صالح جودت يكتب في مجلة «الهلال»..
كاتب السيرة.. هل يحق لقلمه أن يدخل غرفة النوم؟

- درس فرانك هاريس القانون فى الولايات المتحدة ثم ذهب إلى ألمانيا
- فرانك هاريس تحدث عن غزواته فى عالم المرأة منذ أن أدرك الثالثة عشرة

هل يحق لكاتب التاريخ الأدبى أن ينطلق كالثور فى متحف الخزف، فيقتحم البيوت ويدخل الصالونات ويرفع الستائر ويتسلل إلى غرف النوم، ويشهد الأدباء والشعراء وهم عرايا، ويصورهم للناس، هم ومن حولهم؟
هكذا انطلق الأديب الكبير «فرانك هاريس» فى مطلع هذا القرن، وخرج من انطلاقته بكتاب جرد فيه نفسه، وجرد كل معاصريه من الأدباء من ملابسهم، وأخرجهم عرايا للناس، فى خمسة مجلدات!
اسم الكتاب: حياتى وغرامياتى
وقد ظل تداول هذا الكتاب محظورًا أربعين سنة كاملة، إلى أن أتيح له أن يخرج إلى النور مرة أخرى فى هذه الأيام، ليعرض علينا هذا الأديب الكبير، الذى هو المؤلف نفسه، فى صورة رجل عارم الشهوات، مستهتر بكثير من القيم.
وقد يكون من حق الأديب أن يعرض نفسه على الناس فى أى صورة، ويقول، كما قال فرانك هاريس، فى مقدمة كتابه: «لقد قررت أن أقول الحق.. كل الحق.. ولا شىء غير الحق. عن حجيجى فى هذه الدنيا.. عن نفسى وعن الآخرين.. وسأحاول أن أكون رفيقًا بالآخرين قدر رفقى بنفسى.. على الأقل».
أقول.. قد يكون من حقه أن يعرض نفسه على الناس فى أى صورة.. ولكن.. ليس من حقه أبدًا أن يعرض الآخرين على الناس فى الصورة التى يختارها هو لهم.
لقد قرأ الآخرون كتابه يومئذ، فاقشعرت أبدانهم من برد العرى، وقال أيتون سانكلير: هذا أوقح كتاب وقعت عليه عيناى!
وقال هـ.ج. ويلز: إن مؤلف هذا الكتاب عجوز أنانى، كثير التركيز على نفسه، موصوم بجنون الجنس!
ويبدو أن فرانك هاريس قد وضع كتابه هذا بعد أن سمع مثلنا الدارج الذى يقول إن التاجر ينبش دفاتره القديمة عندما يفلس... وقد نبش فرانك هاريس دفاتره القديمة، فوجدها حافلة بكثير من أسماء أصدقائه، إذ كان بطبيعته كثير الاختلاط بالمجتمع، فأوشك أن يعرف كل رجل له شىء من القدر فى المجتمعين الأمريكى والإنجليزى، وأن يتسلل إلى الحياة الخاصة لكل من عرفهم.
ومن هنا توافرت له مادة هذا الكتاب، الذى كتبه فى أسوأ ظروف حياته.
درس فرانك هاريس القانون فى الولايات المتحدة، ثم ذهب إلى ألمانيا، حيث عكف على دراسة جوته وهاينى وشكسبير.
وسرى إلى زعمه بعد ذلك أنه حجة العالم الأول فى شكسبير. فكتب كتابًا عنوانه «شكسبير.. الرجل».. أوحى فيه بأن شكسبير لم يكن إلا رجلًا متقدمًا حلت فيه روح المؤلف نفسه- أى فرانك هاريس- آخذًا بنظرية تناسخ الأرواح!
ولما بلغ السابعة والعشرين، عاد إلى لندن، ولمع فى مجال الصحافة، وسرعان ما قفز إلى منصب رئيس تحرير جريدة «إيفننج نيوز».
وفى سنة ١٨٩٤، اشترى مجلة «ساتارداى ريفيو».. وتألق بها.. وجعل جورج برنارد شو ناقدها المسرحى، كما أسهم فى تحريرها أعلام جيله، من أمثال بيريوم، وولز، وكونراد.
وواصلت المجلة تألقها أربع سنوات كاملات، إلى أن باعها بأكثر من خمسين ألفًا من الجنيهات، ودارت عليه الدوائر فيما تلا ذلك من العمر، فهوى إلى حضيض الفقر، وتمرغ اسمه فى التراب، وخاض عدة محاولات يائسة لاسترداد مكانه فى دنيا الأدب على غير طائل.
ومن هنا، بدا له أن يراجع دفاتره القديمة، ويكتب كتابه هذا «حياتى وغرامياتى».. مستعينًا بذكرياته عن نفسه وعمن عرفهم.. ومع أنه وعد بأنه يقول الحق، كل الحق، ولا شىء غير الحق، فإنه لم يورد ذكرًا لسنوات الحضيض فى حياته!

لم يذكر إلا غزواته وانتصاراته فى عالم المرأة. وكما كان يعتقد أنه حجة فى شكسبير، كذلك زعم أنه حجة الحجج فى عالم المرأة، لا يضارعه أحد فى إدراك حقائقها النفسية والجسدية، ولا يلحق به رجل فى إتقان صناعة الحب.
ومع هذا.. فإنك حينما تقرأ هذا الكتاب، تستطيع أن تقرأ بين سطوره أن هزائمه فى عالم المرأة كانت أكثر من انتصاراته، وأن المغامرة كانت أحب إليه من الحب، وأنه حينما بلغ وسط العمر، أصبح ألهية فى أنظار الصغار، ولم يستطع أن يواصل الطريق الذى طالما تحدث عنه فى قوله: أنا لا أشترى الحب... لقد مارس الحب منذ الثالثة عشرة من عمره، مجانًا، حتى بلغ وسط العمر، وعندئذ عرف كيف يشترى الحب بالمال!

أما حديثه عن الآخرين، الذى جلب عليه سخطهم وسخط العالم، وفرض الحظر على كتابه أربعين سنة، ففى رأينا أنه لون من التاريخ الأدبى لا يجوز له أن يوجد فى كتب السير بهذه الجرأة.
ولقد تحدث فرانك هاريس عن صاحبه «راسكين»، فقال إن الناس جميعًا يعرفون عجزه الجنسى الكامل.
وتحدث عن توماس كارليل.. فقال إن طبيبًا معروفًا فحص «جين» زوجة توماس كارليل، فى يوبيل زواجها الفضى- أى بعد زواجها بخمس وعشرين سنة- فوجدها عذراء لم يمسسها بشر!
وقال عن الكاتب الفرنسى المشهور «جى دى موباسان» إنه جن فى آخر أيامه، من أثر الزهرى، ومات به!
ليس حديثنا عن هذا الكتاب إلا مدخلًا لما يجوز لكاتب السيرة الأدبية أن يتناوله من حياة المترجم له.
وصحيح أن كاتب السيرة الأدبية، إذا أراد أن ينصف أدب من يكتب عنه، وجب عليه أن يلم بكل ظروف حياته، من طفولته إلى نهايته، وأن يدرس جميع العادات الجسدية والنفسية والاجتماعية.
ولكن.. ليس لتأريخ الأدب أن يخلو من أدب التأريخ..
وليس من أدب التأريخ أن يتناول كاتب السيرة ما يدق من تفاصيل الحياة الخاصة للمترجم له، إلا بالقدر اليسير الذى لا بد من تناوله، لانعكاسه بالذات على عمل أدبى معين أنتجه المترجم له وهو واقع تحت تأثير نفسى أو جسدى خاص.
ثم إن هذا التناول يجب أن يجىء بطريقة مهذبة، وفى أسلوب عف، ولا سيما إذا كان المترجم له قد رحل عن هذه الدنيا، فلم يعد يملك الدفاع عن نفسه.
ولا يجوز لكاتب السيرة أن يلقى الاتهام بطريق القطع، إلا إذا كانت بين يديه وثيقة يعرضها على القراء.
ففى حالة كحالة توماس كارليل، صاحب كتاب «الأبطال».. مثلًا.. ما كان يجوز لفرانك هاريس أن يجرد السيدة جون كارليل من ثيابها أمام الناس على مدى الأجيال، ليروا أنها بقيت عذراء حتى يوبيلها الفضى، إلا فى أربعة حدود لازمة:
أولًا: لو أن فرانك هاريس تأكد من أن الخطأ الجسدى فى هذه الحالة كان خطأ توماس كارليل نفسه، فقد يكون الخطأ فى جسد «جين» نفسها.
ثانيًا: وأن تكون هذه الحالة القائمة بين الرجل- توماس كارليل- وزوجته على مدى السنين، منذ يوم زواجهما إلى يوبيلها الفضى- على الأقل- قد وجهت إنتاج كارليل وجهة خاصة، كأن تكون قد دفعته إلى عبادة الروح وتقديس بطولات الأنبياء والقديسين.
ثالثًا: وألا يكتفى فرانك هاريس- ككاتب سيرة- بأن يقول إنه سمع من أحد الأطباء أن جين كارليل قد بقيت عذراء حتى يوبيلها الفضى، دون أن يذكر لنا اسم هذا الطبيب الوغد الذى أباح لنفسه أن يخون قسم الطب، ويتحدث عن جسد سيدة ائتمنته على فحصها ورؤية تفاصيل جسدها.. ودون وثيقة مكتوبة تثبت هذه الحالة.
رابعًا: وأن يلتزم فرانك هاريس، ككاتب سيرة، وهو يتعرض لمثل هذه الحالة وقد توافرت لها كل هذه الحدود الثلاثة السابقة، أدب التأريخ، بأن يتخير لها اللغة التى تميز الأديب على غير الأديب.
ولهذا، أرانى أقف إلى جانب أيتون سانكلير وهو يقول، بعد انتهى من قراءة الكتاب: هذا أوقح كتاب وقعت عليه عيناى!
إن واجب الجماعات الأدبية فى كل زمان وفى كل مكان أن تحمى حرمات المعاصرين والراحلين، ما دامت تستحق الحماية.
وأقول هذا التعبير، لأن هناك حرمات لا تستحق الحماية، هى حرمات الأدباء الذين استباحوا هم أنفهسم حرمات، كصاحبنا هذا، فرانك هاريس، الذى تحدث عن غزواته فى عالم المرأة منذ أن أدرك الثالثة عشرة.
ومثله فى هذا- فى أدبنا العربى- مثل أبى نواس، الذى تحدث عن حماقاته فى صراحة وجرأة إلى حد أنه خلد هذه الحماقات، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من سيرته، وعاملًا لا ينفصم من عوامل تحليل أدبه وشعره.

فإذا قام اليوم من يكتب سيرة أبى نواس، فتعرض لهذه الحماقات، فليس لنا أن نلوم كاتب هذه السيرة لأنه فعل هذا، لأن أبا نواس نفسه قد أباح سيرته لقلمه، وبالتالى لكل قلم.
وكذلك عمر الخيام.. ولكن بقدر.
لقد بدأ الخيام رباعياته بذكر الخمر، وما زال يردد ذكرها حتى لا تكاد تخلو رباعية واحدة من رباعياته من ذكر الخمر.
إذن.. لقد كان الرجل سكيرًا، ولا يدفع عنه هذه التهمة ما فى شعره من تصوف، ولا يدفعها عنه قول البعض إنه ما قصد إلا خمرة الروح، فالذى يقول:
هات أسقنيها أيهذا النديم
أخضب من الوجه اصفرار الهموم
وإن أمت فاجعل غسولى الطلى
وقد نعشى من فروع الكروم.
والذى يقول:
ثلاثة هن أحب المنى
كأس، وأنغام، ووجه صبوح.
والذى يقول:
يا تارك الخمر لماذا تلوم
دعنى إلى ربى الغفور الرحيم
ولا تفاخر بهجر الطلى
فأنت جان فى سواها لئيم.
والذى يقول:
يحلو ارتشاف الخمر عند الربيع
ونشر أزهار الروابى يضوع.
والذى يقول:
لم أشرب الخمر ابتغاء الطرب
ولا دعتنى قلة فى الأدب
لكن إحساسى نزاعًا إلى
إطلاق نفسى كان كل السبب.

الذى يقول هذا كله، ويميز الخمر بألوانها وصفاتها وخصائصها، ويحدد أوانها بالربيع، ويفسر أثرها فى إطلاق النفس، لا يكون شرابه إلا الخمر بنت الكروم، لا خمرة الروح.
ولهذا، فإنه يحق لدارس شعر الخيام، بل يجب عليه، وهو يكتب سيرة الرجل، أن يتحدث عنه كسكير، ولا حرج عليه فى هذا، لأن رائحة النبيذ تنبعث من كل رباعية من رباعيات الخيام، ولأن هذه الرائحة هى سر فلسفته التى فتنت الوجود.
وعلى هذا، فليس لنا أن نلوم كاتب سيرة كهارولد لام، الكابت الإنجليزى المعروف الذى وضع أجمل كتاب عن حياة الخيام، إذا هو لم يرع حرمة الخيام فى هذا الصدد، ما دام الخيام نفسه لم يرع هذه الحرمة.
وقد خرج هارولد لام بأصدق تحليل لفلسفة الخيام، وأرسى جسرًا معقولًا بين إيمانه وزندقته، إذ قال إن الخيام كان يسكر فيفكر، ثم يفيق فيندم!
هذه هى الحدود المباحة لكاتب السيرة من سيرة الخيام.
وقد حاول هارولد لام أن يتوغل إلى ما وراء هذه الحدود، ويصل إلى المرأة التى كان رأسها يرقد على كتف الخيام، وتشاركه فى نبيذه، وتستمع إلى رباعياته، فقال لنا إن اسمها «ياسمى».. ولعله اختصار لياسمين.. وقال إن بعضهم ذكر أن اسمها عائشة.
ولكن هارولد لام وقف عند هذا الحد، ولم يفعل ما فعل فرانك هاريس.
لم يقل لنا إن ياسمى، أو عائشة، قد ظلت عذراء لم يمسسها بشر حتى يوبيلها الفضى. وكان يستطيع أن يقول هذا لو أنه نزل إلى درك فرانك هاريس. وكان يستطيع أن يظفر بحجة يؤكد بها ما يقول، إذ إن الخيام- رغم وجود هذه المرأة فى حياته- مات ولم يخلف ولدًا ولا بنتًا.

ولكن هارولد لام وقف عند هذا الحد، لإدراكه أن أدب التاريخ خصيصة من صميم خصائص تأريخ الأدب.
على أن الخيام نفسه- على سكره- لم يفعل بنفسه ما فعل غيره من أمثال أبى نواس أو بودلير أو فرانك هاريس بأنفسهم.
الخيام لم يحدثنا عن حبيبته هذه إلا فى أقل المناسبات، وبألطف الصفات المبهمة، فى مثل قوله «يا منى خاطرى» أو «أيهذا النديم».. أو:
بات نديمى ذو الثنايا الوضاح
وبينا زهر أنيق وراح
وافتض عن لؤلؤ أصدافها
فافتر فى الآفاق ثغر الصباح
أو فى قوله يخاطبها:
زجاجة الخمر ونصف الرغيف
وما حوى ديوان شعر طريف
أحب لى إن كنت لى مؤنسا
فى بلقع، من كل ملك منيف.
أعنى أن كاتب السيرة لا يستطيع، مهما أوغل فى هذه الرباعيات، أن يستشف صورة واضحة المعالم للسيدة ياسمى، أو عائشة، لأن صاحبها قد صانها عن العيون، رغم أنه فضح نفسه كمدمن خمر.
ولهذا يتحتم على كاتب السيرة أن يقف عند الحد الذى أوقفه عنده عمر الخيام، وأمانة السرد وأدب التأريخ.

...
إننا لا نريد أن يضيع حديثنا عن أدب التأريخ هباء منثورًا.
نريد أن نضع جماعاتنا الأدبية دستورًا للترجمة لحياة الناس، الأحياء منهم والأموات، بحيث لا تدخل أقلام كتاب السيرة غرف النوم!