الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

دييجو.. الشهير بفارس الحريف

الزعيم وماردونا
الزعيم وماردونا

«بطريقة ما، لن تتنامى ذاكرة جديدة لطفل ميت، طفل لم يشهد حيواته السبع، لخلق ذاكرة منسية، تدفن معه.. ربما، سيحصل على ذاكرة أبويه، أمه لا تملك ذاكرة، ذاكرتها التهمها ظل قبر ما، لا تتذكره، ربما قبر الطفل نفسه، ذلك السارق ذاكرتها بهدوء الموتى. 

أبوه ذاكرته لم تتغير، حتى إضافة مشهد موت الطفل لن يضاف إليها، سيتخيله محض كرة تهب الأرض ذاكرتها وهيئتها.

كانت أمه تقول «إن العالم أصله كرة ركلها طفل مفقود، فتكونت الأرحام، هكذا دون سائل ذكرى».

لا أحب كرة القدم قدر حبى لمارادونا، مهما قطن كوخًا مع عائلة ترتوى التهميش، وتتكأ على الحب، يشبه جابرييل جارسيا ماركيز، يتفنن فى التمرد ببوهيمية خاصة، يلعب بأسلوب الشارع، يغضب ويتمرد بغضب الهامش، يفعل ما يحلو له كأى فاقد للجدوى..

الموتى محتاجين ذاكرة بديلة لذاكرتهم الحزينة، ذاكرتهم اللى انتهت ورافقتهم لقبرهم من غير الإحساس بانتصار، زى مدينتهم، فى رابط بين المدينة وسكانها، الاتنين مجرد هامش، بيعدوا على الأرض زى الظل، مش بيلتفت لهم حد.. مارادونا كان البطل الشعبى بتصوره الخام، بطل شبه العوام بيجيب لوحده الانتصار ويفرح الناس، بيشيل سيفه ويحارب جيوش ومش معه غير الهتاف، بس قبل ده إيه اللى يخلى لاعب بيلعب فى واحد من أهم أندية العالم، نادى برشلونة الإسبانى، يسيب النادى؟

الأرجنتينى دييجو مارادونا بيحاكى الهامش، متمرد زيه، فاجومى مش بيهمه حد ولا الأنظمة الرأسمالية، اللى بتكون سبب إنهاء مسيرته سنة ١٩٩٤ فى حكاية لها مكانها وذاكرتها، دائمًا بينحاز الأسطورة الأرجنتينية للهامش، فى الوقت اللى كان فيه كل الأنظمة الغربية الكبرى بتدعم إسرائيل قال مارادونا فى تصريح صحفى إنه بيدعم فلسطين، وفى الوقت اللى نابولى فيه كان حيهبط لدورى الدرجة التانية بإيطاليا اختار مارادونا المدينة اللى بلعته، وخلقت له حياة جديدة، حمته من قبر ما، قبر البعد عن ذاكرته.. من أسباب اختيار مارادونا لفريق نابولى بعد رحيله من برشلونة كان إنه حس شوارعها شبه شوارع الأرجنتين، شبه المناطق الساكنة قدام كوخه، المناطق المليانة تعرجات ساعدته يتحكم فى الكورة، ويعانى صعوبة الحياة.. ترك مارادونا برشلونة، نتيجة لمشادة كبيرة قادها مارادونا فى نهائى كأس الملك الإسبانى سنة ١٩٨٣ بعد تدخل عنيف من مدافع الفريق الآخر، اللى كان بيطلق عليه «جزار»، بعد محاولات فاشلة لإيقاف الأرجنتينى، بس ده مكنش السبب الوحيد للمشادة، الإقليم الكتالونى، اللى بينتمى له فريق برشلونة، كان لسه حاصل على حريته من قبضة الاحتلال الملكى، وده زود الحساسية فى الملعب..

الصفحة الثامنة والعشرون من العدد الثالث والعشرين لحرف

فى مكان ما من المدينة اللى أهدت مارادونا ألفة كبيرة وذاكرة بديلة لطفولته بأمريكا الجنوبية، مكان الكل عارفه، الكل بيتوجه له ومعظمهم من سكان جنوب إيطاليا المتوجهين للمكان على وسيلة المواصلات الوحيدة عندهم، أرجلهم. وقف دييجو أرماندو مارادونا، كان عارف حكاية كل اللى قدامه، كلهم شبهه، صوتهم فيه من صوته كتير، قال وقتها جملته الشهيرة «أريد من أطفال نابولى أن يعشقونى؛ لأنهم يذكروننى بنفسى»، كل طفل كان شايف مارادونا فوق، لكنه معهم فى نفس المدينة اللى بتبلع ناسها بأحلام كبيرة تمنوها، أولهم الفوز على يوفينتوس، وثانيهم الحصول على لقب الدورى الإيطالى للمرة الأولى فى التاريخ.

مارادونا لوحده حارب جيوش زى يوفينتوس وإنتر ميلان وقدر يحقق الأمنيتين، فبيكتب أحد سكان الجنوب يافطة فى القبور عليها «لو تعلمون ما فاتكم!»، هنا بيقدر الموتى على الحصول على فرحة جديدة، فرحة يمكن محصلتش لهم فى حياتهم جوه مدينتهم الحزينة زى ذاكرتهم وفريقهم، يمكن بعد تحقيق الأمنيتين دول بيتحول الأرجنتينى لرمز مقدس، الجدران عليها صورته وهو بيلعب لعب الشوارع، والأرض غير المستوية فى أمريكا الجنوبية، ومن المعلومات الغريبة وجود كنيسة لمارادونا، وناس بتعبده، بنعتبر التاريخ الميلادى هو تاريخ ميلاد الأسطورة مارادونا..

بتمرده المعتاد بيكون زى سكان المدينة، قادر يستمتع زى ما هو حابب، زى الأطفال اللى يشبههم مش بيهتم بالتغذية علشان يلعب.. هو بيلعب زيهم، برجل 

ماردونا

شايلة أحلام قبور وحب للشغف الأول، بيتقبض على مارادونا بتهمة تعاطى كميات من مخدر الكوكايين، مش بيهتم ودائمًا بيبان على وشه الضحكة، وكأنه، بشكل ما، بيلعب فى كل لحظة، زى الأطفال اللى يشبههم، اللى دائمًا كانوا مستنيين مارادونا، اللى للأسف لما خرج من السجن كان يشبه لفارس الحريف..

فارس الحريف بطل فيلم «الحريف» بطولة عادل إمام وفردوس عبدالحميد ونجاح الموجى وإخراج محمد خان وتأليف بشير الديك ليختار اللعب مع الخسران، ولكن رغم اختياره ده بيفضل دائمًا تحت قبضة الرأس مالية، رجل عجوز مش أعرج مش بيقدر يلعب كورة، فبيتلاعب بـ«الحريف»، بيستنزفه ويأخد منه المكسب فى الآخر.. 

١٩٩٤ شهدت نسخة كأس العالم بالولايات المتحدة الأمريكية، فى النسخة دى خسرت الأرجنتين من غير نبيها وبطلها الشعبى بنتيجة ٥ أهداف مقابل هدف واحد من كولومبيا، وقتها استدعى رئيس وزراء أمريكا هينرى كيسنجر رئيس اتحاد الفيفا وقال له إنه محتاج نجم يعمل دعايا للنسخة دى من كأس العالم فى أمريكا، وهنا بيستدعوا مارادونا، وبيسمحوا له بتناول قدر من المنشطات، بهدف استعادة لياقته ومستواه قبل مباراة أستراليا، اللى لو خسرتها بطل العالم لعام ١٩٨٦ مش حتصعد لكأس العالم، وبالفعل بيلعب مارادونا ويجيب الانتصار كالعادة، زى ما لقب هدفه فى نهائى كأس العالم ضد إنجلترا فى ٨٦ بـ«يد الإله/ Handof god» زى إله هامش، بيجيب للمستضعفين فى الأرض فرحتهم، حتى لو بالتمرد، واللعب بإيده.. 

الحريف

لكن فيفا بتلاحظ فى ماتش الوداع ضد اليونان، وفى الاحتفالية الشهيرة تعاطيه للمنشطات، فبتقرر إيقافه، لكن ده مش بيوقف يد الإله عن العزف بشغف، بتاريخ قصير وذاكرة طويلة، وموتى ولدوا من جديد على هيئة أطفال، ليشهدوا سبع حيوات، واحدة منها هى حدوتة بطلها متمرد اختار اللعب مع الخسران..

الحادثة دى مش بتكون الوحيدة فى حياة مارادونا اللى بيأثر فيها نظم حكم إمبرالية كبرى؛ ففى السبعينيات من القرن العشرين، لما كان مارادونا متألق مع فريق بوكا جينيورز بتنهار العملة الأرجنتينية أمام الدولار الأمريكى، اللى بيخلى مارادونا يتعرض للبيع بعد عدم قدرة النادى على دفع مرتبه، وبينهك فى مباريات ودية؛ لتمويل وجوده فى الفريق.. كذلك السلطة الأرجنتينية الديكتاتورية ذاتها بتأثر عليه وعلى فنه كلاعب، لما بيفرضوا عليه تأدية الخدمة العسكرية، بس بعدها بيعفوه منها بعد ما بيعرفوا إن مش كل سياساتهم تنفع مع فنان زى دييجو.