العارفات بالله.. روحى أنثى صوفية (1).. هل تحررت المرأة في الفكر الصوفي؟
فى الوقت الذى تتعاطى فيه بعض التيارات الدينية مع المرأة باعتبارها مرادفًا للغواية و«عورة» تستوجب الستر بـ«أوراق التوت» شكلًا وصوتًا.. تنعكس هذه الصورة بإلحاح شديد فى الخطاب الصوفى، وتفرض نفسها عبر ﻧﻈﺮة ﺟﺪﻳﺪة عابرة للجسد لا تضفى إلى ﺣﺪ ﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﻛﻴﻨﻮﻧﺘﻬﺎ ﻃﺎﺑﻌًﺎ إيجابيًا، ﺑﻞ وﺗﻌﺘبرﻫﺎ رﻣﺰًا ﻣﻦ رﻣﻮز المقدس.
وتنكشف حلة المرأة فى المكتوب الصوفى بأنس وتقدير تقترن فيه الأنوثة بالإجلال، حيث تتجلى فى بيوت صوفية كونها الأخت والزوجة والأم وبصحبة مقامات روحية بصفتهن السائحات الزاهدات وقليل فى التجمعات كعالمة وقائدة أو كممثل لشيخ الطريقة.
لقد منح التدين الصوفى المرأة مكانة متفردة مقارنة بأنساق التدين الأخرى، فنحن لسنا أمام نموذج واحد للسيدة الصوفية فى سعيها الروحى، إنما بصدد حلقات موصولة بإحكام دون فجوات تجمعهن قواسم مشتركة حتى وإن تباينت الأنماط وآيات التجلى، إذ إن طبيعة التكوين العاطفى للمرأة تجعل تجربتها بالنسيج المتصوف أكثر عمقًا وحساسية.
لقد تقاطعت الخطابات الصوفية مع كل ما تشتهيه الأيديولوجيه النسوية التى وجدت بها أرضية مريحة تعزز حريتها دون مزايدات دينية، حيث أسهمت إيجابية وضع المرأة فى المتخيل الصوفى بشكل عام، ورفع شأن الأنوثة وقيمها، ضمن سياق إشكاليات جدلية لا تزال قائمة بوقتنا الراهن فى اجتذاب العديد من السيدات والناشطات فى مجال الحياة العامة إلى محراب العارفين، حتى وإن اقتصر الأمر فى بعض الحالات على ما يعرف بالتصوف العاطفى.
إذ يشهد للفكر الصوفى فى أنه نجح بامتياز فى رفع الحصار عن النساء، وفكّ أسرهنّ الاجتماعى، من خلال نظرته التى تبدو أكثر تحررًا مقارنة بالمدارس التقليدية فى العديد من القضايا التى تتعلق بالمرأة وطرق بقوة أبواب الأمل لديهن فى التصالح مع أنفسهن ومع المجتمع، حيث شكل مادة ثرية ومرجعية للنسويات لتقوية خطابهن وإضفاء الشرعية الدينية عليه، بعيدًا عن كل محاولات تسطيحها، من خلال تأويل النصوص على نحو يتجاهل كونها قضية اجتماعية فى الأساس، تضعها دائمًا فى حيز مقارنة مع الرجل لتنهى المطاف بتنصيب الأخير فى مقام الوصى عليها.
وأخرجت نزعات التسامح بالطرح العرفانى المرأة من ضيق الرؤية إلى آفاق أوسع من الحرية الشخصية، وكان مدعاة للرفق بها لا لإقصائها، وإلى جانب منحها مساحة أرحب فى التزين والاختلاط والعمل أتاح لها فضاءات السفر دون محرم والإمامة فى الصلاة وحتى «القطبية» والإفتاء والقضاء الشرعى، وهو ما يتوافق مع جل النساء بمن فيهن السلفيات واللاتى وإن استسلمن من الناحية الشكلية الظاهرية بالزى الشرعى والنمط التقليدى بيد أنهن يرفضن داخليًا خطابات التهميش والإقصاء باسم الدين.
الفهم الصوفى لآية الحجاب جاء على أحسن وجه، وبدا منهجهم التحليلى للنص القرآنى هو الأعمق بين كل المدارس الإسلامية، إذ انفردت الصوفية بنظرة مغايرة لقضية الحجاب، فهو ليس مقدسًا بالمعنى المعهود، وبعض السيدات الصوفيات يكتفين بالحشمة دون التقيد بالشكل التقليدى، ومن محض رغبة المرأة لا بإرادة ذكر من أبيها أو زوجها وغيرهما، ولم ينظروا إلى الحجاب من باب جزئى متمثل فى مجرد سترة الرأس، ولا يجدن حرجًا فى الإفصاح عن أنهن لا يهتممن كثيرًا بمسألة اللباس بقدر اهتمامهن بتحسين سلوكهن نحو خالقهن؛ لأن تغطية الجسد من الرأس إلى أخمص القدمين لا تعنى التحقق التام بالإسلام، ولا طهارة النفس التى تعتبر المحور الأساس للتصوف.
تحيز الشيخ الأكبر لكل ما هو أنثوى أفرز تفسيرًا ثوريًا حول المعنى الباطنى لتغطية رأس المرأة، ويذهب ابن عربى إلى أن حجاب الرأس يحيل إلى تغطية ما فى النفس البشرية من حب الرياسة والملك، إذ أُمرت النفس أن تغطى رأسها أى تستر رياستها، فلهذا أمرت النفس المملوكة أن تغطى رأسها فى الصلاة، واقترن الحجاب فى ظاهر الكلام بالنساء، لأن النفس تدل على الأنوثة فى كل إنسان، ومن ثم فإن القول الخاص بـ«حجاب المرأة» يخاطب نفوس الرجال والنساء الذين يحبون الظهور والغلبة والملك، وتستعبدهم الرياسة، فيحثهم الخطاب الإلهى على تغطية حب الرياسة، فالنفس التى تحب مقامها ومقام ربها، ولا تطلب الرياسة على غيرها تحتجب بتواضعها، وبهذا فإن الآية الخاصة بحجاب النساء توجه فى حقيقتها إلى نفوس غالبية الرجال لتقاتلهم من أجل السلطة والظهور والقهر، إذ يأمرهم الله بتغطية ما بنفوسهم من حب الملك والسلطة، ومطامنة كبريائهم، وطلب حجاب العبودية.
إذًا الرجل يتشارك إنسانيًا مع المرأة فى قيمة الحشمة، فهى وفقًا لمنظورهم لا تقتصر على النساء، ويقول ابن عربى: أما مذهبنا فليست العورة فى المرأة أيضًا إلا السوءتين، كما قال تعالى «وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» فسوّى بين آدام وحواء فى ستر السوءتين، وهما العورتان، كما يؤكد ابن عربى «فلو كان الستر لها أصلًا لما قيل لها فى الإحرام لا تسترى وجهك»، ولعل هذا ما يفسر ضعف انتشار النقاب بين المتصوفات حد بلوغ العدم.
وتستقوى الحركات النسائية أيضًا بما ورد عن إمام المحققين حول إجازة إمامة المرأة فى الصلاة، وكان يرى أن دليل ما ينص على حرمة ذلك لا وجود له، وأعطى للمرأة مكانة النفس والرجل مكانة العقل، ويرى أنه يجوز للعقل اتباع النفس حتى لا تتبع الهوى.. فقد ذهب إلى أن كل ما صح أن ينال الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لنظيره من النساء.
أما على صعيد الحياة العامة فقد سبح الفكر الصوفى وسط رياح معاكسة خلقت للمتصوفات عالمًا خاصًا غير مشابه لعوالم النساء فى مجتمعهن، فالمرأة الصوفية حاضرة بقوة فى الموالد وليالى الذكر والحضرة، ومباح لها الاختلاط بالرجال استنادًا إلى أن الاختلاط واقع فى الطواف بالكعبة ولم يمنع أو يحرم، وهو ما ذهب إليه السيد أحمد البدوى، يضاف إلى ذلك وقائع من السيرة النبوية كانت فيها تشهد الجماعة والجمعة فى مسجد الرسول وتؤدى الصلاة بنفس المسجد وتدخل والرجال من نفس الباب.
وتبدو الأضرحة التى شيدت لتخليد ذكراها المقدسة شاهدة على حضور المرأة وتحررها سياسيًّا واجتماعيًّا فى الحقل الصوفى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نموذج السيدة نفيسة التى اجتمع إلى جوار العبادة التواصل مع رموز المجتمع، كما فعلت مع الإمام الشافعى حين ورد الديار المصرية، كما أنه لما توفى أمرت بجنازته فأدخلت عليها فصلّت عليه، هذا إلى جانب القيام بدور المعارضة السياسية حين استغاث بها الناس من ظلم أحمد بن طولون وتوجهوا إليها يشكونه، فكتبت رقعة تؤنبه فيها بشدة وتحذره من عاقبة الظالمين ووقفت بها فى طريقه.
لعل انفراد خطاب المرأة فى الدائرة الصوفية بمنسوب فائق من الحيوية وقدرته على خلق آفاق تبقى موصولة بالراهن والمعاش هو ما جعل منه مادة ثرية للنسويات لتقوية خطابهن وإضفاء الشرعية الدينية عليه.