حمدي عبدين يكتب: بُؤسَاء فى مَدِينةٍ مغضوب عليها
نظرتُ فى المرآةِ فوجدتُ أنها ما زالت تعمل
كخفاشٍ فى ساحة البيت
ارتدت جثمانها الفضفاض
ثم أزالت طلاء حوائطها الرخامية
وتمددت على الأريكة
صارتْ هاتفًا محمولًا
تارةً تُسْمَعُ كتنبيهاتٍ متلاحقةٍ لرسائل من مجهول
وتارة تمرق فى اتجاه الشرفة ربما تستعيدُ بالهواء المتجدد عنفوان صوت يحتضر
وحين تعود تسيلُ على أرضية الصالة فيديوهات عن القبلةِ الطائشةِ
وكيفية التَحولِ لعنكبوت بأنياب حادة
وأساليب تَحَولِ حارسى العقارات لأغنياء حرب
قالت لعشيقها الذى يتوسد نهديها:
كان عليك أن توسع الطريق إلى البيت فى غيبة عساكر المرور
أن تضعَ أمنية على الأقل فى المزهريات التى صارت بلا عقل
أريد أن أجهز لسهرة المساء محشى ورق العنب الذى تحبه
لكن مساحة المطبخ لا تسمح لك بالدوران حول كوكب الزهرة
سوف تفقد الكثيرَ
لو استمرتْ هذه الحالةُ
من قدرتِكَ على المجىء من بعيد
ما رأيك لو تعلمت طريقة جديدة فى تهديد الفراغ؟
عندما قرروا الرحيل
حملوا أغنياتهم المستعملة على أكتافهم
مروا من الثقوب التى يعرفونها فى جدران أرواحهم
كانت ظهورهم المحدبة الحزينة التى عطلت حركة القوافل
دليلهم الذى قادهم فى رحلتهم التى بلا نعوش
قال أحدهم وهو يفتش فى فراغه البعيد لحبيبته الميتة:
اندلاع حريق هائل فى روحى
لا يتطلب منك سوى همسة فى ظلام القبور
أما أنا فسوف أظل خلف سواتر التراب أبحث عن نظرة
سقطت فى ميدان
وأنت تهمِّين بى
أخشى أن تدوسها أقدام العميان
ويبكون
أنت تعرفين أنهم يتامى
لا يستسلمون أبدًا أمام أوجاعنا
لكنهم هذه المرة سوف تهزمهم رياح أوهامهم
وتدفعهم تلويحات الأيادى المكلومة للتعلق بملابس من يهرولون هربًا من الجحيم
يموتُ الموسيقىُ فى غفلةٍ مِن جماهيرِه المُتَعَطِشةِ للغِنَاء
لكن تبقى آلاتُه التى شَهِدَتْ الجريمة
الناىُ بأنغامِه الحزينة
والكمانُ وهو يُحاكِى كيف جَز السيفُ رأسَ صَاحِبِه.
لَسْنَا كَهَنَةً حَتَّى تَسْتَغْفِروا لَنَا
رَغْمًا عَنْكُمْ
ولَسْنَا قَادَةً فاتحين نَقْتلُكُم فى المَيَادِين
ونَبْكِى فى أَسِرَّةِ زَوْجَاتِنا
لأنْكُم تَكَاسَلْتُم عَن اسْتِقْبالِنا بالرَّايات
والأصْواتِ المَبْحُوحَة
كما أننا- وهذا للعلم- لَسْنا بَاعةً جَائلينَ نَهْربُ مِنْ أصْواتِنا فى الشَّوارعِ
ومِنْ بَضَائع فاسدةٍ أصَابَها الضَجِيجُ بالْوَهَن
كُلُّ ما فى المَوضُوعِ أنَّناَ نمَرُ كُّلَّ يَومٍ مِنْ أمَامِ أيَّامِنا
ونَضْحَكُ
مَنْ الذى جَاء بِنَا إلى هُنَا؟
مَنْ جَعَلَنَا بُؤسَاءَ مَدِينةٍ مغضوبٍ عليها لِهَذا الحَد
نُسَاقُ بَيْنَ حِينٍ وآخر لمُشَاهدةِ حَفلاتِ الرَّقصِ
فى المَيَادِينِ العَامَة
عَلَّنَا نَتَّعِظ
عَلَّنَا نَقُولُ لِمُمَثلٍ عَثَرَ على حَبِيبَتِه مَقْتُولةً فى نَهايةِ الفِيلم:
- لا تَبْكِ
الأيادى المَمْدودةُ دائمًا أقَلُ مِن عَناقيدِ العِنَب
والحَياةُ مُحْتاجَةٌ حَتَّى تَكُونَ أكثرَ إنْسَانيةً
لأشْخَاصٍ مِثْلِكَ يَبْكونَ هَكَذا على زَوجَاتِهم
أمَامَ الملايين
تَحْتاجُ لِنسَاء يُهاتِفْنَ أزواجَهُنَّ مِنَ العالم الآخَر
دُون أن يَكْتَنفهُنَّ أىُ شعور بالخَجَل
من شَواهدِ قُبورهِنَّ أو حُراس الجَبَّانَات
لَكِنْ مَنْ الذى كَشَفَ عَنَاوينَ بيوتِنا أمامَ شَواطئِ الهَواتِفِ المحْمُولة!
ومَن الذى يَدْفَعُنا كُلَّ يومٍ للشُربِ مِنْ مياهِ حِكَايَاتِه الآسِنَة!
ويَقولُ إنَّه كُلَّمَا الْتَقَىَ بأصْدِقائهِ مِنْ المَلائكةِ يُبلِّغَهُم تَحَيَّاتِنا
فيُصَلون عَلَيْنَا!
سَأحَكِى لَكُمْ عَنْ صَديقِى حَارسِ البَارات
مُنْذُ عَامٍ أو أقَلَّ بِقَلِيلٍ بَلَغَ طَابَقَ عُمْرِه الثمانين
مِنْ يَومِها وهُو مَشْغُولٌ
يُنِادِى على امْرأةٍ اسْمها فَريدةَ خَانَتْهُ مع جِذعِ شَجَرةٍ كَانا يَلْتَقِيان تَحْتَ رِعَايَتِها فى حَدِيقةِ الأُورمَان
قَالتْ لِصَديقَتِها وَهِى تَشْكو نَحِيبَه
لا أعْرِفُ مَا الَّذِى أصَابَه
رُبَّما كَانَ يُحبُّنى
وقد يَكونُ عَادَ لِتَربيةِ عَصافِير أوهَامِه مِنْ جَدِيد
ثُمَّ إنَّنِى لَمْ أتَوقَعْ أنْ تَفْتِنَ علينا شَارة لا عَمَلَ لها سِوى مُخَاطَبة الأقْدَام
مُنْذُ سَاعاتٍ قَليلةٍ وَقَعَتْ عَلَيه عَيْناى صُدْفةً
وهُو يُراقصُ حَبِيبَةً لَمْ أتَبَيْنْ مَلامِحَها
وكادا يَسْقُطَان مَعًا فى سَاحَةِ المُوسِيقَى
كَانَتْ أشْباحٌ مُسْتهْترةٌ تُداعِبُهما
وكانا يَخْشَيانِ أنْ تُمْسِكَهُما مَنْ كوَاحِلْهِما فَتَتَعَطل شَرائطُ الأمْنِيات
نَظَرَ إلى أسْفلَ فَوجَدَ أنْ رَفِيقَتَه قَصِيرةٌ
وأنَّ عَيْنَيها البُنيتينِ تَحْتويانِ على بِئْرين عَمِيقَتين مِنْ النبيذ الرَخِيص
وأنها تُعانى مِنْ آثارِ انْكِسَاراتٍ خَفيفةٍ
كَانتْ تَرْمِشُ بَيْنَ لحْظَةٍ وأخْرَى وهى تُحَركُ قَدَمَيها
وتَسْعَى جَاهدةً للمُحافَظَةِ على مَسَافةٍ مُلائمةٍ
بَيْنَ نَهْدَيها وطُموحاتِ رَفِيقِها المفْتونِ
بحلْبِ زُجَاجَاتِ خَمْرٍ دَائمًا مَا يَتْركُها زَبائِنُه على الطَّاولاتِ
تَعْتقدُ أنَّ لحْظَتَهما العَصِيبةَ سَوفَ تَتَأخَرُ
حتى يَصِلَ ناقِرو الدُفُوفِ ويُشْعِلوا النِّيران
عِنْدَها سَوْفَ يَرْتَبِكُ العازفون
ويَدْخُلُ صَديقى حَارسُ الباراتِ فى بُكَاء مَكْشُوف
ويُبَلِلُ بابْتِساماتِه نَهْدَيها المُكَبلين بالأصْفاد
وفى هَذه اللَحْظَة
وكأنه صَارَ بَدِينًا على غَيْرِ ما كان قَبْلَ دُخولِه حَلْبَةَ الرَّقْصِ
سَيَبْدُو فَرِحًا على خِلافِ عاداتِه
وسَيُدْرِكُ أنَّ والدَيْه اللذين ماتا مُنْذُ سَنواتٍ طَويلَةٍ
جاءا يُباركانِ لحْظَتَهُ الأخِيرة.