بـرلين.. التقشف على الطريقة الألمانية
- تخفيض تمويل العمل الشبابى وخدمات المشردين
قبل أسابيع من وصولى إلى العاصمة الألمانية برلين، لجأت إلى محرك البحث جوجل للبحث عن جوانب الحياة الثقافية بالمدينة. وأعددت بالفعل قائمة بالأماكن التى ينبغى على زيارتها. لم أكتف بهذا فقط، بل تواصلت مع الأصدقاء ذوى الاهتمامات الثقافية من المقيمين بالمدينة لكى أستعلم عن أى فعاليات مزمع عقدها أثناء فترة إقامتى.
كان أكثر ما أبهرنى هو مبادرة Museumssonntag والتى مثلت واحدًا من أهم شرايين الحياة الثقافية فى برلين، لأنها تتيح لسكان المدينة وزائريها زيارة أكثر من 95% من متاحفها مجانًا فى أول يوم أحد من كل شهر. قررت الاستفادة من هذه المبادرة، لأنها ستوفر لى مبالغ طائلة. فكما قرأت قبل وصولى أن تذكرة دخول المتحف الواحد تتراوح ما بين 10 و13 يورو والذى - كما يفعل كل مغترب مقارنة نفقاته بعملة بلده - يساوى ما يقارب الـ500 - 750 جنيهًا مصريًا فى زيارة المتحف الواحد. وبالمقارنة وجدت أن المتاحف فى مصر والتى تمثل وجهة تعليمية وثقافية وتاريخية تتاح للجميع بأسعار رمزية أو فى متناول كل من المواطن والسائح.
بدأت مبادرة الـMuseumssonntag أو «المتاحف المفتوحة» تحديدًا فى يونيو ٢٠٢١ وعلى مدار ثلاث سنوات ونصف السنة حققت نجاحًا باهرًا. فقد تم تسجيل ما يقرب من مليونى زيارة استفادت من هذا الدخول المجانى. كما قدمت المبادرة أيضًا تجارب ثرية مثل ورش عمل وحفلات موسيقية وجولات إرشادية. كنت مأخوذة بهذه المبادرة التى كسرت الحواجز أمام التواصل الثقافى ووضع الفن والتاريخ فى متناول الجميع.
أصبت بإحباط شديد لأننى لم أستغل الأحد الأول من نوفمبر - نظرًا لارتباطات عمل حالت دون ذلك - فلم يصبح أمامى سوى الأحد الأخير أثناء زيارتى والذى كان سيوافق الأول من ديسمبر ٢٠٢٤. ولكن قبل هذا التاريخ بأسبوعين، أعلنت المدينة عن إلغاء هذه المبادرة توفيرًا للنفقات بدءًا من ذلك التاريخ! فأصبح ذلك اليوم - بجرة قلم - ليس فقط فرصتى الوحيدة لزيارة هذه المتاحف بل فرصة جميع سكان وزوار مدينة برلين!
وهكذا قررت أن أقضى ذلك الأحد الأخير فى متاحف المدينة وبفضول الصحفيين ذهبت لتدوين ملاحظات الزوار عن هذه المبادرة وقرار إلغائها المفاجئ. فى ذلك الأحد الأخير كانت المتاحف تعج بمئات الزوار، وامتدت الطوابير لعشرات الأمتار. كان الحضور متنوعًا حقًا. عائلات، شباب، كبار السن، سياح من مختلف الأعمار، كلهم جاءوا ليودعوا هذا التقليد الثقافى المحبوب.
التحمت مع الناس فى أحد الطوابير الطويلة أمام «متحف ثقافات العالم»، وبدأت أتجاذب أطراف الحديث مع جيرانى بالطابور. كانت المشاعر مختلطة بين الحماس الشديد والذى يشبه حماس اقتناص طفل لآخر قطعة حلوى فى العلبة، والحزن والأسى على انتهاء المبادرة. فكما أوضحت لى «مارينا» السبعينية: «كانت هذه المبادرة بالنسبة للعديد من السكان بمثابة طقس شهرى وفرصة لاستكشاف المشهد الثقافى الغنى فى برلين. والآن انتهت». وأضافت «روز» السائحة البرازيلية: «من المحبط أن تكون الثقافة متاحة فقط لمن يستطيعون دفع ثمنها». انتهى الطابور وجاء دورى أخيرًا لدخول المتحف الذى يعتبر منصة لعرض ثقافات الشعوب المختلفة.
متحف ثقافات العالم
يقع متحف ثقافات العالم فى غرب المدينة، ويُعد واحدًا من أبرز المتاحف المتخصصة فى دراسة الثقافات الإنسانية حول العالم، وبتركيز أكبر على الثقافات غير الأوروبية. يتميز المبنى بطراز معمارى فريد يسميه بعض سكان المدينة بالمحار الحامل! تأسس المتحف فى ١٩٥٧، ورأيت بداخله مجموعة هائلة من القطع الأثرية والفنية التى تمثل ثقافات دول من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. تتنوع المعروضات بين الآلات الموسيقية، والقطع الحرفية، والأزياء التقليدية، والوثائق التاريخية. وهذا ما يجعله نافذة واسعة لفهم التراث الإنسانى الغنى. كما يقدم معارض مؤقتة وورش عمل تعليمية تستهدف الجمهور لفهم التقاليد الثقافية من منظور عالمى.
متحف التاريخ الألمانى
ببوابة أسطورية يقف متحف التاريخ الألمانى فى قلب برلين، ويعد من أبرز المؤسسات التى تسلط الضوء على تاريخ ألمانيا الممتد عبر آلاف السنين. يمتد تاريخ إنشاء المبنى إلى العصور الوسطى، مرورًا بعصر النهضة والثورة الصناعية، وصولًا إلى الأحداث الكبرى فى القرن العشرين. ولكنه لم يتحول إلى متحف إلا فى عام ١٩٨٧. من أهم معروضاته مجموعة ثرية من الوثائق التاريخية واللوحات والمجسمات التى تسلط الضوء على التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية فى ألمانيا. يتميز بمعارضه التفاعلية التى تثرى تجربة الزوار، كما يقدم الدور الأرضى بالملحق الجديد فى المتحف برامج تعليمية متنوعة للأطفال. لا يعتبر المتحف فقط مصدرًا للمعلومات التاريخية، بل أيضًا وسيلة لفهم السياقات التى شكلت ألمانيا الحديثة.
المتحف القديم
كنت قد وصلت إلى نهاية يومى بزيارة المتحف القديم الذى يُعد جزءًا من المنطقة التى يسميها البرلينيون «جزيرة المتاحف». وهو موطن لمجموعة رائعة من الفنون والتحف الكلاسيكية التى تعود إلى الحضارات اليونانية والرومانية. يشتهر بمذبح بيرغامون الشهير، وهو مثال فريد على العمارة والنحت الهلنستى. كما يحتوى على مجموعة متنوعة من التماثيل والفخار والمجوهرات. وسعدت بعثورى على عرض لمجموعة «وجوه الفيوم». بالإضافة إلى القطع التى تسلط الضوء على الحياة اليومية فى تلك الحقبة. يتيح للزوار فرصة فريدة لاستكشاف تطور الفن والثقافة الكلاسيكية، ما يجعله وجهة لا غنى عنها لعشاق التاريخ والفن.
خطة الحكومة للتقشف
أنهيت جولتى حول المتاحف قبل السادسة مساء بقليل. فقد كان لدىّ موعد فى السادسة مع «ليزا» صحفية ألمانية تتحدث العربية، وتعمل كمراسلة فى لبنان لنفس الجريدة التى أتدرب بها - TAZ -. تحب ليزا لبنان أكثر من ألمانيا وتشعر بالراحة والاسترخاء فى بيتها اللبنانى هناك أكثر من بيتها هنا فى برلين. أخبرتها عن جولتى اليوم فى المتاحف التى أعلنت عن انتهاء مبادرة دخولها المجانى الشهرى، وفقًا لإجراءات تقشف الحكومة الألمانية. فاجأتنى ليزا بأن التقشف وصل إلى قطاعات أخرى كالمواصلات والنقل وقطاعات ثقافية وخدمات وإغاثات اجتماعية.
خفضت الحكومة الإنفاق على الثقافة بنسبة ١٢٪. وقلصت برامج المسارح الكبرى مثل الأوبرا الألمانية والمسرح الشعبى. كما قللت من تمويل مهرجان برلين السينمائى الدولى بنسبة ٥٠٪. أما على مستوى النقل والمواصلات فتم عمل حزمة من الإجراءات التقشفية مثل إلغاء الاشتراك الشهرى لركوب جميع أنواع المواصلات ذات الـ٢٩ يورو، والذى بلغ عدد المستفيدين منه ٢١٠.٠٠٠ شخص فى شهر أكتوبر الماضى. أيضًا ارتفعت أسعار التذاكر المخفضة التى يستفيد منها ذوو الدخل المحدود من ٩ إلى ١٩ يورو. كذلك تم إلغاء تمويل مشاريع النقل - التى أشرنا إليها فى مقال سابق - مثل شراء الحافلات الكهربائية، وتوسعة خطوط الترام، ودعم نظام تأجير الدراجات. أما فيما يتعلق بمياه الشرب فقد تم تخفيض تمويل إجراءات تنقية المياه!
أما القطاع الذى تأثر بشدة فكان قطاع الخدمات الاجتماعية فقد تم تخفيض تمويل العمل الشبابى وخدمات المشردين التى تسمى بـ«خفض الدعم الإسكانى» بحوالى ١٥٠ مليون يورو، ما سيزيد من أزمة الإسكان فى المدينة. وتأثرت أيضًا قطاعات مهمة مثل الإغاثة من الكوارث والتنبؤ بها وإدارة الأزمات والدفاع المدنى وخدمات الإطفاء. لم ينج من سياسات التقشف هذه سوى قطاعى الشرطة والقضاء.
أما مسك الختام فقد انخفضت ميزانية الإنفاق على التعليم بقيمة ٣٧٠ مليون يورو بإلغاء بناء مدرستين ابتدائيتين جديدتين، وتخفيض دعم مراكز رعاية الأطفال Daycare، وتقليص تمويل خدمات دعم الطلاب بنسبة الثلث.
المتاحف بعد إلغاء المجانية
عدت فى يوم الأحد التالى إلى «متحف ثقافات العالم»، ولم أستطع تجاهل التغير الكبير فى المشهد. بعد زخم الحشود الذى شهده الأحد الماضى آخر أيام المبادرة المجانية. بدت القاعات شبه خاوية وكان الصمت يغلف المكان، وكأن الروح التى كانت تضفيها أقدام الزوار قد غابت. اختفت العائلات التى كانت تملأ المساحات، وتقلصت مجموعات الشباب الذين كانوا يستمتعون بالمعروضات. بدا الأمر وكأن قرار إلغاء الأيام المجانية قد ألقى بظلاله على المتاحف شبه الخاوية فصبغتها بكآبة وبرودة محولة التجربة من احتفالية جماعية إلى نشاط فردى نخبوى. لم يكن النقص فى الزوار مجرد غياب بشرى، بل شهادة على أثر السياسات على المشهد الثقافى والاجتماعى.
فى كتابه الشهير الاستشراق، حاول إدوارد سعيد الإجابة عن هذا السؤال عبر تناوله فكرة تصور الغرب كـ«يوتوبيا» مثالية. حيث إنه يرى فى الغرب تركيزًا على التقدم العلمى والازدهار المادى، بينما يوجد إغفال للمشكلات البنيوية والاجتماعية التى يعانى منها. يرى سعيد أن هذا التصور ليس إلا نتيجة رؤية استشراقية تبالغ فى تمجيد الغرب مقابل تصوير الشرق على أنه متأخر أو بدائى. كما أشار إلى أن الغرب نفسه ملىء بالتناقضات، مثل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، الاستغلال الاقتصادى، والتحديات الاجتماعية والثقافية. وبالتالى، يُحذر سعيد من النظرة الأحادية التى تغفل تعقيد الواقع الأوروبى، داعيًا إلى رؤية أكثر توازنًا ووعيًا بالحقائق المختلفة.