التفكير فى مواجهة التكفير.. الفريضة الغائبة فى مصر الآن
- ما زلت أعيب على الأستاذ وحيد حامد ما فعله فى مسلسله «الجماعة» بجزءيه فرغم وعيه الشديد إلا أنه قدم معالجة خدمت الجماعة
ذات صباح حار وخانق من أواخر أيام شهر يوليو فى العام ٢٠١٣ خرج القيادى الإخوانى جمال حشمت على رأس مظاهرة من قلب اعتصام رابعة العدوية الإرهابى ليطوف بعض الشوارع المحيطة بأرض الاعتصام، تعالت الهتافات المهددة للدولة المصرية، وزاد الحماس المنطلق من حناجر المتظاهرين، فقد شعروا فى لحظة جنونية بأنهم يمكن أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء.
بالقرب من المظاهرة كان أحد القيادات الأمنية يجلس فى مكتبه بالجهاز السيادى القريب من مقر الاعتصام، ولأنه كان يعرف جمال حشمت جيدًا، فقد طلب من أحد مساعديه أن يأتيه بحشمت على الفور.
عندما عرف حشمت باستدعاء القيادة الأمنية لبّى على الفور دون تردد، وهو ما أثار دهشة وتعجب المساعد، فقد كان يتوقع أن يرفض حشمت، أن يعتصم بأنه لا يمكن أن يتحدث مع أحد من قيادات الدولة الذين خرج ليتظاهر ضدهم.
وقف جمال حشمت أمام القيادة الأمنية، الذى سأله: ماذا تريدون؟.. وما هو آخر ما تقومون به؟.. لماذا لا تقومون بفض هذا الاعتصام سلميًا وتعودون إلى بيوتكم؟ فى النهاية لن تكونوا أقوى من الدولة، وقد أثبتت لكم تجارب التاريخ ذلك؟ لماذا تهدرون كل هذا الوقت وأنتم تعرفون أنه بلا فائدة، ولن يعود بالنفع لا عليكم ولا على أحد غيركم؟
توقع القيادة الأمنية أن يرد جمال حشمت عليه بالعقل أو المنطق، لكنه فجأة نزل على ركبتيه ورفع رأسه فى مواجهة القيادة الأمنية وقال له: ضع يدك فى يدى حتى نحرر القدس.. ووقتها يمكن أن تحكم مصر العالم كله، ولن يقف أمامها أحد.
نظر القيادة الأمنية إلى جمال حشمت وهو يشفق عليه تمامًا، فقد أدرك فى هذه اللحظة أنه لا فائدة مع هذه الجماعة ولا مع قياداتها، وتأكد أن العقل لديهم تعطل تمامًا، ومن يجلس أمامه على ركبتيه ليس إلا مغيبًا بالكلية لا يعرف ما الذى يدور حوله، ولا ما الذى ينتظر جماعته إذا أصرت على مواجهة الدولة والوقوف فى وجه الشعب المصرى كله.
انصرف جمال حشمت وهو يعتقد أنه أفحم القيادة الأمنية الذى كان يقف فى صف فض الاعتصام سلميًا. لكنه أيقن أن الجماعة تريد أن تجر الجميع إلى العنف، وأنها لا تعبأ بأرواح أعضائها ولا أرواح المعتصمين معهم، فالمهم عندها أن تصنع مظلومية جديدة تبدأ من جديد فى المتاجرة بها. وكان أن انحاز إلى فض الاعتصام من خلال إنفاذ القانون، وأبلغ بذلك القيادات الأخرى.
وقد تسألنى عن علاقة هذه الواقعة بالتفكير وكونه الفريضة الغائبة فى مصر الآن؟
والإجابة المباشرة التى أقتنع بها تمامًا هى أن جماعة الإخوان التى جنت على مصر فى جوانب كثيرة، كانت لها جناية كبرى، وهى أنها ساهمت بقدر كبير فى تعطيل ملكة التفكير، وعطلت استخدام العقل فى بحث وفحص وتمحيص قضايانا الكبرى، عندما وضعتنا فى مواجهة مباشرة مع الله الذى تدّعى أنها تتحدث باسمه وغيرها لا يفعلون ذلك.
توحدت الجماعة مع ما ادعته من أنها هى الدين، وبالتالى فإن معارضتها معارضة للدين، والخروج على ما تمثله خروج على الدين، وهو ما يستلزم تكفير المعارضين ووضعهم فى خانة مَن يحاربون الدين ويخططون للقضاء عليه، وكانت هذه مغازلة مبتذلة لعقول العامة الذين انحازوا فى أوقات كثيرة لما كانت تردده الجماعة.
لقد ظل الإخوان على قناعة كاملة بأنهم يملكون الحق، وأن غيرهم على باطل كامل، بل كانوا- وربما لا يزالون- على قناعة بأنهم سيعودون مرة أخرى، وساعتها سينتقمون من الجميع، ويجعلون مَن وقفوا ضدهم يدفعون الثمن مضاعفًا.
فى لقائى به فى برنامج «الشاهد» روى لى ثروت الخرباوى تفاصيل لقاء جمعه مع عصام العريان أيام اعتصام رابعة، قال: كان عصام موجودًا فى محل عام، حيث كان يقوم بتغيير شريحة موبايله، وأنا كنت ساكنًا فى مدينة نصر، ورآنى، فسألته: إلى متى ستستمرون فى هذا الاعتصام يا دكتور عصام؟ فرد علىّ: إحنا هنرجع تانى وهنعلقكم على أعواد المشانق، وسيحكم الإسلام مصر.
بهذه الطريقة كانوا يفكرون، لا يمكنك أن تجد أقدامهم على الأرض، بل كانوا محلّقين بعيدًا عن الواقع، لا يرون إلا هدفهم فقط وهو الوصول إلى السلطة، وهو الهدف الذى بذلوا من أجله كل شىء، وابتذلوا فى طريقهم إليه كل وأى شىء.
طوال الوقت وأنا مشغول برصد الأثر الفكرى الذى خلّفته الجماعة الإرهابية على العقل المصرى.
كيف جنت عليه؟
كيف جعلته فى موقف المدافع عن ثوابت الدولة المصرية وعن قواعد الدين الصحيح فى مواجهة محاولات الجماعة تزييف وتزوير كل شىء؟
كيف استنزفته لعقود طويلة فى معارك دائرية لا نكاد نخرج منها إلا ونجد أنفسنا عالقين فيها، نقول نفس الكلام ونعيد نفس العبارات ونرفع نفس الشعارات ونعتمد على نفس التحليلات والتبريرات؟
لقد جعلتنا الجماعة منذ ظهرت فى العام ١٩٢٨، هى والجماعات التى خرجت من رحمها وهى كثيرة، نتحرك فى دائرة مفرغة، ما جعلنا لا نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وكأنه كتب علينا أن نظل أسرى فى سلسلة طويلة ومتكررة ومعادة من الاجترار الذى لا يضيف لنا بل يحذف منّا.
لقد قامت الجماعة منذ ظهورها من سراديب الظلام بتصفية مفكرينا الكبار، لم يسلم منها أحد على الإطلاق، عمدت إلى التشويه المعنوى، وكان هذا هو سلاحها الكبير فى مواجهة مفكرينا وكتابنا وأدبائنا الكبار، وهنا أجدنى أتوقف بتأمل أمام ما قاله أحد المنشقين عن الجماعة، وهو القيادى الإخوانى السابق طارق البشبيشى، وهو من قيادات الجماعة الذين كانوا فاعلين فى محافظة البحيرة.
من بين ما أثبته البشبيشى من اعترافات قوله: فى بداية تعرفى على الإخوان، كان الأخ المُربى يصطحبنى فى بعض مشاويره ويتحدث معى عن مشاهير المفكرين والأدباء، وكان يقول: ألا تعلم بأن طه حسين قد تنصر فى فرنسا، وكانت مهمته المكلف بها من أعداء الإسلام هى تشكيك المسلمين فى دينهم، وتوفيق الحكيم كان ملحدًا، وكان يقول فى بعض حواراته إنه كان يتألم عند سماعه الأذان، والعقاد كان يعقد صالونه الأسبوعى أثناء صلاة الجمعة، ونجيب محفوظ خرج من ملة الإسلام بعد كتابته رواية «أولاد حارتنا»، ومن أجل ذلك منحه أعداء الإسلام جائزة نوبل؟.
كلام طارق البشبيشى يتفق مع سلوك الجماعة وأدبياتها المعلنة.
فقد قاموا باتهام الجميع بما يشينهم ويقلل من قدرهم وينفر الناس منهم، وقد استخدموا فى ذلك كتابهم وصحفهم ووسائطهم الإعلامية، ولا تزال أمامى حملتهم على الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى تصدى لهم قبل ٣٠ يونيو، فقد أعادوا مرة أخرى روايتهم عن إلحاده وحربه الدائمة على الدين.
ففى بدايات يناير ٢٠١٤ كتب أحمد منصور، المذيع بقناة الجزيرة وأحد قيادات الجماعة الإرهابية، على حسابه على «تويتر»: هيكل المرشد الأعلى للانقلاب يفخر بأنه ملحد، وأوصى بحرق جسده بعد موته، لكنه تراجع بعد ضغوط من حوله، ويركز هجومه على الإخوان من منطلق كراهيته للإسلام.
لم يكتفِ الإخوان بالتصفية المعنوية لخصومهم من المفكرين والكتاب والأدباء والمثقفين، بل تصدروا لهم ماديًا وقاموا بإرهابهم فكريًا وباركوا تصفيتهم جسديًا، وهو ما يظهر بوضوح فى موقفهم من اغتيال فرج فودة، ومباركتهم تكفير نصر حامد أبوزيد ودعم قضية تفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس.
هذه الحالة من الإرهاب الفكرى جعلت العقل المقاوم للإخوان مترددًا إلى درجة كبيرة، ولن أقول متخاذلًا، لأنه كانت هناك محاولات كثيرة لتفكيك أفكار الجماعة الأساسية، وإظهار عوارها الدينى والإنسانى، وهو جهد موثق وموجود لكن يحتاج فقط إلى الترويج له بكثافة وإلحاج حتى تقف الأجيال الجديدة على حقيقة هذه الجماعة ومراميها القريبة والبعيدة.
من حق الكتّاب الكبار أن نقف أمامهم بكل التقدير والإجلال لموقفهم الكاشف للإخوان، فكتاباتهم كان لها عامل كبير وتأثير ممتد فى كشف الجماعة، وقد دفعوا جميعًا ثمن مواقفهم، وهو ثمن باهظ بذلوه من سمعتهم وراحتهم واستقرارهم وعلاقتهم بقرائهم، فعلوا ذلك راضين تمامًا، لأنهم كتبوا ما كتبوه عن قناعة كاملة.
لكن ما الذى يقوم به المثقفون الآن؟
هل يتصدون لأفكار الجماعة وسلوكها بالدرجة المطلوبة والتى تتناسب مع جرم الجماعة؟
هل قرروا أن يستكملوا المعركة التى بدأها أسلافهم؟
أعتقد أننا هنا نحتاج إلى وقفة طويلة، فالعقل المصرى الآن متخاذل إلى درجة كبيرة أمام أفكار الجماعة الإرهابية، الجهد المبذول لا يتناسب أبدًا مع ما تريده الجماعة وما تخطط له وما تسعى إليه، وهو كثير ومعقد ومتشعب ومتشابك فى آنٍ واحد.
لقد أذلت الجماعة العقل المصرى، وعطلته بشكل كامل عن ممارسة الفريضة الواجبة عليه وهى التفكير والتفكيك لكل ما تمثله الجماعة. التفكير الذى يجب أن يظل طوال الوقت فى مواجهة التكفير الذى تمارسه الجماعة دخل إلى الثلاجة خلال السنوات الماضية، ففقدنا جانبًا كبيرًا من سلاح المعركة ضد أعداء الحياة والدين، وهو ما يجعل استنهاض هذا العقل ضرورة.
لكن أى استنهاض نريده؟
إننى لا أنكر على من يفضحون الإخوان من بين المنشقين على الجماعة جهدهم وصدقهم وإخلاصهم فيما يفعلون، رغم أن كثيرين لا يزالون يشككون فيهم ربما لأسباب نفسية.
فهم بالفعل ساهموا فى فضح التنظيم وإظهار عواره بشجاعة فائقة، فعلوا ذلك وهم يعرفون جيدًا ما الذى يمكن أن يتعرضوا له، ويمكن هنا أن أذكر لكم على الأقل مائة كتاب صدرت خلال السنوات الأخيرة كافية لهدم الجماعة على رءوس أصحابها.
لكن هذا الجهد وحده ليس كافيًا أبدًا، خاصة أن الجماعة طورت أدواتها، وعمدت إلى تكنيكات كثيرة أربكت العقل المصرى وأرهقته، وراوغته، حتى أصبح حائرًا ومترددًا وغير قادر على المقاومة.
إننى ما زلت أعيب على الأستاذ وحيد حامد ما فعله فى مسلسله «الجماعة» بجزءيه، فرغم وعيه الشديد إلا أنه قدم معالجة خدمت الجماعة.
ولا زلت أذكر ما قاله عصام العريان بعد عرض الجزء الأول من «الجماعة»، عندما أشار إلى أن الأستاذ وحيد حامد قدم خدمة جليلة للجماعة لم يكن أحد من أبنائها يتخيلها أو يحلم بها حتى، بل إن الجماعة كانت توصى بمشاهدة المسلسل فى مشاهدات جماعية، وتقوم بمناقشات مستفيضة لما جاء فيه.
وما زلت أعيب على الأستاذ حمدى قنديل الذى قدم اعتذارًا للإخوان على مشاركته فى تسجيل اعترافات المتورطين فى قضية ٦٥ التى خطط خلالها سيد قطب للاستيلاء على الحكم وتخريب القاهرة واغتيال قيادات الدولة.
صحيح أنه أفاق وعاد ليعتذر للشعب المصرى عن تأييده محمد مرسى ووقوفه خلفه فى مؤتمر «فيرمونت»، لكنه سقط باعتذاره عن عمل وطنى قام به من موقعه الإعلامى عندما كان مذيعًا فى التليفزيون المصرى، وكان ذلك بتأثير غزو الجماعة للعقل المصرى وتوجيهه إلى الوجهة التى تريدها.
لقد سقط كثيرون تحت أقدام الإخوان.
لكن آن لنا أن نفيق ونستفيق، ونتحدث بصراحة وشجاعة، أن نضع العقل المصرى أمام مسئولياته لحماية الدولة المصرية من جماعة لا تعترف بهذه الدولة ولا ترى فيها إلا حفنة من تراب عفن، فليس أمامنا إلا المواجهة التى أصبحت لازمة، نعرف الثمن مجددًا، لكن الحفاظ على الوطن يستحق أى ثمن يمكن أن ندفعه.
هذه دعوة للإفاقة الجماعية.
دعوة للعقل المصرى أن يستعيد عافيته مرة أخرى، أن يقف فى الخندق الذى يجب أن يقف به، أن يواجه محاولات السيطرة على مفاصله، عليه أن يتحرر ويقوم بدوره، أن يمارس الفريضة التى تم تغييبها، وهى فريضة التفكير فى مواجهة كل جماعات التكفير التى أضرت الدين والدنيا معًا.