الخميس 19 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عالم جديد شجاع.. انعكاسات الواقع المعاصر فى رواية ألدوس هكسلى

ألدوس هكسلى
ألدوس هكسلى

أدرك ألدوس هكسلى أن التطور التكنولوجى فى وسائل النقل والاتصالات، التى شهدت ثورة كبيرة فى بداية القرن العشرين، خاصة مع توفرها للعامة نتيجة ابتكارات هنرى فورد فى عالم السيارات، بالإضافة إلى ظهور مدرسة التحليل النفسى لسيجموند فرويد ونظرياته حول التحكم فى السلوك الإنسانى، سيشكلان حجر الزاوية فى تحول المجتمع إلى ديستوبيا غير أخلاقية. رسم هكسلى ملامح هذه الديستوبيا فى روايته «عالم جديد شجاع»، التى نُشرت لأول مرة عام 1932م. تخيل فيها أن تاريخ العالم قد انقسم إلى ما قبل فورد وما بعده، وكأن التكنولوجيا ستكون الدين الجديد الذى يتحكم فى مصائر الناس.

صور هكسلى فى تلك الرواية مجتمعًا مستقبليًا تتحكم فيه التكنولوجيا وعلم النفس فى تشكيل الإنسانية بشكل كامل، حيث تدور أحداث الرواية فى لندن خلال القرن السادس والعشرين. حيث يتم إعادة بناء المجتمع بواسطة نظام دقيق يعتمد على التكنولوجيات المتقدمة فى علم الأحياء، حيث يتم إنتاج نماذج متشابهة من البشر عبر عمليات علمية بيولوجية متطورة ومعقدة بدلًا من التكاثر الطبيعى، تُسمى «عملية بوكانوفسكى»، وهو ما يشبه عمليات الاستنساخ التى ظهرت لاحقًا ثم يتم تكييفهم نفسيًا وجسديًا منذ الولادة ليؤدوا أدوارًا محددة فى المجتمع عبر نظريات فرويد عن التعلم الشرطى.

فى هذا المجتمع الديستوبى، يتم تقسيم المجتمع إلى طبقات صارمة، ولكل طبقة وظائف محددة، ويتم الحفاظ على النظام والاستقرار عبر استخدام مادة مخدرة تُدعى «سوما» تزيل مشاعر القلق والحزن، مما يجعل الفرد أسيرًا لهذا النظام لحاجته المستمرة لهذا المخدر.

تتمثل الشخصيات الرئيسية فى الرواية فى برنارد ماركس، الذى يشعر بالغربة والرفض الداخلى للمجتمع على الرغم من كونه جزءًا منه. يقول برنارد فى أحد المقاطع: «الكل سعيد الآن» لكنه يتساءل بمرارة عما إذا كانت السعادة الحقيقية ممكنة فى عالم خالٍ من الحرية والإرادة الحرة. كما توجد لينينا كراون، التى تمثل العضو النموذجى فى المجتمع والطاعة العمياء للنظام، تعيش حياة خالية من الهموم بسبب اعتمادها الكامل على مخدر «سوما» وتكرارها المستمر للشعارات المجتمعية.

وجون «الوحشى»، الذى وُلد بشكل طبيعى خارج النظام، يُظهر رفضًا قويًا لقيم هذا المجتمع ويمثل العنصر الخارجى الذى يواجه المجتمع المستقبلى بقيمه الإنسانية المختلفة. جلب جون إلى المجتمع المتقدم يكشف عن التناقضات والخلل فى هذا النظام المثالى الظاهر. يقول جون فى حواره مع أحد مصممى المجتمع الكبار، وهو مصطفى موند: «أريد الله، أريد الشعر، أريد الخطر الحقيقى، أريد الحرية، أريد الخير، أريد الخطيئة». هذه الجملة تلخص بشكل قوى رفضه للتخلى عن القيم الإنسانية الأساسية فى مقابل السعادة المزيفة التى يوفرها النظام.

وهكذا تبين الرواية كيف يتم استخدام التكنولوجيا الحديثة ليس فقط لتحسين حياة البشر، ولكن أيضًا للتحكم فى نمط حياتهم من أجل تحقيق استقرار اجتماعى مزيف، وذلك على حساب الحرية الفردية. تطرح الرواية أيضًا تساؤلات حول معنى الحرية الحقيقية فى مجتمع يتم فيه برمجة الأفراد لتقبل أدوارهم المحددة دون تفكير أو اعتراض من خلال فرض ثقافة وسلوكيات محددة على الجميع، مما يؤدى إلى فقدان التنوع الثقافى والفكرى. تُظهر الرواية كذلك أن قيمًا مثل الحب، والأسرة، والفن قد تمت التضحية بها فى سبيل تحقيق سعادة وهمية مصممة سلفًا ومبنية على تخدير الوعى وسلب الإرادة من البشر.

وكثيرًا ما يستشرف المبدعون المستقبل بقدرتهم الفذة على قراءة الواقع. فقد تحققت الكثير من الاكتشافات التى كانت جزءًا من نص أدبى، مثل تنبؤات جول فيرن عن السفر إلى القمر، وجورج أورويل عن استخدام كاميرات المراقبة فى روايته «١٩٨٤»، واستخدام الذكاء الاصطناعى فى رواية «الحديقة الآلية» لرى كرزويل. وفى روايتنا هذه، يقدم لنا هكسلى شكلًا للعالم نجد الكثير من انعكاساته فى الواقع المعاصر. فمن خلال العولمة، انتشرت قيم تضاهى تلك التى صورها هكسلى فى روايته، مثل نشر القيم الاستهلاكية للحفاظ على الاقتصاد والسيطرة على الأفراد. لا سيما ما نراه الآن من استهلاك التكنولوجيا، التى تعتبر ركنًا أساسيًا فى السيطرة على عقول البشر وبرمجتهم منذ الولادة للامتثال لمعايير المجتمع.

فى الرواية، نرى فكرة الإلحاح اليومى لأفكار معينة وترديدها بشكل مستمر أثناء النوم لجعلها راسخة فى وجدان الفرد منذ طفولته. وفى واقعنا المعاصر، تلعب وسائل الإعلام دورًا مهمًا فى الدعاية لقيم معينة وبثها بشكل متكرر فى الأفلام السينمائية وعبر منصات التواصل الاجتماعى، لتبدو وكأنها حقائق غير قابلة للشك، وتوجه الفرد للتعايش معها والاقتناع بها للحصول على القبول الاجتماعى. يبدو «الترند» وجهًا آخر لقولبة الأشخاص وصياغة أفكارهم، حيث الإلحاح اليومى لصور وفيديوهات محددة وترويجها عبر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعى لتوجيه الرأى العام لاتخاذ موقف معين. هذا ما هو إلا تطبيق أكثر حرفية لتقنية الاستنساخ، ولكن عن طريق البرمجة العصبية المبنية على بث ما يراد ترسيخه على مدار فترات طويلة حتى يصبح من المسلمات.

الانعزال والانفصال الاجتماعى هو جانب آخر تعكسه الرواية من خلال تشجيع العلاقات السطحية وتجنب العلاقات العميقة لتعزيز الاستقرار الاجتماعى. هذا الوضع يشابه التحديات التى يواجهها الناس اليوم فى بناء علاقات حقيقية فى العصر الرقمى، حيث تهيمن العلاقات الافتراضية كبديل عن العلاقات الحقيقية، مما يخلق إحساسًا بالوحدة والانفصال العاطفى. يؤدى ذلك كله إلى انتشار المشاكل النفسية، والتى يتم علاجها عن طريق اللجوء للعقاقير كما يحدث فى الرواية.

وبتطور ما يسمى بالذكاء الاصطناعى، تضمحل قدرات الإنسان العقلية التى يقل استخدامها حتى فى مجالات إنسانية بحتة مثل الفكر والثقافة والإبداع والفن، فيما يسمى بأنسنة الآلة وميكنة الإنسان. كما أن هناك مشكلة أخلاقية كبرى تنشأ من تسليم مقاليد الأمور للذكاء الاصطناعى، فقراراته غالبًا ما تخضع لحسابات محددة لا وجود للأخلاق فيها، مما يخلق فى الغالب مجتمعًا ديستوبيًا شبيهًا بما صوره لنا هكسلى عن شكل العالم وكأنه كان ينظر فى مرآة تعكس له الواقع الذى نعيشه الآن.