العارفات بالله.. روحى أنثى صوفية (5).. نساء الشيخ الأكبر.. أسباب انحياز ابن عربى لكل ما هو أنثوى
لم تحظ المرأة فى الفكر الإسلامى بمثل ما حظيت به عند ابن عربى، فقد أعلى الشيخ من مكانتها ولم يكتفِ بكونها مساوية للرجل، بل وفضلها عليه فى بعض المواطن، وبقدر ما أثارت تأويلاته للنصوص الدينية فيما يتعلق بالمرأة الجدل فقد فتحت ذات الوقت شهية التكهنات حول أسباب انحيازه الفكرى لكل ما هو أنثوى.
وبعيدًا عن السياق المكانى وتواجده فى الأندلس مع مجرى الحياة الاجتماعية هناك والتى سمحت للمرأة أن تتعلم وتعمل وتشارك الرجال فى طريق الزهد والتصوف، فإن الباحث فى تاريخه سيجد أن ثمة بواعث شخصية أسست لمنهجه الروحانى المبتكر، إذ تبدو النكهة الأنثوية فى فلسفة ابن عربى وليدة بواعث شخصية ترتبط بعلاقته بالجنس الآخر، وذلك على الرغم من اعترافه فى كتابه «الفتوحات المكية» بأنه كان يكره النساء والجماع وأى شىء يتصل بالجنس فى بداية دخوله المسار الصوفى ولمدة ١٨ عامًا، ولم يتزوج حتى بلغ الثلاثة والثلاثين.
اللبنة الأولى فى التحول الفكرى المثير لدى الشيخ تشكلت مع لقائه بفاطمة القرطبية، وكان حينها شابًا فى العشرين من عمره يلتمس طريقه على خطى السالكين، حيث قال فى كتابه «الفتوحات المكية»: «خدمتُ أنا بنفسى امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبى، خدمتها سنين وهى تزيد فى وقت خدمتى إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحى أن أنظر إلى وجهها وهى فى هذه السن من حمرة خديها وحسن نعمتها وجمالها تحسبها بنت أربع عشرة سنة من نعمتها ولطافتها».
طبعت القرطبية بصماتها على شخص ابن عربى وكان لها أكبر الأثر فى ترقيق طباعه وتهذيبها وتحوله من الانغلاق والعصبية إلى منهج التصوف المرن، إذ يقول: «كانت- فاطمة القرطبية- تضرب بالدف وتفرح، فكنت أقول لها فى ذلك فتقول لى إنى أفرح به حيث اعتنى بى وجعلنى من أوليائه واصطنعنى لنفسه».
نهل ابن عربى من علوم وزهد فاطمة واستمرت العلاقة بينهما لسنوات حتى غادر الأندلس إلى المغرب العربى، وكانت بمثابة الأم الروحية التى أنارت له ظلمات الروح «كانت تقول لى: أنا أمك الإلهية، ونور أمك الترابية، وإذا جاءت والدتى إلى زيارتها تقول لها: يا نور، هذا ولدى، وهو أبوك، فبرّيه ولا تعقّيه».
يقول ابن عربى: «فما زلت أخدمها بنفسى، وبنيت لها بيتًا من قصب بيدى على قدر قامتها، فما زالت فيه حتى توفيت».
ثانية الشيخات فى حياة سلطان العارفين، هى شمس، أم الفقراء، التقاها عام ٥٩٨ هـ، فى مكة أثناء أدائه فريضة الحج، إذ كانت من كبار الأساتذة هناك، ووصفها بأنها «جارية قسيم الدولة»، مملوكة سيدنا أمير المؤمنين، يقول ابن عربى: لم أرَ أحدًا من الرجال كان يقدر على ما تقدر عليه من العبادة وهى من أكابر المجتهدات كانت حاكمة على وهمها، كثيرة الوصال فى الصوم، على كبر سنها أدركتها وهى فى عشر الثمانين سنة، كانت تتكلم على الخواطر، صحيحة المكاشفة وإذا خرجت للسياحة تخاطبها الجبال والأحجار والشجر: مرحبًا، مرحبًا! وكانت قوية الحال، خديمة لأهل الله».
ومع أن كتب ابن عربى تبدو حافلة بإشارات عن شيخات لعبن أدوارهن بامتياز فى تشكيل فكره وآرائه الفلسفية منهن زينب القلعية، وكانت من أهل كتاب الله، زاهدة وقتها، وكانت ذات حسن وجمال وثروة، تركت الدنيا عن قدرة، وجاورت مكة، شرفها الله تعالى، علاوة على أم الزهراء التى كانت من المجتهدات فى طريق الله تعالى.
بيد أن حبات مسبحة الشيخ بالعارفات اكتملت مع فخر النساء أخت الشيخ مكين الأصفهانى، وأعُجب كثيرًا بمعارفها الواسعة، فلقبها بـ«فخر الرجال والعلماء»، ويذكر أنه أراد أن يتتلمذ على يديها لكنها اعتذرت لكبر سنها، ورغبتها فى قضاء البقية الباقية من عمرها فى العبادة، ومع ذلك، فقد أذنت فخر النساء لأخيها أن يكتب لابن عربى نيابةً عنها إجازة فى جميع روايتها، فاستفاد من معارفها.
سر الشيخ الأكبر وانطلاق طاقته الروحية الكامنة والكاملة نحو الأنثى كانت مع نظام بنت الشيخ أبى شجاع بن رستم الأصفهانى أو قرة العين كما أطلق عليها فى كتبه، وكانت السبب فى نظرته بأن «الحب الإنسانى» هو الخبرة الأولى التى لا بد أن يتأسس عليها «الحب الإلهى» وأن «حب النساء» يعد من صفات الكمال الإنسانى.
حيث يذكر أنه كان يطوف بالكعبة ذات يوم، ثم حضرته بعض الأبيات الشعرية فتلاها بصوت مرتفع، عندها حدثته قرة العين وناقشته فى تلك الأبيات، وقدمت له تفسيرًا جديدًا لمعانيها، فانبهر مما رأى وسمع، وعرف أنه عثر على أستاذة جديدة ينبغى عليه الاستفادة من حكمتها.
ولأن دقات القلوب لها مشيئة لم يتوقف الأمر عند حد الأستاذية، فعلى الرغم من أن الشيخ كان متزوجًا قبلها الأولى مريم بنت محمد بن عبدون، ولكنه لم يتحدّث عنها بمثل ما تحدّث عن نظام، ولكن يبدو من خلال حديثه عنها أنها كانت أيضًا من أهل التصوّف، والثانية فاطمة بنت أمير الحرمين يونس بن يوسف حيث ذكرها مرّة واحدة فى آخر الفتوحات المكية، وهى التى أنجبت له أكبر أولاده محمد ولقبّه عماد الدين، وهو الذى أهدى إليه النسخة الأولى من «الفتوحات المكية»، كما ذكر فى آخر النسخة الثانية منها.
وتذهب بعض الروايات إلى أن الشيخ محيى الدين قد تزوج أيضًا أرملة صاحبه مجد الدين إسحق حتى يتسنّى له تربية ابنها صدر الدين القونوى، الذى أصبح من الشيوخ الكبار ومن المحتمل أيضًا أن تكون هى التى ولدت له سعد الدين، علاوة على زواجه فى دمشق من إحدى بنات القاضى محيى الدين ابن الزكى.
غير أن سدرة منتهى الروح عند ابن عربى ورحيقها المختوم لم تبلغها سوى «نظام»، فقد انفردت من بين كل نساء الشيخ بمفردات الحب والعشق والهوى، وربط بين حبه لها من جهة وأشواقه الإلهية العرفانية من زاوية أخرى وكانت أحد دوافعه إلى الإمعان فيها، وهو ما يمكن رصده فى ديوانه «ترجمان الأشواق» فكتب فى مقدمة الديوان: فكل اسم أذكره فى هذا الجزء فعنها أكنّى، وكل دار أندبها فدارها أعنى.
احتفاء ابن عربى بحالة الحب لنظام وإدخالها حيز المعلن من خلال «ترجمان الأشواق» أثارت ضجة كبيرة دفعت منتقديه من الفقهاء إلى التشنيع عليه، مما اضطره فيما بعد لكتابة كتاب آخر؛ شرحًا له؛ هو كتاب «ذخائر الأعلاق فى شرح ترجمان الأشواق» للتأكيد على أن كلَّ ما يذكره من أسماء ومديح وغزل فى هذا الكتاب إنما هو إشارة إلى معانٍ إلهية رفيعة.
ربما كان الأثر الحقيقى الباقى من قصة الحب الخالدة هى ذاك الفيض الأبدىّ بفلسفة الشيخ الأكبر وتصوراته التى تحيز فيها للصياغة الأنثوية للوجود، فجاء خطابه مزيجًا رائقًا من بين ما هو طبيعى وإلهى أو كما يقول ابن عربى نفسه «أدين بدين الحب أنى توجهت.. ركائبه فالحب دينى وإيمانى».