العارفات بالله.. روحى أنثى صوفية (2).. الصياغة الأنثوية للوجود بالطرح العرفانى
«نور الروح لا يذكر ولا يؤنث».. تلخص تلك الجملة، التى جاءت على لسان سيدة متوصفة، صورة الأنثى فى التراث الصوفى والذى ارتقى بها فوق مصاف التنصيف الفسيولوجى للذكر والأنثى بشكل ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺸﺮﻳﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺑﻞ بمقامات ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ، ففى فضاءات الروح يسقط النوع وتتلاشى كل الفوارق البيولوجية.
لقد انتصر الطرح العرفانى للمرأة عبر قراءة عميقة تنسجم مع حقيقتها ووظيفتها الوجودية وتجعلها الأقرب إلى الممارسة الصوفية، إذ أن الأنثى بفطرتها تطغى عليها العاطفة ويغلبها الشعور ولأن جوهر التجربة الصوفية يتعلق بالقلب الذى يستقبل إرهاصات النور الآلهى، كانت المرأة هى الكائن الأقرب بطبيعته لهذه الحالة بكل طقوسها الروحية، ولعل هذا ما يفسر ما حظيت به المراة فى الوجدان الصوفى على مدار التاريخ مقارنة بالرجل، فقد ظهرت عبر أروقته كونها الأسبق فى إدراك المعانى السامية ومن ثم، الترقى معرفيًا وسلوكيا لتبلغ مرتبة التعليم والإرشاد للرجال، كما هو الحال بين رابعة العدوية وسفيان الثورى، والذى كان يجلس بين يديها ويقول لها: «علمينا مما أفادك الله من طرائف الحكمة» وفاطمة بنت عباس التى اعتلت المنبر لتعظ الناس فى عصر ابن تيمية، إذ يروى فى الأثر «أن فاطمة كانت تصعد المنبر وتعظ الناس، قال ابن تيمية: بقى فى نفسى منها شىء لكونها تصعد المنبر، فأردت أنهاها عنه، فنمتُ، فرأيت المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فقال: هذه المرأة صالحة».
وجاءت الصياغة الأنثوية للوجود بما تحمله من دلالات معتقة برياح العشق الإلهى والخيال الصوفى لتحدث ثورة بالنظرة النمطية للمرأة وترفع كل زيغ شَابَ حقيقتها من قبل حراس المدرسة التقليدية، فقد أرتأت النظرة الصوفية أن روح العاشق/ النفس يجب أن تكون روح امرأة، وليس روح رجل، مهما كان جنس العارف/ المريد فسيولوجيًا، فالروح الأنثى هى الأقرب إلى حالة العشق الإلهى، ولذلك كان العديد من متصوفة الهند يرتدون زىّ النساء، فى إشارة عرفانية إلى سيرهم فى طريق البحث عن العشق الإلهى! فالأنوثة من وجهة نظرهم هى أقدس تجلّ يمكن أن يُرى فيه الله وانعكست الفكرة فى كلام جلال الدين الرومى عن «الروح الأنثوية للوجود» فى قوله: «إنها امرأة حبلى تحمل فى بطنها اللغز الذى يزداد عمقًا مع كل خطوة».
ويكافئ الصبغة الأنثوية للروح مصطلح صوفى آخر هو «رجال الله» يتخطى حاجز النوع وكون المنعوت به ذكرًا أم أنثى! والمقصود به أن كل من يسلك رحلة البحث عن الله بقوة وصبر متحملًا أوجاع الطريق وآلام العشق فهو «رجل»! وقد قال الخاقانى، وهو من متصوفة فارس: إن المرأة إذا اتجهت إلى الله لا تُعرف بعدُ بامرأة، ولكن بـ«رجل الله».
كما أن النظرة لمسألة الكمال الإنسانى وما يلحقها من أفضلية الرجل على المرأة انتصرت للأنثى دومًا فى النص الصوفى، فالكمال الإنسانى ليس حكرًا على الرجل ويكون بتحصيل العلم والكتابة، لأنه فى النص الصوفى أقر للمرأة بلوغها تلك المرتبة بل والأكثر من ذلك فقد توصل إلى أفضلية مكانة المرأة على مكانة الرجل لجمعها مرتبتى الانفعال والفعل، وفى ذلك كتب ابن عربى فى رسالته عقلة المستوفز، باب «الكمال الإنسانى»: (كلامنا إذًا فى صورة الكامل من الرجال والنساء. فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى؛ والذكورية والأنوثية إنما هما عَرَضان، ليستا من حقائق الإنسانية).
لم يفرق الصوفية بين الرجل والمرأة لأن كليهما يمثلان المخلوق الإنسانى الذى طلب منه الفناء فى خالقه تعبديًا، وما من داع للتفريق بينها على أساس الذكورة والأنوثة وفق تأويلات لمفاهيم دينية تم توظيفها لأغراض أرضية؛ فمفهوم «الدرجة» المذكور فى القرآن الكريم لا يؤدى إلى إلغاء حقيقة كل من المرأة والرجل.
وهنا نجد ابن عربى الذى يعد يقول: اعلم أيّدك الله أن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانية»، ففضل الرجل بالأكملية، لا بالكمالية.