم فى مجلة «الكشكول»، ورفقى التركى الذى كان يرسم فى دار «الهلال»، والثالث صاروخان الذى كان يرسم فى «روزاليوسف» قبل أن يستقر فى الأخبار، ثم جاء رخا الذى يكتب باسمه بدايات الكاريكاتير المصرى.
كان والده يعمل قاضيًا شرعيًا لكنه توفى قبل أن يراه فعندما مات كان عمره عامًا ونصف
رخا من أبناء محافظة القليوبية، كان والده يعمل قاضيًا شرعيًا، لكنه توفى قبل أن يراه، فعندما مات كان عمره عامًا ونصف، فانتقلت الأسرة إلى القاهرة وأقامت فى حى باب الشعرية.
فى عمر الثانية عشرة بدأ رخا يعرف أن الرسم سيكون قدره، بدأ بتقليد رسومات المجلات التى كانت تصل إلى يديه، يدلنا هو على ما جرى.
يقول: ولدت يتيمًا وفى فمى ملعقة من ذهب، ولكن الملعقة لم تلبث طويلًا بين شفتى، فقد كانت أمى غير متعلمة، واستطاع إخوتى غير الأشقاء أن يخطفوا الملعقة الذهبية من فمى، ويضعوا مكانها ملعقة من الخشب، فقد أوصى والدى لى بأربعة وعشرين فدانًا، وطعن إخوتى فى الوصية وأخذوا منى ١٤ فدانًا وتركوا لى سبعة أفدنة.
لم يكن رخا سيد قراره فى حياته، وحتى أمه لم تكن كذلك، ظهرت فى حياته امرأة أطلق عليها «ملكة الجن».
يقول: كانت ملكة الجن تقتسم مع أمى إيراد السبعة أفدنة، فقد كانت جلالتها تصر على أن تأخذ من أمى ثمن الاستشارات التى تقدمها حولى مستقبلى، وكانت «ست هانم» هى كبيرة وصيفات صاحبة الجلالة، وكانت تزور أمى وتتلقى أسئلتها وثمن الاستشارة، ثم تعود لها بتعليمات صاحبة الجلالة، فقد كانت أمى تؤمن بالعفاريت وعلى رأسهم ملكة الجن، وقد اختارت لى صاحبة الجلالة ملكة الجن مدرسة باب الشعرية.. ثم اختارت لى المدرسة الخديوية.
فى المدرسة الخديوية ظلت هواية الرسم تشغله وأفقدته التركيز للدرجة التى رسب معها ثلاث سنوات فى السنة الأولى
حاول رخا أن يقنع صاحبة الجلالة ملكة الجن بأنه يهوى الرسم ويجيد رسم أبطال مجلة «الأولاد» فى قصص «دان» ودورا» ووقائعهما المشهورة، وأبولخجة ومنذور وسرفاتى المصوراتى، ولهذا يجب أن يدخل مدرسة الفنون الجميلة، لكنها رفضت.
يقول رخا: قالت كبيرة الوصيفات «ست هانم» إن ملكة الجن ترى أن لا مستقبل لى فى الفنون الجميلة، وأن مكانى فى مدرسة الخديوية، وأعلنت الثورة على صاحبة الجلالة، وحدث أن كنت أسيرًا فى شارع درب الجماميز، فرأيت فى محل تجارى صغير نسناسًا للبيع، وسألت عن ثمنه، فقال التاجر إن ثمنه خمسون قرشًا، وجلست طوال اليوم الدراسى أفكر كيف أحصل على هذا المبلغ الضخم، وكان فى درج مكتبى قاموس ضخم عربى- إنجليزى، مكتوب عليه أن ثمنه خمسون قرشًا، فعرضت على التاجر أن يأخذ القاموس ويعطينى النسناس فرفض، وعرضت على المكتبة المجاورة أن تشترى القاموس، فوافق صاحبها على شرائه بخمسة قروش فقط.
كانت هذه فرصة لأن يتخلص رخا من سطوة ملكة الجن.

يقول: رحت أهرش رأسى، وأخيرًا وجدت حلًا، ذهبت إلى أمى وقلت لها إن القاموس ضاع منى، وطلبت منها خمسين قرشًا لأشترى قاموسًا جديدًا، ولكن دستور بيتنا كان يمنع صرف مثل هذا المبلغ الضخم إلا بعد صدور مرسوم ملكى، وعرضت أمى الأمر على كبيرة الوصيفات، التى رفعت الأمر إلى جلالة ملكة الجن، فأذنت جلالتها بصرف خمسين قرشًا لشراء قاموس بدلًا من القاموس المسروق، وعندما سمعت «ست هانم» تبلغ الأمر الملكى لأمى كفرت بصاحبة الجلالة.
اكتشف رخا أن ملكة الجنة ليست إلا نصابة ومحتالة، لأنه من غير المعقول وهى ملكة الجن لا تعرف أن القاموس لا يزال فى درج مكتبه، وأنه يريد الخمسين قرشًا لشراء نسناس، فقرر أن يسترد قراره وحريته أيضًا.
يقول رخا: قررت فى تلك اللحظة أن أدرس الرسم سرًا فى مدرسة الفنون، فما دامت صاحبة الجلالة لم تعرف حكاية النسناس، فإنها لن تعرف أننى دخلت مدرسة الفنون، وساعدنى فى اتخاذ هذا القرار معلم الكيمياء بالمدرسة الخديوية، وأنه يجب أن ألتحق فورًا بمدرسة الفنون الجميلة، ولما قلت لمعلم الكيمياء إن أسرتى تعارض بشدة دخولى مدرسة الفنون، اقترح أن ألتحق فى السر بمدرسة الفنون الإيطالية، قال لى: إنها مدرسة ليلية وإن الدراسة فيها أربعة أيام فى الأسبوع.
لكن كيف اكتشف مدرس الكيمياء موهبة رخا؟
هنا يمكن أن نبتعد عن مذكراته التى نشرها فى مجلة «الهلال» ونستمع إلى ما قاله فى أحد حواراته الصحفية.
فى المدرسة الخديوية ظلت هواية الرسم تشغله، وأفقدته التركيز للدرجة التى رسب معها ثلاث سنوات فى السنة الأولى، حتى وقع الحادث الذى غيّر مجرى حياته.
يقول رخا: طلب منى زميلى بالفصل تبديل الأماكن، وجلس مكانى، وأثناء الحصة فتح زميلى درج مكتبى، وإذا به يرى مجموعة من الرسومات فأخذ يتأملها، وهنا لمحه مدرس الكيمياء واقترب منه وهو غاضب، ونزع منه الرسومات بعنف، وهنا صاح زميلى بأن الرسومات ليست له، وأشار علىّ بما يعنى أنها تخصنى، وتوجه نحوى المدرس مبتسمًا، ونصحنى بالالتحاق بالقسم الحر فى مدرسة «ليوناردو دافنشى» الإيطالية.
كنت أذهب إلى المدرسة فى غير مواعيد الدراسة لأرسم فيها
صادفت رخا مشكلة أخرى، وهى مشكلة رسوم دخول مدرسة الفنون الإيطالية، وكانت خمسين قرشًا، ففكر فى أن يضيع القاموس مرة أخرى، ثم عدل عن الفكرة، وقرر أن يبيع النسناس ويدخل المدرسة.
يقول رخا: انتظمت فى المدرسة الإيطالية وأحببت دروسها إلى درجة أننى كنت أذهب إليها فى غير مواعيد الدراسة لأرسم فيها، وأحبنى الأساتذة وأحببتهم.. وأحببت الرسم، وصرت رسامًا يُعجب التلاميذ والمعلمون برسومه الكاريكاتيرية ويضحكون عليها، وبدأت أبحث عن مكان أرسم فيه، فوجدت عمالقة الرسم يحتلون كل المجلات، وفجأة سمعت أن الشيخ محمد يونس القاضى محرر مجلة «الأولاد» اختلف مع صاحبها وينوى أن يُصدر مجلة جديدة باسم «الفنان»، وعرضت نفسى على الشيخ يونس فوافق على إلحاقى رسامًا للمجلة بخمسين قرشًا فى الأسبوع، وبعملية حسابية بسيطة اكتشفت أننى أستطيع أن أشترى أربعة نسانيس فى الشهر.. فوافقت على الأجر على الفور.

لم تطب الدنيا لرخا، فقد أفلست المجلة بعد ثلاثة أعداد فقط، لكنه كان قد عرف الطريق.
يقول فى مذكراته: انتقلت إلى مجلة «النونو» التى أصدرها جمال الدين حافظ عوض لينافس بها مجلة «الأولاد»، وماتت مجلة «النونو».. وعاشت رسوماتى، فقد لمع اسمى كرسام يتقاضى ٥٠ قرشًا فى الأسبوع، ثم ارتفع سعرى فى المجلات، ووصل إلى ١٢ جنيهًا فى الشهر فى مجلتى «الصباح، وأبوالهول»، ثم انخفض إلى ستة جنيهات، ثم ارتفع إلى ٨ جنيهات فى مجلة «البلاغ» الأسبوعية، ثم حوّلت نفسى من رسام إلى مصنع رسومات، كنت أرسم بالجملة والقطاعى داخل المجلات الأسبوعية التى تصدر بين أسوان والإسكندرية وبورسعيد، وأصبحت قاسمًا مشتركًا فى كل المجلات الأسبوعية، وبدأ الطربوش يضيق برأسى من غرورى.
كان من غرور رخا أنه بدأ ينظر إلى المجلات التى يعمل فيها على أنها عبارة عن رسوم كاريكاتيرية يرسمها الرسام المعروف رخا، وكلام فارغ يكتبه بعض الصحفيين غير المعروفين، وهو ما دفعه إلى أن يبيع السبعة أفدنة التى ورثها وقرر أن يكون صاحب مجلة.
يحكى رخا فى مذكراته: رفضت حكومة محمد محمود باشا منحى رخصة باسم مجلة «اشمعنى»، وقد اخترت هذا الاسم لأننى كنت أقول لنفسى فى كل ساعات الليل والنهار «اشمعنى» عبدالقادر حمزة يملك جريدة؟ «اشمعنى» جبرائيل تقلا يملك جريدة؟ اشمعنى كل أصدقائك يملكون مجلات وجرائد، والرسام المعروف جدًا رخا لا يملك مجلة أو جريدة؟ ولم أعبأ برفض الحكومة، وقررت أن أصدر مجلتى دون ترخيص، ورسمت مجلتى وطبعتها، وأعددت نسخها، وفجأة جاء البوليس وصادر كل نسخ مجلة «اشمعنى»، وأصبحت شهيدًا من شهداء الحكومة، وقررت أن أستأجر شقة أستقبل فيها المعجبين بالشهداء، وكان مكتب الشهيد فى ميدان الأزهار، فوق سوق الخضار، وجاء المعجبون واحدًا واحدًا.
كان من بين زوار رخا مصطفى وعلى أمين، فزاد غروره، وتصور أن الشعب يتعجل سقوط الحكومة حتى يقرأ مجلة «اشمعنى»، وسقطت حكومة محمد محمود وجاءت حكومة عدلى يكن، فأعاد الدستور ومنح رخا رخصة لمجلة «اشمعنى».
عاد رخا للعمل، يقول: رسمت صور العدد الأول وأعددته للطبع، ثم ذهبت إلى ملك الصحافة أسأله عن عدد النسخ التى أطبعها، فنصحنى بأن أطبع ستة آلاف نسخة حتى ينفد العدد فى لحظات، ويرتفع ثمنه فى السوق السوداء إلى نصف ريال وإلى ريال، فيصبح حديث الناس، وطبعت النسخ المطلوبة وذهبت إلى قهوة فى عابدين حيث سلمتها لصاحب الجلالة ملك الصحافة.
لم يكن ملك الصحافة الذى يتحدث عنه رخا إلا المعلم «على الفهلوى» الذى كان يحكم الصحافة كلها من قهوة صغيرة يملكها، يجلس عليها بجلبابه ويتحكم فى توزيع كل جرائد مصر ومجلاتها، رغم أنه كان لا يقرأ ولا يكتب.

يستكمل رخا: قدمت لجلالته نسخ مجلتى، فقلب إحدى نسخها بين يديه ثم قال لى: أبشر.. بكرة افتتاح البرلمان.. موش ح يفضل ولا نسخة، لقد اخترت أحسن يوم لصدور مجلتك.. أبشر.. أبشر، وطرت من الفرح، وأقمت حفلة تكريم لنفسى استغرقت حتى الفجر، واستيقظت فى الساعة الحادية عشرة صباحًا، وخرجت إلى الشوارع لأسمع باعة الصحف ينادون باسمى، وأسرعت إلى التليفون أسأل ملك الصحافة عن مصير مجلتى.. وأشكو من أن الباعة لا ينادون عليها، فقال لى ملك الصحافة المعلم على الفهلوى: مافضلش فى السوق ولا نسخة.. نفدت النسخ بعد ربع ساعة من ظهورها فى السوق، ارفع عدد النسخ المطبوعة ألفى نسخة فى العدد الثانى.. وأقمت لنفسى حفلة تكريم.
لم يكن الأمر ورديًا إلى هذه الدرجة.
يقول رخا: سلمت لملك الصحافة ٨ آلاف نسخة من العدد الثانى، وسألت عن حساب العدد الأول، فقال لى المعلم الفهلوى إنه سيسلمنى حساب العدد الأول عندما يتسلم نسخ العدد الثالث، وسألت صاحب الجلالة: أطبع كم نسخة من العدد الثالث؟ ففكر قليلًا ثم قال: ارفع عدد المطبوع ألفين كمان، اطبع عشرة آلاف نسخة، وأقمت لنفسى حفلة تكريم، وبدأت أفكر فى إصدار جريدة صباحية وجريدة مسائية، وحملت عشرة آلاف نسخة من العدد الثالث وذهبت بها إلى ملك الصحافة، وكان جالسًا فى قهوته وحوله مقاطف مليئة بالقطع الفضية من ذات الخمسة قروش والعشرة قروش، وبدأت أعد مقاطف الفضة التى حولى وأحسب مئات الجنيهات التى ستدخل جيبى، وطلب المعلم الفهلوى واحد قهوة، وبدأت أشربها ببطء وأفكر كيف سأحمل كل هذه المقاطف إلى إدارة مجلتى، هل أستأجر تاكسى أو عربة لورى؟
ما حدث كان ساخرًا بقدر السخرية التى وضعها رخا فى أعداد مجلته الثلاثة.
يقول: بدأت أتصور أن اللصوص ستهاجم فى الطريق قافلتى التى تحمل ألوف الجنيهات وتسرق ثمن العدد الأول من مجلة «اشمعنى»، وفكرت أن أستعين بالبوليس، ولكننى خشيت أن يسرق بعض عساكر البوليس مقطفًا أو مقطفين أثناء نقل الفضة من عابدين إلى باب اللوق، وقررت بينى وبين نفسى أن أنقل مقاطف الفضة مقطفًا مقطفًا حتى أتفادى العصابات التى تنتظرنى فى الطريق العام.
سأل ملك الصحافة رخا: أجيب لك فنجان قهوة؟
فرد: متشكر.. أنا عاوز الحساب.
فقال الفهلوى باستنكار: حساب إيه؟
أشار رخا إلى المقاطف المليئة بالفضة، وقال: حساب العدد الأول؟
فرد ملك الصحافة: أنا مكسوف منك، لأن إيراد العدد الأول أقل من جنيه، من سوء بختك، أن العدد الأول ظهر يوم افتتاح البرلمان، الناس كانت مشغولة بالبرلمان، ونسيت إن فيه مجلة جديدة فى السوق، لو كنت استشرتنى كنت نصحتك بعدم عرض مجلتك الجديدة يوم افتتاح البرلمان.

وبحسرة يقول رخا: نسى ملك الصحافة أنه قال لى إنه يوم افتتاح البرلمان هو أحسن يوم لصدور العدد الأول من مجلتى، وفقدت النطق، ووقف ملك الصحافة معلنًا عن انتهاء المقابلة، ووضع يده فى جيبه وأعطانى جنيهًا وهو يقول: خد الجنيه.. ولو أننا مابعناش يا أستاذ بجنيه، وأخدت الجنيه ومشيت، فقد كان هذا الجنيه هو كل ما بقى من رأسمالى، وخف «ورم» رأسى، وأصبحت تدخل فى الطربوش، وعلمنى ملك الصحافة، الدرس الأول فى الصحافة، وهو أننى لا أصلح صاحب مجلة، وعدت رسامًا، أملأ المجلات برسومى وضحكاتى.
ويعود رخا إلى اللحظة المفصلية فى حياته، عندما وقف فى المحكمة يدافع عن حريته، ونعود معه إلى هذه التجربة لأنها ستكون نقطة انطلاقه الكبيرة.
يقول: فى عام ١٩٣٣ كنت أوزع الزكاة على عدد من المجلات، وبينها مجلة «المشهور» التى يصدرها الأمير السابق عباس حليم رئيس حزب العمال، وفى أحد الأيام أضرب عمال شركة أتوبيس «ثورنكروفت» بسبب سوء معاملة الشركة، فضربهم رجال البوليس وقبضوا عليهم، ورسمت على غلافة مجلة «المشهور» صورة كاريكاتيرية للمدير الأجنبى يضرب عاملًا بخنجر فى ظهره وقد سال دمه، ورسمت رئيس الوزراء فى ملابس عسكرى بوليس يجرى نحو العامل المصاب ويقول له: وكمان وسخت بدلة الخواجة بدمك الزفر؟
ويضيف رخا: أمرت النيابة بالقبض علىّ، وقبل أن أذهب إلى النيابة رسمت عدة رسوم كاريكاتيرية وسلمتها لصاحب مجلة «المشهور»، حتى لا تتعطل المجلة فى حالة اعتقالى، وحبستنى النيابة ثلاثة أيام، وفى اليوم الرابع قال لى رئيس النيابة: أقسم لك يا رخا إننى سأفرج عنك خلال يومين، وفى اليوم الخامس جاءنى السجان وقال لى: عاوزينك، وحمدت الله أننى سأخرج من سجنى، ورحت أوزع الضحكات على المسجونين والسجانين، واستوقفنى نائب مأمور السجن محمود طلعت وسألنى عن سبب سعادتى، فقلت له: مبسوط لأنه تقرر الإفراج عنى.
اندهش طلعت وقال لرخا: إفراج إيه؟ ده أنت وقعت فى مصيبة، ثم أخذه من يده إلى مكتبه وأخرج من الدرج العدد الجديد من مجلة «المشهور» وسأله: أنت رسمت الصورة دى؟ فقال رخا: طبعًا.. دى صورتى، مافيهاش حاجة، دى صورة محرر يحمل أوراقًا، فسأله طلعت: هل قرأت الكتابة المكتوبة على الورق؟ فدقق رخا فى الصورة، فإذا به يقرأ حروفًا صغيرة تقول: يسقط الملك، وكلام غير مؤدب عن صاحبة العصمة والدة رئيس الوزراء، قلت لطلعت: ليس هذا خطى، فقال: هل أنت واثق من هذا؟، فقلت: طبعًا، قال: ما دام كده.. فالعدالة فى صفك، ولكن نائب المأمور كان متفائلًا.
يقول رخا: بدأت أبحث عن الله وأستنجد به، وأعطانى الله صبرًا، وأعطى أمى وزوجتى ما يكفى لشراء بضعة أرغفة من الخبز وقطعة جبن كل يوم، وأعطانى القدرة على أن أضحك من نفسى، وأضحك مع كل من حولى، لقد نسيت ظلمى، نسيت أننى مظلوم، ورحت أحاول أن أرسم أبوابًا مفتوحة فى زنزانتى، وأتصور أننى طليق، وأن السجان هو السجين، وأن مفاتيح الزنزانة عندى، فقد رسمت المفاتيح على أرض الزنزانة، وفى كل ليلة كنت أرقد على الأرض وأغمض عينىّ، وأتصور أننى أمضى ليلة فى مسرح الريحانى أو فى مسرح رمسيس أو فى صالة بديعة، وكنت أسمع فى زنزانتى ضحكات نجيب الريحانى، وصراخ يوسف وهبى، وأرى تحية كاريوكا وهى ترقص، وكنت أضحك مع الريحانى وأبكى مع يوسف وهبى، وأتلوى مع تحية كاريوكا، وفى الصباح كنت أرسم صورًا كاريكاتيرية فى الخيال، وأعجب بها وأضحك مع أبطالها، وكانت ضحكاتى تثير دهشة المساجين والسجانين.. ولكنهم بعد فترة راحوا يضحكون معى على الدنيا، واختارنى مأمور السجن خطاطًا للسجن، وأعطانى حبرًا وورقًا وطلب منى أن أعيد كتابة لافتات السجن بخط جميل، حجرة المأمور، حجرة نائب المأمور، المستشفى، العنبر رقم واحد، العنبر رقم اثنين.
تحايل رخا حتى لا يعود إلى الزنزانة، وأخذ من الكتابة حجة، يقول: كتبت كلمتى «حجرة المأمور» فى سبعة أيام، وكلمة المستشفى فى أسبوعين، وكلمات «العنبر رقم واحد» فى شهر، فقد كنت أعرف أننى إذا انتهيت من كتابة لافتات السجن، سأعود إلى زنزانتى، ولذلك كان حرف «الحاء» يستغرق منى ٨ ساعات على الأقل، وكنت أمضى وقتى فى التحدث إلى المساجين وأسمع قصصهم وأرسم صورهم وأحلّق معهم فى أحلامهم.
خرج رخا من السجن فى ١١ ديسمبر ١٩٣٦.
لم تكن الحياة سهلة بعد الخروج من السجن، يقول: فتحوا لى باب السجن الصغير، وخرجت منه لأدخل السجن الكبير، إنه سجن الحياة المحاط بالأبواب المغلقة، ورحت أطرق باب آخر مجلة كنت أعمل بها وأتقاضى منها مرتبًا شهريًا قدره ثلاثون جنيهًا، وفتحوا لى الباب على الفور، وأجلسونى فى مكتبى وبدأت أرسم، وجاء أول يناير، فاعتذر الصراف بأن اسمى لم يرد فى كشف المرتبات، وجاء أول فبراير، فاكتشفت أن مرتبى انخفض من ثلاثين جنيهًا إلى ستة جنيهات فى الشهر، فقد نزلت قيمتى فى بورصة الصحافة، أصبحت رسامًا له سابقة.

جمع رخا أوراقه وتوجه إلى مجلة «روزاليوسف»، وبدأ هناك من جديد بمرتب ٨ جنيهات فى الشهر فقط.
يحكى عن هذه المرحلة، يقول: كانت السيدة روز اليوسف تعانى أزمة مالية حادة، وكانت تعارض الحكومة القائمة، وكانت الحكومة تدعو إلى مقاطعة المجلة وترسل لها المظاهرات كل يوم تضربها بالطوب، وعجزت روز اليوسف عن دفع مرتبى الضخم، ولكننى بقيت بجانبها أقاسمها الفقر والطوب، وكانت السيدة روز اليوسف تتقاسم معى كل أسبوع كل ما فى حقيبة يدها من نقود، وفى بعض الأسابيع كان ما فى حقيبتها ٥٠ قرشًا، كانت تحتفظ بنصفها، وتعطينى النصف الثانى، وكانت قروشًا فيها بركة، فقد كانت تعيش فى جيبى أكثر من الجنيهات التى كنت أتقاضاها قبل دخولى السجن، وتدفق الحبر على الورق، وسال العرق على وجهى، وكان عرقًا لذيذًا مريحًا، ينسينى الجوع والطوب، ورحت أضحك وأملأ الدنيا بضحكاتى، وتحولت مرة أخرى من رسام إلى مصنع رسومات، أملأ المجلات التى تصدر برسومى وضحكاتى ودموعى.
الآن نصل معًا إلى محطة رخا مع مصطفى وعلى أمين.
فى مذكرات رخا المنشورة فى «الهلال» نعرف أنه عمل مع مصطفى وعلى أمين فى مجلة «الإثنين» من العام ١٩٤١ حتى العام ١٩٤٤ بمرتب يتأرجح بين ١٠ و١٢ جنيهًا، ولما خرجا من دار الهلال ليصدرا جريدة «أخبار اليوم»، خرج معهما، لتبدأ فى حياته المرحلة الأهم.
يقول عن هذه المرحلة: اكتشفت بعد خروجى أن على أمين أصيب بالجنون وقرر أن يصدر «أخبار اليوم» الأسبوعية بحجم الجرائد اليومية لا بحجم المجلات الأسبوعية، وحاولت أن أعيد عقله إلى رأسه، ففشلت، لقد ركب رأسه، وأصر على أن تصدر «أخبار اليوم» بالحجم الكبير، ورأيت بروفة العدد الأول، فبكيت، قرأت فى البروفة نعى مجلة أخبار اليوم، وذهبت إلى الشاب العاقل مصطفى أمين أحاول إقناعه بالعدول عن الحجم الكبير والعودة إلى الحجم الصغير، فإذا الأخ التوأم أكثر جنونًا من على أمين، وبكيت على حلم أخبار اليوم، وإذا بى أكتشف أن القراء أكثر جنونًا من مصطفى وعلى أمين، وإذا بالعدد الأول يبيع ١٢٦ ألف نسخة، وتصبح «المرحومة» أوسع الصحف انتشارًا، وتوقعت أن يعقل القراء فى العدد الثانى، ولكن زاد جنونهم، واستمرت «أخبار اليوم» أوسع الصحف اليومية والأسبوعية انتتشارًا.
استدعى مصطفى أمين رخا إلى مكتبه وقال له: عاوز مرتب كام؟
قال له: ١٢ جنيهًا لو أمكن.
فرد مصطفى: لقد قررنا لك مرتبًا قدره ١٢٠ جنيهًا.
فقال رخا: أنتم مجانين.
ويضيف رخا: رحت أحذره من تفاؤل موزعى الصحف، وأروى له تجاربى مع المعلم على الفهلوى، وكيف أنه أفهمنى بعد صدور العدد الأول من مجلة «اشمعنى» أنه نفد من السوق بعد صدوره بربع ساعة، وحذرته من زكائب الفضة التى قد يتصور كما تصورت أنه سيحملها إلى إدارة الجريدة، ورويت له كيف أن إيرادى من مجلة «اشمعنى» كان جنيهًا واحدًا، وحذرته من الإغراق فى التفاؤل.

بدأ حوار الفصال بين مصطفى ورخا.
مصطفى: نحن نكسب ألف جنيه كل عدد.
رخا: إن هذا النجاح لن يدوم.. ولهذا أنا أرفض أن أقبض أكثر من ١٢ جنيهًا.
مصطفى: طيب خد مئة جنيه.
رخا: أبدًا.. مستحيل.
مصطفى: قال: طيب ٧٥ جنيهًا.
رخا: أبدًا.. أنا لا أقبل الفصال أو المساومة.
ويختم رخا ما كتبه عن بعض ذكرياته بقوله: راح مصطفى أمين يحايلنى ويساومنى حتى رضيت أن أقبض ٢٥ جنيهًا فى الشهر، واستمر جنون القراء، وانتقل الجنون إلى مصطفى وعلى أمين فرفعا مرتبى من ٢٥ جنيهًا إلى مئة جنيه ثم إلى مئتى جنيه ثم إلى مئتين وخمسين جنيهًا، وفى خلال الـ١٦ سنة، كنت أتوقع أن يعقل القراء، وينخفض توزيع «أخبار اليوم» ولكن جنون القراء راح يتضاعف على مر السنين والأعوام، وفى فترة اشتغالى بدار «أخبار اليوم» تحولت من مصنع رسومات إلى رسام ثم إلى فنان.. ثم إلى محمد عبدالمنعم رخا.
كان هذا هو كل ما ذكره رخا عن علاقته بالتوأم مصطفى وعلى أمين، ويبدو أن على أمين الذى أميل إلى أنه من حرر هذه المذكرات اكتفى بهذا القدر منها.
لكن عندما فتشت فى حياة رخا وجدت أن هناك تفاصيل أخرى.
فى العام ١٩٤٩ كتب مصطفى أمين مقالًا مطولًا عن رخا، قال فيه: زاد توزيع مجلة روزاليوسف عشرة أضعاف بسبب الكاريكاتير الذى كان يرسمه صاروخان ويضع فكرته الصحفى محمد التابعى، ومن بعد التابعى كنت أضع الفكرة، وحين أصبحت رئيس تحرير مجلة «الإثنين» تذكرت الفنان محمد عبدالمنعم رخا الذى كان يقوم برسم غلاف مجلة «التلميذ»، التى كنت أحررها وأنا طالب، استدعيته لكى يرسم المجلة، وبعد أن كان يرسم صورة واحدة بدأ يرسم أكثر من عشر صور داخل العدد الواحد.
ويضيف مصطفى: نجح رخا واكتسح صاروخان وبدأت مرحلة جديدة من العلاقة الحميمة بينى وبينه، وحينما بدأت إصدار «أخبار اليوم» كان رخا يعمل فى دار «الهلال» ودون أن يخبرنى قدم استقالته وانضم إلى «أخبار اليوم» دون أن يسألنى عن مرتبه، وانتشرت الرسوم الكاريكاتيرية لرخا فى «أخبار اليوم» ومجلة «آخر ساعة» ومجلة «الجيل» التى كانت تصدرها الأخبار، وبالرغم من وجود عدد من رسامى الكاريكاتير كانوا موجودين ومنهم سانتس، وهو إسبانى الجنسية، ورفقى وهو تركى، وصاروخان الأرمنى، ولم يكن بينهم مصرى واحد نبغ فى مجال فن السخرية، وبذلك يعد محمد رخا أول مصرى ينبغ فى هذا الفن.
أما رخا قيتحدث عن علاقته بعلى ومصطفى أمين، فيقول: تحولت من رسام إلى مصنع رسومات، أملأ المجلات والصحف التى تصدر برسومى وضحكاتى ودموعى وأحزانى، وفكرت فى استئجار مكتب فى سوق الخضار بباب اللوق، وهناك التقيت صديقى عمرى على ومصطفى أمين، فذات يوم وأنا جالس بمكتبى دخل علىّ طالب لا يزيد عمره على ١٤ سنة يرتدى قميصًا و«شورت»، عرفنى بنفسه قائلًا اسمى مصطفى أمين وأريد منك عدة رسوم كاريكاتيرية لمجلة «التلميذ» التى أصدرها أنا وأخى على أمين لطلبة المدارس، وأعطانى أفكارًا لعدة صور أرسمها و٩٠ قرشًا ثمنًا لها، طلبت منه أن يأتى فى اليوم الثالث لاستلامها، وحضر واستلمها، وبعدها بساعتين جاء يطلبها، فقلت له ماذا جرى لقد أخذتها منذ ساعتين.

كان على يعرف رخا مبكرًا إذن، لكنه عندما قرر أن يصيغ جزءًا من مذكراته، تجاهل البدايات وقرر أن يكتب فقط ما يمجد به أخبار اليوم، وكان هذا طبيعيًا، فقد كان عبدالناصر قد أمم الصحف، وأُخذت أخبار اليوم من على ومصطفى، وكان يحرص على التأكيد على أهمية التجربة، وقد يكون أخذها فرصة، فوضع على لسان رخا ما يؤكد بها عبقرية وتفرد أخبار اليوم.
وإذا كان يُحسب لرخا فضل أنه من قام بتمصير فن الكاريكاتير المصرى، وصناعة شخصيات مصرية حتى النخاع، جعلها أبطالًا يعرفها الناس جيدًا، فيُحسب له أيضًا أنه كان صاحب فضل إدخال الرسامين المصريين إلى نقابة الصحفيين، ليصبحوا أعضاء عاملين فيها.
فعندما كان رخا يعمل فى مجلة «الإثنين» قرر أن يتقدم إلى نقابة الصحفيين ليحصل على عضويتها.
على هامش المحاولة عاد شبح القضية التى سجن بسببها رخا.
يقول: بعد سجنى بست سنوات، تقدمت إلى لجنة الجدول أطلب قيدى فى نقابة الصحفيين، وكان رئيس اللجنة هو المستشار ياسين أحمد باشا، فقال لى: عندما بدأت أقرأ قضيتك وقفت على نقطة غريبة، فقد لاحظت أننى لم أستطع قراءة الكلمات النابية المكتوبة على الرسم إلا بعد الاستعانة بمنظار مكبر، وسكرتير رئيس الوزراء الذى قدم البلاغ ضدك، قدم البلاغ من مستشفى الدكتور صبحى عقب إجراء عملية جراحية دقيقة فى عينيه، فكيف استطاع هذا السكرتير أن يقرأ هذه الحروف الصغيرة؟ لقد أحسست عند هذه النقطة، بأن القضية قد لفقت ضدك، وكان يهمنى أن أحقق هذه الواقعة، ولكن آلهة العدالة كانت مشغولة بما هو أهم منى، فلم تفتح عيون القضاة على هذه الواقعة الخطيرة.
تقدم رخا إلى نقابة الصحفيين بطلب العضوية، وكان النقيب وقتها فكرى أباظة، رفضت النقابة طلبه وكانت الحجة أنه رسام وليس محررًا.
اعترض رخا على رفض النقابة، وكتب تظلمًا قال فيه إن اللجنة التى اعترضت على حصوله على العضوية أخطأت بقرارها، فرسام الكاريكاتير يقول رأيه بالخطوط بدلًا من الكلمات، وطلب إعادة النظر فى القرار، وتضامن معه عدد من الصحفيين، من بينهم محمود أبوالفتح وعبدالقادر حمزة ومصطفى أمين.
انتصر رخا على نقابة الصحفيين وأصبح واحدًا من أعضائها، بل أصبح عضوًا فى مجلسها خلال ٢٢ دورة متتالية، وأصبح الرسام بفضله عضوًا فى نقابة الصحفيين.