الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مصطفى عبادة يكتب: ثقب المفتاح لا يرى.. جنة الشعر.. جحيم الحياة

سارة حواس
سارة حواس

- هذا من أنجح الكتب التى صدرت فى الفترة الأخيرة والسبب الأول يكمن فى العفوية والرغبة فى المعرفة

-  تأتى اللوحة والرواية والموسيقى والقصيدة لتؤخر العطب وتجعل من اليأس بابًا للأمل

خلطة ما فى هذا الكتاب هى مزيج بين الأنوثة والألم والأحلام وعذابات الفقد المضنية، فقد النفس وفقد التحقق الإنسانى، خفايا النفس التى تصقل الروح، وتخلق إما وحشًا وإما ملاكًا، وكل الشاعرات هنا هن مزيج من الملائكية والوحدة، واجهن شياطينهن بثبات وإصرار لا يلين، والمدخل الصحيح الذى أحسسته للتعامل مع هذا الكتاب أنه ذو طبيعة مختلفة تهيمن عليه «الأنوثة»، بمعناها الفلسفى «الحيوية» وليس بمدلولها «الإيروتيكى»، كما أنه من زاوية أخرى، يؤشر إلى ميلاد مترجمة أدبية حصيفة، ومن زاوية ثالثة يمكننا أن نسأل عن الدافع وراء هذا الاختيار، وهذا القرار وهو أن تصدر المترجمة كتبًا بعد صمت طويل، وتمكن من اللغة المترجم عنها؟ يعنى: هل صحت «سارة حواس» وقررت أن تترجم لعشرين شاعرة أمريكية، وأن تصدر ترجمتها فى كتاب؟ هل هناك معنى ما وراء هذا العمل: «ثقب المفتاح لا يرى.. مختارات شعرية.. عشرون شاعرة أمريكية حائزات على جائزتى نوبل وبوليترز»، الذى صدرت منه طبعتان حتى الآن عن مؤسسة «بيت الحكمة للثقافة».

إنها بهذه النماذج اختارت رسالتها وهى أن الألم البشرى هو القاسم المشترك الأعظم بين الناس، وأن هؤلاء الشاعرات خير من عبرن عن الروح الأمريكية المنقسمة بين المتعة والعذاب، بين الانغماس والهروب، بين التورط والتوحد، إنها حضارة عاشقة للحياة رغم مرضها وعنفها وانقسامها، وجزء من هذه الرسالة أيضًا أنه لا تخلو نفس من عذاب، إنها رسالة القلوب، وقد تقطَّعت نياطها، فنقلت العطب إلى الروح، فأصابها فيروس اليأس؛ هنا تأتى اللوحة والرواية والموسيقى والقصيدة لتؤخر العطب وتجعل من اليأس بابًا للأمل، فكل الشاعرات اللاتى اختارتهن المترجمة مِتْن بعطب فى القلب، أو الروح، فهُنَّ إما منتحرة كـ سارة تيسديل، التى انتحرت بابتلاع جرعة زائدة من الحبوب، و«آن سيكستون»، وقد ماتت بطريقة غريبة حيث ارتدت معطف والدتها القديم، وخلعت خواتمها، وسكبت كأسًا من الفودكا، وحبست نفسها فى مرآبها، وشغّلت محرك السيارة، وماتت على الفور متسممة لاستنشاقها غاز أحادى أكسيد الكربون، وكذلك «سلفيا بلاش»، التى انتحرت بسبب خيانة زوجها «تيد هيوز»، ثلاث شاعرات من عشرين انتحرن، ومَنْ لم تنتحر ماتت بمرض غريب، أو أصابتها علة روحية قاسية، مثل:

إيمى لويل: نزيف فى المخ- ماريان مور: سكتة دماغية- إدنا سانت ميلاى: سكتة قلبية- ثنائية الجنس ماريا زاتورينسكا: سكتة قلبية.. ثنائية الهوية، روسية- أمريكية، إليزابيث بيشوب، وهذه وحدها كارثة إنسانية متحركة، كان لا بد أن يفيض منها الشعر، على رغمها، فهى يتيمة لأم كانت مجنونة، وعم متحرش، كان يعلقها من شعرها فى شرفة من الطابق الثانى- جويندولين بروكس: سرطان- ليسيل مولر: هاربة من النازية طفلة، ظلت تعانى هذه الصدمة طوال حياتها، وحفرت فى روحها عمقًا.

مارى أوليفر: ماتت بسرطان الغدد الليمفاوية.

شارون أولدز: مأساة تسير على قدمين، وبتعبيرها: جحيم كالفينى، عنف من كل الأنواع، دينى وجنسى واجتماعى: «لن أغرق فيك، كما كانت أمى تغرق فىَّ، شعرا بى أغرق، لن أعرف أحدًا مرة أخرى، كما عرفت أمى، فقد سقطت مداخل الإنسان».

لويز جلوك: أصيبت أوّل شبابها بمرض فقدان الشهية العصبى، ولا أظنها من قسوتها وحياديتها إلا عصابية من طراز خاص.

كلوديا إمرسون: ماتت بالسرطان.

ناتاشا تريثيوى: والدتها قتلت على يد طليقها السابق، وكانت تريثيوى حينذاك فى التاسعة عشرة من عمرها، ومنذ تلك اللحظة شعرت بأنها ستصبح شاعرة، وقالت عن رد فعلها لمقتل والدتها: «كانت تلك اللحظة عندما شعرت بأننى سأصبح شاعرة، واتجهت إلى الشعر لأفهم ما حدث، كذلك كان لديها شرخ فى الهوية، طفلة غير شرعية، أمها أفرو أمريكية، ووالدها كندى، فى وقت يحرّم تزاوج الأجناس.

تريسى. ك. سميث: عانت الفقر والجوع، والتفرقة العنصرية «جائعة طوال اليوم، أذهب مشيًا إلى العمل يوم قبض الراتب»، وهى على صغر سنها، استطاعت نقل مرارات السود، وقسوة تاريخهم، فكأن كل أسلافها من «ألكس هيلى» حتى «جيمس بالدوين» قد تجسدن فيها، إنها شاعرة تحمل تاريخًا وهمًا، وعطبًا دائمًا فى المشاعر، وتوقًا للحرية لا يقاوم.

ثلاث عشرة شاعرة لديهن جروح من نوع ما، يكون مجموع الجريحات ست عشرة من عشرين، بنسبة ثمانين فى المائة من مجموع الشاعرات اللاتى اختارتهن المترجمة، ما يؤكد ما قلته من أن المترجمة لديها رسالة تريد أن تطمئننا بها، وهى أن الألم قسمة غير عادلة بين البشر، فلا تجزع، فلا تخلو روح من معاناة وقسوة، وهو ما يفجر فيها الفن والحنان، ربما هى المصادفة، وربما هى طبيعة الأنثى تضربها الهشاشة ويقويها الضعف، وربما لأن المترجمة ضيَّقت منهج اختيارها، بوصفها لمن اختارتهن بفائزات ببوليتزر، وكان يمكنها أن تكتفى بالفائزات بهذه الجائزة، فخشيت أن تتهم بتجاهل من فازت بنوبل، وهى امرأة مثلهن، أعنى: لويز جلوك، فأضافتها وأضافت «نوبل» فى العنوان، فطال عن المعتاد، وكان يمكنها أن تختار عشرين شاعرة لم يفزن بجوائز، وهنا كانت قماشتها ستتسع أكثر، ما دام اختيارها مقصورًا على النساء، لكنها على أى حال اختارت منهجها والتزمت به التزامًا حديديًا يحسب لها، مع أنه التزام حرمنا من شاعرة مهمة هى: «تانيا ماركول» مثلًا، و«باتى سميث» وغيرهما ممن يستحق شعرهن الوجود فى كتاب كهذا، ولا تندهش من ذكر «باتى سميث»، فى سياق شاعرات مهمات كهؤلاء، فهى شاعرة مهمة قبل أن تكون مغنية، وشريكة «لبوب ديلان»، وهى من تستحق «نوبل» أكثر منه، ويكفى من خارج شعرها العظيم موقفها النبيل من فكرة «النسوية» حين طُلِبت بأن تدافع عن النسوية فقالت: «لكن لدىّ ابنًا»، وأريد المساواة للذكر والأنثى، وهى شاعرة تملك حساسية فائقة، عبرت عن زمنها ولحظتها وأنوثتها، بل المرأة بشكل عام، بشكل يبتعد عن الأفكار النمطية التى تفرق بين الرجل والمرأة.

ثانيًا:

هذا الكتاب فيه سمات الكتاب الأوّل مجتمعة، فيه «الشغف»، مع أننى أكره هذه الكلمة الفاسدة وأفضل عليها «الدّأب»، وفيه الحميمية والحماسة، والرغبة فى قول كل شىء مرة واحدة، وفيه أيضًا الإفراط فى إظهار القدرة والمعرفة، فهذا مثلًا كتاب عن شعر الشاعرات، وليس تأريخًا ونقدًا لهؤلاء الشاعرات، فكيف يكون التقديم مساويًا للقصائد، وأحيانًا يحتل مساحة أكبر منها، فمقدمات القصائد تجاوزت الببليوجرافية، إلى محاولة تقديم لمحة نقدية عن الشاعرة، وأحيانًا محاولة تقديم آرائها، فى الشعر والحياة، حتى أنَّ المترجمة تقول إنها قرأت دراسات نقدية، وحوارات الشاعرات أنفسهن لتكون أكثر خبرة بعوالمهن، مما ورطها أحيانًا فى الوقوع فى العاطفية الشديدة، فتلبست حالة الشاعرات، وهذا أمر مرهق للروح، وفيه إخلاص خارج حدود الموضوعية، وذلك باعترافها هى أيضًا، كما فى ص ١٩٥ و١٩٦ من الكتاب، وهى تتحدث عن «شارون أولدز» الشاعرة التى عاشت مآسى حقيقية، تقول المترجمة:

«فكان من الطبيعى أن أتوحَّد مع الشاعرة، وأتقمص شخصيتها وروحها وإحساسها، وأشعر كأنى أتحدث عن نفسى، ورغم أننى أعتبر هذا التوحُّد فرط إحساس واندماج، فإنه يرهقنى نفسيًا، ويشعرنى بالإجهاد».

وهذا ينقلنا إلى مستوى أعمق للترجمة، يكشف عن روح المترجم «بكسر الجيم»، أكثر مما يكشف عن روح المترجم له «بفتح الجيم»، مع أن سارة حواس استطاعت الكشف عن الروح الأمريكية فى القرن العشرين، وهى روح مرعبة متوحشة، تقدِّس الحياة، مثلما تقدِّس إخفاءها، بالقدر نفسه، وهى روح برغم تناقضها، أضافت الكثير للروح الإنسانية إغناءً وإضافة، وهذه إحدى ميزات هذا الكتاب، فكأن الروح الأمريكية كلٌ بطريقتها، وكأنها أيضًا مثلما كشفت عن كل ذلك، كشفت عن انحيازها وأظهرت طبيعة وجدانها، ونوع الفن الذى تفضله.

القارئ للكتاب يلاحظ ربما مثلما لاحظت غياب الجانب الحسى من قصائد كلها كتبتها نساء، وأظن أن الكابح الأخلاقى هو ما منع ترجمة بعض هذه القصائد، هذه قصائد نسوية غاب عنها الجسد، وحضرت الرومانسية والروحية والإحساس بالطبيعة، والاستغراق فى الآلام البشرية، والتى تبدو أعمق لدى الأنثى، التى هى كما أشارت المترجمة: «لغز»، حين تحدثت عن كتاب «لغز الأنثى»، وأضيف إليها كتاب «حواء.. كيف قادت الروح الأنثوية التطور البشرى عبر عشرين قرنًا» لـ«كات يوهانون»، وهناك أيضًا كتابات «إيف إيلوز» و«إى جين كارول»، وكلها تركز على عمق النظرة الأنثوية وعلاقتها بالألم، وربما هذا ما يفسر لك المصائر المأساوية التى تعرضت لها كل الشاعرات المترجمات فى هذا الكتاب، غابت الحسية إذن بعنفوانها وفلسفتها ودورها، كذلك فى إغناء الروح الإنسانية.

ومن ملامح الكتاب الأول التى تبدت هنا، فضلًا عن أنه كشف عن روح المترجمة غير اختياراتها، ملمح شعورها بالامتنان والوفاء لكل من وقف معها، فكما أن المرء يكتب ليُعْرف، ويترجم ليعرِف، فإنه يريد أوّل ما يريد أن يعرفه المقربون منه، وهذا هو إشباعه الأوّل، فكتبت سارة حواس إهداءين للكتاب، الأول لمن دلها على الطريق الشاعر أحمد الشهاوى، وهو إهداء طويل ٣٥ كلمة، والثانى للأسرة كلها: الأب والأم والأبناء والإخوة، وهو ثلاثة أضعاف الإهداء الأوّل.

يمثل الكتاب- من ناحية أخرى- عينًا سحرية نظرت من خلالها المترجمة إلى عالم شعر المرأة الواسع، كما يشكل رحلة محزونة للإنسانية كما صورتها هؤلاء الشاعرات العشرون، اللاتى بحثن عن الاعتراف والتحقق، وكُنَّ شاهدات على عصرهن وزمنهن وعبر عنه أصدق تعبير.

أخيرًا ربما كان هذا من أنجح الكتب التى صدرت فى الفترة الأخيرة، والسبب الأول فى هذا النجاح يكمن فى العفوية والرغبة الصادقة فى المعرفة، فالمترجمة دخلت عالم الترجمة، وترجمت الشعر تحديًا دون انحيازات مسبقة، لا عن الشعر، ولا عن الترجمة، وبالتالى فإن اختياراتها ليست موجهة، فجاء عملها أشبه بنظرة طائر على الشعر الأمريكى فى القرن العشرين، والربع الأول من القرن الواحد والعشرين.