فى مواجهة أعداء الحياة
«دمى من دمكم».. كيف أدان توفيق الحكيم جماعة الإخوان بقصته؟
عندما أصدر توفيق الحكيم كتابه «عودة الوعى» الذى يدين فيه عصر الرئيس جمال عبدالناصر تلقفت جماعة الإخوان ما كتبه وبدأت تروّج له، لأنه من وجهة نظرها كان يصب فى مصلحتها، وكانت حجتها فى ذلك أن الحكيم، وهو الكاتب الكبير الذى له ثقل وثقة، كتب فى عبدالناصر ما كتبه، وعندما اتضحت أمامه الرؤية قال فيه كلمة حق.
لم تكن جماعة الإخوان صادقة- كما هى عادتها- وحتى لو افترضنا أن ما قاله توفيق الحكيم فى عصر عبدالناصر كان حقًا، فإنه لم يفعل ذلك لينصر خصوم عبدالناصر عليه، بل كان يكتب شهادته بما يعتقد أنه صحيح، وكانت هذه هى عادة توفيق الحكيم الكاتب والمفكر الذى ملأ الدنيا وشغل الناس طوال حياته المديدة التى امتدت من العام ١٨٨٩ إلى العام ١٩٨٧.
اهتمت الجماعة بفقرات محددة من كتاب توفيق الحكيم «عودة الوعى»، وهى الفقرات التى تقول:
«جعلتنا أجهزة الدعاية الواسعة بطبلها وزمرها وأناشيدها وأغانيها وأفلامها نرى أنفسنا دولة صناعية كبرى ورائدة العالم الثانى فى الإصلاح الزراعى، وأقوى قوة ضاربة فى الشرق الأوسط، وكان وجه الزعيم المعبود وهو يملأ شاشات التليفزيون ويطل علينا من فوق منصات السرادقات وقاعات الاجتماعات، ويحكى لنا الساعات الطوال هذه الحكايات ويشرح لنا كيف كنا وكيف أصبحنا، فلا أحد يناقش أو يراجع أو يصحح أو يعلق، فما كنا نملك إلا أن نصدق».
«كنت أظن أن الشعبية تنبع فقط من القلوب، أو حتى من صور الأمانى والوعود والأوهام والأكاذيب، ولكنى ما كنت أظن حتى تلك اللحظة أنها يمكن أن تصنع وتؤلف تأليفًا وتوزع لها أوراق هتاف كلها نوتة موسيقية للألحان».
«ومع ذلك وهنا العجب، كيف استطاع شخص مثلى أن يرى ذلك ويسمعه، وألا يتأثر كثيرًا بما رأى وسمع، ويظل على شعوره الطيب نحو عبدالناصر أهو فقدان للوعى؟ أهى حالة غريبة من التخدير؟».
اعتقدت الجماعة أنها حصلت على كنز بما كتبه توفيق الحكيم، دون أن تنتبه إلى أن توفيق الحكيم أدانها بقصة قصيرة عنوانها «دمى من دمكم»، كتبها بعد محاولة «الإرهابية» اغتيال جمال عبدالناصر فى المنشية عام ١٩٥٤، واستوحى أحداثها من الواقعة الموثقة باسم الجماعة ومنسوبة إليها، ولن تستطيع أن تتخلص منها أبدًا حتى يوم القيامة.
نشرت «أخبار اليوم» قصة توفيق الحكيم أول مرة فى نوفمبر ١٩٥٤، وهذا هو نصها:
حجرة جلوس بها جهاز راديو مغلق، ومرآة فى الحائط، وقد جلست الزوجة أمام ماكينة خياطة بجوار الراديو تطرز ثوبًا، بينما الزوج منهمك فى حلاقة ذقنه أمام المرآة وهو يغنى... الزوج يمر بآلة الحلاقة على صدغه المطلى بالصابون... ويغنى مترنحًا: يا ظالمنى.. يا ظالمنى.
الزوجة صائحة: أرجوك.. صوتك المزعج للغاية يصدع رأسى.
الزوج: وصوت ماكينتك المطرب للغاية لا يصدع رأسك؟
الزوجة: صوت ماكينتى فيه على الأقل فائدة لا يمكن أن تنكر.
الزوج: باختصار.. تريدين أن أسكت أنا وتغنى ماكينتك؟
الزوجة: أريد فقط أن تبطل هذه العادة السخيفة.. عادة الغناء وأنت تحلق!
الزوج: أيضايقك كثيرًا احتمال سخافتى لمدة خمس دقائق؟
الزوجة: تقصد كل يوم خمس دقائق.. أى كل عام ثلاثين ساعة.. أى مدى حياتنا الزوجية الطويلة إن شاء الله؟... احسب من فضلك.
الزوج: ماذا تقولين؟
الزوجة: امسك الورق والقلم واحسب.. لتعرف كم أنا مظلومة معك.
الزوج: لا.. لا داعى للحساب.. حتى فى هذا نمسك الورق والقلم ونحسب.. ألا يكفينا حساب أول الشهر؟ وهو كذلك يا سيدتى... الامتثال أحسن.. لا لزوم للغناء.. سأحلق على الناشف والأمر لله!
الزوجة: إذا كان لا بد من الغناء وأنت تحلق افتح الراديو.. هل تزعم أيضًا أن صوتك أجمل من صوت مطربى الإذاعة؟
الزوج: معاذ الله.
الزوجة تدير مفتاح جهاز الراديو وتقول: أليس من الحماقة أن تغلق الراديو وتفتح فمك؟
الزوج مستسلمًا: افتحى الراديو.
المذيع يصيح من الجهاز: نحن الآن فى ميدان المنشية.. الجماهير محتشدة لتسمع خطاب الرئيس.. أكثر من ربع مليون نسمة تتطلع إلى المنصة.. الزعيم يتكلم.
الزوجة لا تحرك الماكينة وتصغى باهتمام.
الزعيم يرتفع صوته من جهاز الراديو: أيها المواطنون.
الزوج هامسًا: ارفعى صوت الراديو قليلًا.
الزوجة تدير مفتاح الصوت فيرتفع.
الزعيم فى الراديو: أيها المواطنون... سنتقدم وسنعمل للمبادئ والمثل العليا.. بهذا وحده سنبنى هذا الوطن.. لقد بدأت كفاحى من هذا الميدان.. لقد خرجت مع أبناء الإسكندرية وأنا طالب صغير أنادى بالحرية والكرامة لبلادى من هذا الميدان.. بدأت أكافح مع من كافح من أبنائكم واستشهد من إخوانكم، وها أنا ذا أحتفل فى هذا الميدان بعيد الحرية.. عيد العزة.. عيد الكرامة.
الزوجة تصفق بحركة غير إرادية.
وعندئذ تسمع فى الراديو صوت طلقات نارية.
الزوج مرتاعًا: ما هذا.. ما هذا؟
الزوجة: دوى تصفيق بلا شك.
الزوج: بل دوى انفجار.. دوى رصاص.
الزوجة تحدق فى جهاز الراديو وتقول: غير معقول!
الزوج يصغى بكل أذنيه.
ويقول: اسمعى... اسمعى هذه أصوات هرج فى الناس.. أتسمعين؟
الزوجة وهى تصغى: رصاص؟ رصاص وهو يشيد لمصر بالعزة والكرامة؟.. غير معقول!
الزوج يصغى ويضع سبابته على فمه ويدعو زوجته إلى الإصغاء.
الزعيم صائحًا فى الراديو: أيها الرجال.. أيها الرجال.. فليبق كل فى مكانه.. أيها الأحرار فليبق كل فى مكانه.. أيها الرجال... أيها الأحرار.. دمى فداء لكم.. فليقتلونى.. دمى فداء لمصر.
الزوجة صارخة فى تفجع وذعر: قتلوه؟
الزوج شاحب الوجه لا حراك به.
الزعيم فى الراديو: أيها الرجال.. أيها الأحرار.. أتكلم إليكم بعد أن حاول المغرضون قتلى.. وإذا كنت قد نجوت.
الزوجة فى همس: شكرًا لك يا ربى.
الزعيم فى الراديو: إذا كنت قد نجوت من الموت فذلك لأزيدكم عزة وحرية وكرامة، دمى من دمكم وروحى من روحكم ومشاعرى من مشاعركم... أيها الرجال أيها الأحرار.. إذا عشت فأنا منكم.. وإذا مت فروحى ستبقى بجواركم.. إن حياة مصر ليست معلقة بحياتى.. بل هى معلقة بكم أنتم.. بشجاعتكم أنتم وكفاحكم أنتم.. إن مصر لن تموت.. سيروا نحو المجد.. نحو الحرية.. نحو الكرامة.
الزوجة صائحة هاتفة: هذا رجل يريدون قتله؟ سلمت لمصر.. سلمت لمصر.. إنى أرتجف.. انظر إلى يدى يا زوجى.. إنى أرتجف.. لماذا خرست أنت الآن؟ ماذا دهاك؟ لماذا لا تنطق بشىء؟
الزوج: إنى.. إنى.
الزوجة: ترتجف كل شعرة فيك.. أنت أيضًا.
تلتفت الزوجة إلى صدغه.
وتصيح: يا إلهى.. ما هذا الدم.. هذا الدم فى وجهك؟
الزوج يتحسس وجهه.
ويسألها: أين؟
الزوجة: قطعت وجهك بالموسى وأنت لا تشعر.. انتظر حتى أضمدك.
الزوج يلتفت إلى يد زوجته.
ويسألها: ما هذا الدم؟.. الزوجة وهى تنظر إلى وجه زوجها: فى وجهك؟
الزوج: بل فى يدك أنت.
الزوجة: فى يدى؟
الزوج: تركت إبرة الماكينة تنغرس فى يدك.
الزوجة: لم أشعر.
الزوج: فلنضمد جراحنا معًا إذن.
الزوجة: قطرات من دمنا سالت ولا شك ساعة أن قال.
الزوج: «دمى من دمكم».
الزوجة: أتعرف ماذا جرى لى وأنا أسمعه الساعة يصيح بهذه الكلمة؟
الزوج: اعرف.. لقد حرقت قلبى هذه الكلمة.. ونفذت فى قلبى كأنها رصاصة.
الزوجة: نعم.. نعم.. نعم.
الزوج: إن الرصاص لا يصيب القلوب.. ولكنها الكلمات.
الزوجة: دمى من دمكم.
الزوج: كلمة ستبقى.
الزوجة: فى قلب مصر منذ اليوم.
الزوج: وفى تاريخ مصر.
الزوجة: إلى الأبد.
لو افترضنا أن ما قاله توفيق الحكيم فى عصر عبدالناصر كان حقًا فإنه لم يفعل ذلك لينصر خصوم عبدالناصر عليه بل كان يكتب شهادته بما يعتقد أنه صحيح.