العارفات بالله.. روحى أنثى صوفية (6).. التصوف النسوى فى الغرب.. القوى الناعمة للتيار
ثمة جاذبية خاصة بالتيار الصوفى جعلته عابرًا لحدوده الجغرافية وممرًا مريحًا لدخول الغربيين فى الإسلام، إذ تخلق الصوفية قوتها وحضورها الفريد هناك من طبيعة ممارساتها وخطاباتها التى تتسم بنوع من المرونة الانتقائية والانتفاح الروحى على الآخر.
فقد أظهرت دراسة لجامعة ييل الأمريكية، أن ثلثى مناطق العالم وصلها الإسلام عن طريق المتصوفة والنتيجة تؤكدها الباحثة الأمريكية جيزيلا ويب: «الصوفية هم الناقلون -للإسلام إلى مناطق أبعد من الشرق الأوسط، وفى سياق التقليد نفسه ما زال المتصوفة يواصلون هذا الدور فى أمريكا. إذ يبدو أن هناك اهتمامًا متزايدًا بالتصوف فى الغرب عمومًا بوصفه سلوكًا نفسيًّا وروحيًّا انعكس بطبيعة الحال على السيدات، واستطاع أن يستقطب ويقنع العديد من الغربيات بخوض التجربة الإسلامية من المنظور الصوفى».
الاختراق الصوفى الأول لأوروبا كان نسويًا من خلال شخصية رابعة العدوية والتى دخلت إلى الثقافة الغربية فى أواخر القرن الثالث عشر بواسطة جوانفيل مستشار لويس الرابع عشر وقام المثقف فابريكوس من جامعة روستوك سنة ١٦٣٨م بترجمة إحدى قصائد الصوفى المصرى عمر بن الفارض، كما أسهمت ترجمات الشعر الفارسى لجلال الدين الرومى وابن عربى وغيرهم فى انتشار أوسع لأدبيات التصوف فى أوروبا والولايات المتحدة خلال القرن العشرين.
التثوير الروحى الذى يمارسه الفكر الصوفى ببراعة خلق له فضاءات رحبة بين النسويات الغربيات اللاتى وجدن به بديلًا ملائمًا للتخلص من المادية التى قد نشأن فيها، فقد أمدهن بالطاقة الروحية والخبرة لإحداث تغيير فى حياتهن وربما التصالح مع المجتمع من أرضية الرؤية القادرة على صنع التغيير الناعم دون فرض قيود تتعلق بشكل اللباس الخارجى أو اختلاط الرجال بالنساء.
إذ ترى بعض المتصوفات الغربيات فى الحجاب رمزًا للثقافات المحلية فى العالم الإسلامى، ولا يرتبط البتة بالوصفات الدينية، ولكن بالتقاليد الثقافية وقد حاولت الباحثة مارتا دومينغيز دياز التفاعل مع هذا السياق، بالإشارة إلى أن اللباس السائد بين متصوفات الطريقة البودشيشية فى أوروبا هو الجلباب المغربى، وبخاصة أثناء اجتماعات الذِّكْر، على الرغم من أن الألبسة الضيقة تستعمل أيضًا من طرف هؤلاء النسوة، إلا أنها لا تصل إلى درجة الإثارة الجنسية.
حدائق التصوف النسوى أثمرت فى أوروبا وأمريكا ظاهرة غربية محضة وهى «المشيخة النسائية»، حيث انفردت العديد من الناشطات فى الحقل الصوفى بمنصب الزعامة وظهرت العديد من المنظمات النسائية الصوفية الحريصة على تقديم مفهوم التصوف إلى جمهور أوسع من خلال الفعاليات التى تنظمها القائمات عليها أو عبر دور نشر للكتب الصوفية خاصة والإسلامية بوجه عام.
والواقع أن هذا الحضور النسائى اللافت والمتفرد فى الأوساط الغربية يضرب بجذوره فى أعماق التاريخ، إذ يعود إلى ١٩٢٠ حين عين حضرة عنايات خان، امرأة خليفة له فى الغرب، وبخاصة على أمريكا الشمالية؛ وهى ربيعة مارتن والتى قامت بدورها بتعيين إيفى دوس لخلافتها على شئون التنظيم الصوفى العالمى لعنايات خان عام ١٩٤٨.
وتعد كاميل هاميلتون آدامز هلمينسكى من أشهر الناشطات بالحقل الصوف وتتزعم الطريقة المولوية فى أمريكا، حيث تدير مؤسسة ثريشود فى كاليفورنيا، وهى منظمة روحية ترتكز على التعاليم المولوية وحاصلة على الدكتوراه الفخرية فى اللغة العربية من جامعة دمشق.
وفى عملها لأكثر من ٤٠ عامًا ضمن التقليد الصوفى المولوى، ساعدت فى زيادة الوعى بالمساهمة المتكاملة للمرأة فى المسار الروحى للإسلام وأسهمت فى جلب العديد من النصوص الكلاسيكية للتقليد الصوفى إلى اللغة الإنجليزية، بما فى ذلك تعاليم جلال الدين الرومى وشمس التبريزى، وهى أول امرأة تترجم جزءًا كبيرًا من مؤلفات الصوفية والقرآن إلى اللغة الإنجليزية، كما أسهمت بمختارات من الكتابات عن الطبيعة والشخصية لمنهج جديد للتربية الإسلامية ومن أشهر كتبها «نساء التصوف: الكنز المستور»، إضافة إلى ترجمتها للعديد من أشعار الطريقة المولوية.
وفى فيلادلفيا تقود الشيخة الباكستانية باجى طبابة خانوم، مجموعة صغيرة تضم مسلمين أمريكيّين ومهاجرين معًا من الجنسين، تُنسب إلى الصوفى المغربى الكبير أحمد بن إدريس (ت ١٨٣٧) وتقر باجى أنها وارثة الطريقة الإدريسية الرشيدية إلى جانب طرق صوفية أخرى مثل الجشتية والقادرية، بيد أن تركيزها فى تعاليمها على الاستمداد من القرآن الكريم والحديث النبوى يجعلها أكثر التصاقًا بالإدريسية.
وتقر الشيخة باجى أنها كانت أثناء حياتها فى مدينة بنجابى، وقبل قدومها إلى الولايات المتحدة، «تلقّن الذِّكر»-بإذن شيخها- لجميع المريدين دون أى اعتبار النوع ذكرًا أو أنثى واستمرت على ذلك لمدة ١٢ عامًا.
وبعد وفاة الشيخة انتقلت إلى الولايات المتحدة للعيش مع أختها واستقطبت عددًا من المريدين من الذكور والإناث لجلسات الذكر الخاصة بها من بين المواظبين على حضور حلقات الذكر الخاصة بها الشاعر الأمريكى المسلم دانيال مور وزوجته.
أما أول زعيمة روحية نسائية فى الطريقة الجراحيّة الهلفتية التركية الأصل التى نشأت منذ أكثر من ٣٠٠ عام هى الشيخة فرحة فاطمة الجراحى والتى ترأس فرعًا نشيطًا للطريقة فى نيويورك.
وقد وصلت الطريقة الجراحيّة الهلفتية الولايات المتحدة فى أواخر سبعينيات القرن الماضى من خلال الشيخ الإسطنبولى مظفر أوزاك، لكن بعد وفاته انشطرت طريقته فى أمريكا إلى فرعين: فرع معروف باسم «عشقى- جراحى» تتزعمه الشيخة فرحة فاطمة الجراحى وآخر ينشط فى منطقة بيى فى سان فرانسيسكو تحت زعامة: روبيرت فراجر.
الشيخة مريم كبير فايى، واحدة من أهم الناشاطات فى الحقل الصوفى فى الغرب، من أشهر كتبها: «رحلة عبر عشرة آلاف حجاب: كيمياء التحول على الطريقة الصوفيةى، ولدت فى هوليوود بكاليفورنيا من عائلة يهودية ليبرالية، تقول عن نفسها:
«ولدتُ فى هوليوود من أسرة يهودية، وأصبحتُ ممثلةً فى سن الخامسة، وظللتُ أُمارِس التمثيلَ لمدة عشرين عامًا عندما كان عمرى ١٢ سنة، وبينما أنا أعمل ممثلة لشركة المسرح فى سان فرناندو فالى أعطانى مساعد المدير لفيفة من الورق البردى، صنعها من أجلى، مكتوبًا عليها: (ابحثى والحقيقة ستجعلك حرة) هذه الرسالة أصابت روحى بصدمة كهربائية، وأوحت لى بشكل واضح تجاه حياتى والهدف منها». تواصل قصة تحولها إلى الإسلام وعثورها على مرشدها الروحى الأول، قائلة: «ذهبتُ إلى بيركلى سنة ١٩٦٠م ومنها توجهت إلى الهند والنيبال ومختلف الدول فى أوروبا، بعدها توجهت إلى القدس والخليل، وهناك بعيد ضريح الخليل إبراهيم بخمس دقائق، التقيتُ مرشدى الصوفى الأولَ، كان رجلًا مهيبًا ومقدسًا جدًّا، وفى قدسية ذاك اللقاء اعتنقت الإسلام بطريقة أكثر طبيعية وجمالية»، منذ ذلك الحين والشيخة مريم كبير فايى تعمل بجد على نشر تعاليم الإسلام الصوفية فى صفوف الغربيين عامة، كما أنها تدرس القرآن الكريم واللغة العربية فى أمريكا وفى غيرها من بلدان إفريقيا السوداء.
وتقود أيضًا الدكتورة ناهد أنغا وهى ابنة شيخ صوفى حركة صوفية تعرف بـ«الجمعية الدولية للتصوف» وتتوخى تشكيل شبكة دولية للنساء الصوفيات، تحت اسم: المنظمة النسائية الصوفية.
كذلك الباحثة الأمريكية الإيرانية «للاه باخيتيار» التى ترتبط بمجموعة من الطرق الصوفية كالنقشبندية والجراحية الهلفيتية، وتدير دارًا لنشر الكتب الصوفية خاصة والإسلامية عامة.