الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العارفات بالله.. روحى أنثى صوفية (3).. الظهور الأعظم لله.. كيف رد الفكر الصوفى الاعتبار للمرأة؟

أنثى صوفية
أنثى صوفية

 

«فى البدء كانت الأنثى» تجسد الجملة بدقة متناهية لذة الاعتراف الصوفى بالحضور الكرنفالى للمرأة، فعلى الرغم من تعدد صورها بالمتخيل الصوفى ما بين كونها المظهر الأعلى للحياة بل هى مبدأ الحياة الإنسانية والانحياز تارة لصورتها الوجودية باعتبارها تكثيفًا للجمال الكونى والخبرة الأولى التى لا بد أن يتأسس عليها «العشق الإلهى»، بيد أن ثمة إجماعًا لدى «أهل الله» على تعالق جميع القيم لتشكيل الجمال الأنثوى، إذ أن حواء لديهم معبر للتسامى والتواصل.

لقد آمنت الرؤيا الصوفية بكل ألوان الحب ثم آلفت بين وجهى عملة الأنثى الفيزيائى والإنسانى، لتفرز تجربة خاصة تأنقت فى جنباتها جمالية الروح وتخطت النظرة النمطية للمرأة بالمدارس الفقهية التقليدية، فهى لديهم جسر للعبور نحو عوالم أخرى وفضاءات مغايرة.

والجمال الأنثوى بالعرف الصوفى هو مرآة ينعكس على صفحتها الجمال الإلهى، فإذا كانت الأسماء والصفات الإلهية هى تجليات لعدة معانٍ للجمال الإلهى، والذى ينعكس بالمحسوس فى مستوى العالم الإنسانى، فإن المرأة من أجمل صور تجليات الجمال والكمال الإلهى، وفى ذلك يقول ابن عربى «إنه إذا كانت كل الكائنات هى ظهور من مظاهر الله، وكان الإنسان هو الظهور العظيم، فإن المرأة هى الظهور الأعظم لله».

نظرية التجلى الإلهى انعكست فى التأويل الصوفى لقصة عشق امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، والذى هو، وفق رؤية عبدالقادر الجزائرى، مظهر من مظاهر الجمال الإلهى الذى هامت به امرأة العزيز ودخلت به مقام الهم وهو الحيرة فى فعل الأمر أو تركه.

يقول الله تعالى: «ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» «يوسف: ٢٤»، أما همّه بها فهو أن أحبها حبًا إلهيًا من حيث قوة حضرة الانفعال للمرأة التى بها ظهرت حضرة الفعل، فهمّها به وانفعالها عندما تكشف لها حضرة الفعل فى صورة يوسف وهمّه بها إدراكه لتلك المرتبة والحضرة المختصة بها المرأة، وبما أنه لا وجود لكامل إلا ومن صفاته حب النساء، فيوسف أحب امرأة العزيز كما حُبب لنبينا محمد الكامل، صلى الله عليه وسلم، النساء، ومن هذا المشهد أدرك يوسف عليه السلام سر هذا الحب فأحبها لذلك دون الإفصاح، لأن البوح بحبه قد يقويها لنيل مقصودها، وهو من عباد الله المخلصين الذين صُرف عنهم الهم بالسوء.

والحقيقة أن المرأة فى حضرة ابن عربى تحظى بمكانة متفردة عبرت التأويلات الجامدة للنصوص باعتبارها أقل قيمة أو مكانة من الرجل، ثم توهجت فى أفكاره الفلسفية التى أعلت من شأنها، وتنبه الرجل إلى مدى أهميتها فى حياته، يقول ابن عربى: «وليس فى العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجِد العالم وبأى حركة أوجده الحق تعالى».

مغامرة الخطاب الصوفى فى تجربة ابن عربى بلغت منتهاها كما يقول نصر حامد أبوزيد فى الإلحاح على أن «الحب الإنسانى» هو الخبرة الأولى التى لا بد أن يتأسس عليها «الحب الإلهى» وأن «حب النساء» يعد من صفات الكمال الإنسانى، مرتكزًا فى ذلك على أحاديث نبوية منها قوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: «حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عينى فى الصلاة»، وبالتالى فإن الاتصال بها هو اتصال بسر الألوهية، فتكون الأنثى فى هذه الحالة أداة من خلالها ينتقل وعى الإنسان من الإنسانى الأرضى إلى الوجودى السماوى.

وأما الحنين فإنه يفسر بالوجدان الصوفى على أنه حبل سرى موصول بذات الروح العطشى للاكتمال لكونها الجزء المفتقد من الإنسان الكامل، فحواء خلقت من ضلع آدم أى أنه حنين الكل للجزء وحنوّ المرأة على الرجل لكونها خلقت من الضلع، رادين بذلك الاعتبار للجسد الأنثوى وليرتقوا به من ضيق المتعة الأحادية للرجل إلى مصاف العلاقة التبادلية التى تبلغ حد الافتتان والعبادة الروحية.

ويعتبر الباحث عبدالحق منصف أن الذكورة والأنوثة «لا يكونان ماهيتين منفصلتين عن بعضهما البعض فى التصور الصوفى خلافًا للكتابات الفقهية، إنهما فقط عنصران لجسد واحد هو الجسد الأصلى، جسد آدم الإنسان الكامل الذى خلق فى البداية، ثم حدث انفصام أولى داخل نفس الجسد فانشطر إلى عنصرين: عنصر الذكورة وعنصر الأنوثة».

إذن يمكن الجزم بأن الاحتفاء الصوفى بالمرأة تبلور بشكل أعمق وأشمل فى إعلاء قيمة الجسد الأنثوى وفى نظرته للعلاقة الجنسية كفعل مركب يجمع بين العناصر التى تشدُّ الإنسان إلى الله والطبيعة وإلى مبدأيهما «الحياة والحب»، فقد ارتقى منظرو الصوفية بالعلاقة الحسية ورفوعها إلى مرتبة الاتحاد، والتى هى أرفع منزلة يصل إليه المتصوف فى جهاده الروحى.

وعلى خلاف شيوخ الصوفى الذين اكتفوا بالتلميح للعلاقة الجسدية كابن الفارض تعرض له ابن عربى على نحو مفصل، إذ يعتبرها «فعلًا إلهيًا» مبتغاه خلق الأجساد لحمل الأرواح التى هى جميعًا من روح الله، حيث يقول: ما كَمُل الوجود ولا المعرفة إلا بالعالم، ولا ظهر العالم إلا عن هذا التوجه الإلهى على شيئية أعيان الممكنات بطريق المحبة للكمال الوجودى فى الأعيان والمعارف، وهى حال تشبه النكاح للتوالد، فكان النكاح أصلًا فى الأشياء كلها، فله الإحاطة والفضل والتقدم.

ويذهب الشيخ الأكبر إلى أبعد من ذلك حيث يعتبر الاتصال بجسدها والالتصاق به هو اتصال بسر الألوهية، وحب هذا الجسد عبادة تُجدِّد العلاقة بالله، إذ يؤكد «شهود الحق فى النساء أعظم الشهود وأكمله وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهى على من خلقه على صورته وكما جعل الله النكاح عبادة للسر الإلهى، فقد كانت المرأة باعتباره محتضنًا لفعل النكاح عتبة أولى وأساسية لمعانقة هذا السر».

إن الرؤية الصوفية للمرأة تمثل تجربة روحية عميقة توجه العاشق الصوفى فى مساره التعبدى، وتدفع نحو إعادة النظر فى مسألة الأنوثة بمسحتها الكلاسكية المتعارف عليها، والتى قد تختزلها فى عناصر بيولوجية محددة، لذا فإن ما أفرزه الطرح العرفانى هو بمثابة رد اعتبار لذات الأنثى وكينونتها.