الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

دراسة عمرها 70 عامًا تفتح لنا الباب

معركة الشيخ بخيت.. عبدالمتعال الصعيدى فى مواجهة الشيخ بخيت (ملف)

عبدالمتعال الصعيدى
عبدالمتعال الصعيدى والشيخ بخيت

فى عام 1955 وقبل أيام من شهر رمضان، الذى بدأ 23 أبريل، حمل الشيخ عبدالحميد بخيت، المدرس بالأزهر، مقالًا مطولًا لينشره فى جريدة الجمهورية، لكن المسئولين بها رفضوا النشر، فتوجه به إلى جريدة الأخبار، التى احتفت به وبمقاله ونشرته، لتبدأ واحدة من معارك التفكير الكبرى فى مصر. 

مقال الشيخ بخيت كان عنوانه «إباحة إفطار رمضان وشروطه». 

العنوان لا شىء فيه، فكُتب الفقه لا تعدم حديثًا مطولًا عن الحالات التى يباح فيها الإفطار، لكن الشيخ بخيت قفز بالمجتمع كله إلى مساحة خطرة، فهو لا يتحدث عن الإفطار لمن كان مريضًا أو على سفر كما يفهم عموم الناس، ولكنه- وكما ذهب فى مقاله- يرى أن من يشق عليه الصوم أو يضايقه له أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ومن لم يجد فلا جناح عليه فى أن يفطر ولا يُطعم. 

منح الشيخ بخيت الحق لمن يضايقه الصوم بأى طريقة أن يفطر ويُطعم، وحتى من لا يستطيع أن يُطعم فلا حرج عليه أن يفطر. 

يمكن أن تعتبر هذا مجرد اجتهاد، تتفق معه أو تختلف، لكن ما يشغلنى- ومؤكد أنه سيشغلك- هو الحالة التى خلفها هذا المقال وراءه، لقد وجد المجتمع المصرى نفسه أمام حالة حوار كبرى على هامش معركة فكرية بين الشيخ عبدالحميد بخيت وعلماء الأزهر، وقف فى القلب منها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين. 

بعد أيام من نشر المقال، أصدر الأزهر بيانًا أدان فيه الشيخ بخيت، وأعلن بوضوح عن أن ما كتبه فى مقاله مخالفة صريحة لقوله تعالى «فمن شهد منكم الشهر فليصمه»، وما قاله لا يستند إلى دليل أو حتى شبه دليل، والإجماع على أن تقتصر الرخص فى الإفطار على ما أقرته الشريعة، فهى للمريض والمسافر فقط. 

لم يكتف الأزهر ببيانه، بل قرر إحالة الشيخ بخيت إلى لجنة تحقيق. 

لم يعترض أحد على بيان الأزهر، فهو فى النهاية مواجهة لرأى برأى آخر، لكن الاعتراض كان بعد أن قرر الأزهر إحالة بخيت إلى لجنة تحقيق. 

أبلغ الأزهر الشيخ بخيت بالتحقيق معه بخطاب رسمى، جاء فيه: حضرة السيد المحترم صاحب الفضيلة الشيخ عبدالحميد بخيت، تقرر انعقاد اللجنة المؤلفة للتحقيق العلمى معكم فى تمام الساعة ١٢ ظهر اليوم بمكتب فضيلة السكرتير العام للجامع الأزهر بالإدارة العامة، فعليكم الحضور فى الزمان والمكان المشار إليهما. 

كانت هناك حالة صمت على ما يحدث للشيخ بخيت؛ حتى كتب الدكتور طه حسين فى ٦ يونيو ١٩٥٥ فى جريدة الجمهورية مقاله «حق الخطأ»، وهو المقال الذى طالب فيه شيخ الأزهر وكان وقتها الشيخ عبدالرحمن تاج أن يأتى بهذا الأستاذ- يقصد بخيت- ليعظه وينصح له برفق ويطلب منه الاحتياط قبل أن ينشر على الناس، وألح طه حسين على ضرورة إنهاء هذه القضية التى لا خير فيها لا للأزهر ولا لمصر ولا للإسلام. 

دفاع طه حسين عن الشيخ بخيت، قسم الأزهريين إلى قسمين. 

القسم الأول ومثله غالبية الأزهريين الذين طالبوا برجم الشيخ بخيت أو حرقه حيًا، واكتفى البعض بالمطالبة برفع دعوى للتفريق بينه وبين زوجته لأنه مرتد وزواجه من مسلمة باطل، وذهب بعضهم إلى النيابة وطالبوها بإلقاء القبض عليه لأنه أصبح خطرًا على المجتمع. 

القسم الثانى كان موقفه مشرقًا ومشرفًا، فقد توافق عدد من أعضاء هيئة التدريس بكليات الأزهر على أنه ليس من مصلحة العلم والدين مصادرة الآراء والحريات، وليس من العقل تهديد الباحثين بالمحاكمات والاضطهادات. 

أصدر هؤلاء الأساتذة بيانًا ووقعوا عليه، والمفاجأة أن عددًا من هؤلاء الأساتذة أسسوا حركة أطلقوا عليها «جماعة العلماء الأحرار»، وأعلنوا عن أن هدفهم هو النهوض بالأزهر وإظهار ما فى الإسلام من سماحة وتجديد يتوافقان مع ما فى الحياة من مستجدات. 

ما رأيكم أن نستمع إلى ما قاله أحد أعضاء هذه الحركة «جماعة العلماء الأحرار». 

اسمه الشيخ عبدالحافظ عبدربه، وقال: إن مشيخة الأزهر لم تعد تحترم نفسها، أثارت الزوابع والأعاصير فى وجه أحد كبار العلماء، لا لذنب جناه إلا أنه يقول أيها الناس احترموا عقولكم ولا تحبسوها، مع أن الذى ذكره فضيلة الشيخ بخيت ليس بجديد ولا مفترى على الإسلام، وإنما هو من صميمه وواقعه، ولكن ضيق الأفق واكتناز العقلية الرسمية فى رأس الأزهر والهوى المغرض وشهوة الانتقام، كل هذا دفع إلى ذلك التصرف الفاضح، وكان فى إمكان مشيخة الأزهر والأجدر بها، عقب نشر الحديث، لو كانت تريد مصلحة الدين والمصلحة العامة، أن تجمع أساطين أعوانها وكبار علمائها الرسميين وترد على الحديث بشكل علمى بحت، وينشر ويذاع على العالم الإسلامى يخاطبه بدلًا من المهاترات التى أنزلت من شأن العلماء فى نظر المسلمين. 

ويضيف الشيخ عبدالحافظ: حرية البحث يجب أن تكون مكفولة للجميع، والإسلام فى جميع تشريعاته يؤيد البحث الحر والاجتهاد الصادق. 

لم يكتف الشيخ عبدربه بذلك، بل قال: جماعة العلماء الأحرار، التى أتشرف بعضويتها، تعلنها حربًا شعواء ضد مصادرة العقول التى لم يأذن بها الله، ولو كان التعرض لهذه المصادرة من شيخ الأزهر نفسه، ولو قدمنا إلى المحاكمة، ومرحبًا بالألم فى سبيل العقيدة والمبدأ، فهو وسام شرف أعتز به. 

الشيخ بخيت نفسه أعلن عن موقفه بقوله: أنا أعترض على تشكيل لجنة لمحاسبة الناس على أفكارهم، ولا يمكن أن يقر عقل وجود طبقة تحاسب الناس على ما يرون ويعتقدون، إذ إن هذا ضرب من الكهنوتية التى ناهضها الإسلام وقضى عليها. 

لم يخضع الأزهر، سار فى طريق المحاكمة، ما جعل الشيخ بخيت يقلق، فهو فى النهاية يعمل فى الأزهر، عمله هو مصدر رزقه. 

كانت هناك وساطات من بعض أساتذة الأزهر، كان هناك من يريد ألا يقع الأزهر فى مأزق محاكمة باحث على رأيه، وتوصل الوسطاء بالفعل إلى أن يصدر الشيخ بخيت بيانًا يتراجع فيه عن رأيه بإباحة الإفطار فى رمضان على إطلاقه، فى مقابل أن يعلن شيخ الأزهر عن أنه لن يسحب منه شهادة العالمية. 

وبالفعل قبل ثلاثة أيام من خضوع الشيخ بخيت إلى التحقيق، أرسل بيانًا إلى جريدة الجمهورية يعلن فيه تراجعه، معللًا الأمر بأن هناك أخطاء وقعت فى مقاله بسبب الأخطاء المطبعية والتفسيرات اللغوية، لكن وبعد ساعة واحدة من وصول البيان إلى جريدة الجمهورية تواصل معهم الشيخ بخيت تليفونيًا وطلب عدم نشر البيان. 

بدا الشيخ بخيت أمام الوسطاء وأمام الصحفيين الذين علموا بالبيان رجلًا مترددًا، لكنه فى الغالب لم يكن كذلك، فقد استمع إلى نصيحة محاميه، الذى أقنعه بأن هذا البيان يمكن أن يضر موقفه القانونى ضررًا كبيرًا. 

يوم ١٩ يونيو ١٩٥٥ وقف الشيخ بخيت أمام مجلس التأديب، الذى رأسه الشيخ الحسينى سلطان وكيل الأزهر، وبعد مرافعات وجدل ونقاش، صدر حكم المجلس نصًا بمواخذة الشيخ عبدالحميد بخيت بتنزيله من وظيفة التدريس إلى وظيفة أخرى غير وظائف التدريس وما يتصل بها. 

لجنة التأديب أعلنت عن أن الشيخ بخيت كان يستحق أقصى عقوبة تأديبية، وهى الفصل من وظيفته، إلا أن اللجنة رأت أن تأخذه بالرحمة، خاصة بعد أن أعلن عن تراجعه. 

قبل أن يبدأ التحقيق مع الشيخ بخيت، قال: أشعر بأنى جندى يناضل لتحطيم الوثنية الدينية، لكن فيما يبدو أنه أمام اللجنة تراجع قليلًا عن رأيه وموقفه، ما جعل اللجنة تتعامل معه فى الغالب بالرحمة، فأنزلت وظيفته دون أن تفصله. 

فى الأرشيف الصحفى يمكننا أن نجد تفاصيل هذه المعركة، لكننا لن نجد وثيقة مهمة جدًا، وهى عبارة عن دراسة أصدرها الشيخ عبدالمتعال الصعيدى فى كتيب صغير عنوانه «اجتهاد جديد» فى آية «وعلى الذين يطيقونه»، فقد كان الرأى الذى صاغه الشيخ بخيت عبارة عن تفسير جديد لهذه الآية، فرد عليه الصعيدى باجتهاد جديد. 

قدم الصعيدى لدراسته بقوله: جاء فى قوله تعالى من هذه الآيات «وعلى الذين يطيقونه» قراءات وتأويلات واختلافات ذهب فيها المتقدمون من المفسرين والفقهاء مذاهب شتى، بلبلت الآية وجعلت توجيهها مستغلقًا، إلى أن أتى الشيخ بخيت بمقاله الذى نشره فى جريدة الأخبار، فذهب فيها مذهبًا زادها بلبلة، ولم ينتهز أحد هذه الفرصة لتوجيه الآية توجيهًا جديدًا يليق بأسلوب القرآن، فى وضوح معناه وعدم التوائه وتعقيده، حتى لا يعثر فيها عاثر، ولا يخطئ فيها مخطئ، وكان هذا أهم من الغلو فى أمر الشيخ عبدالحميد بخيت، والإسراف فى التعصب عليه أو له، فرأيت أن أقوم بهذا الواجب فى هذه الرسالة. 

لن أنشر هنا دراسة عبدالمتعال الصعيدى كاملة، ولكنى سأكتفى بنشر أجزاء منها تساعدنا فى تكوين صورة كاملة عن هذه المعركة الفكرية، التى كانت نموذجًا كاشفًا للمجتمع، فلدينا من يجتهد ولدينا من يريد أن يحجر على التفكير، ولدينا مجتهدون مجددون يعرفون قيمة الدين، فما كتبه الصعيدى لم يكن موافقًا لما قاله بخيت، بحث ودرس وقدم اجتهادًا جديدًا، لكن للأسف الشديد فإن الأصوات العاقلة تتوه منا فى الزحام.

اقرأ في الملف:

الشيخ بخيت وعبد المتعال الصعيدي.. قراءات وتأويلات واختلافات في آية "وعلى الذين يطيقونه"

طه حسين يدافع عن الشيخ بخيت ويكتب: حق الخطأ

 معركة الشيخ بخيت.. عبدالمتعال الصعيدى يعقب: الورطة التى وضع طه حسين نفسه فيها